“في ظل وجود قواتها على الأرض، كانت موسكو عرضة لخطر التوسع التدريجي للمهمة السورية، وهو أمر مألوف جداً لخصمها الأساسي، الولايات المتحدة، التي ما تزال تعاني الويلات من حربي العراق وأفغانستان منذ عهد بوش. وهذا بالتأكيد ما فكرت به إدارة أوباما في ذلك الوقت أيضاً. ولذلك قررت واشنطن أن تنتظر الروس، في الوقت الذي تتفاوض فيه على قواعد منع الاشتباك في ما يتعلق بالمجال الجوي السوري المزدحم بشكل متزايد.
وتبين أن كل هذه التوقعات خاطئة. فبالتزامن مع تحركات الجيش السوري والميليشيات المدعومة من إيران، ساعدت القوات الجوية الروسية نظام الرئيس بشار الأسد في استعادة السيطرة على الجزء الأكبر من البلاد، بما في ذلك ريف دمشق والمناطق التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة في حلب. وظهر فلاديمير بوتين كصانع للقرار في هذا الصراع وكذلك في الشرق الأوسط الكبير، في وقت بدت فيه الولايات المتحدة تتراجع.
ارتفعت أسهم روسيا لدى كل القوى الكبرى في المنطقة، بما في ذلك إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل من دون دفع ثمن باهظ. ويبلغ عدد قتلى الجيش الروسي وكذلك المتعاقدين العسكريين من القطاع الخاص حوالي 200 قتيل. وبطبيعة الحال، كان الذين تحملوا أعلى حصة من التكلفة في معظمهم من المدنيين السوريين الذين استهدفتهم الغارات الجوية الروسية. ومع ذلك، اعتباراً من أوائل العام 2020، تبدو روسيا هي المنتصرة إلى حد كبير في الحرب المدمرة التي شنها بشار الأسد قبل تسع سنوات.
ولكن، بما أن النصر العسكري يبدو الآن وشيكاً، يجب على روسيا أن تتعامل مع مسألة ما سيأتي بعد ذلك. والطريقة التي تتعامل بها مع المواجهة الحالية مع تركيا في إدلب قد تقدم مؤشرات إلى المسار المقبل.
يبدو أن أنقرة وموسكو وصلتا إلى نهاية الطريق. فشراكتهما التي طالما تم التباهي بها والتي تعززت في منتصف العام 2016 عندما طبع بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان العلاقات ووضعا حداً للأزمة الناجمة عن إسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية من طراز سو 24، لم تحقق ما كان متوقعاً في إدلب حتى الآن.
في هذه الآونة، يوفر سلاح الجو الروسي غطاء لهجوم النظام الذي ينتزع السيطرة على منطقة تلو الأخرى من المقاتلين المناهضين للأسد. وكان أحدث نجاح يتمثل في استعادة السيطرة على طريق إم-5 السريع الذي يربط بين دمشق وحلب.
وفي الرد على ذلك، عززت تركيا من وجودها العسكري بنشر حوالي 9.000 جندي مدعومين بأسلحة ثقيلة حول إدلب. وعلاوة على ذلك، منح أردوغان الأسد مهلة حتى نهاية هذا الشهر (غدا) للتراجع إلى الحدود التي حددها هو وبوتين في العام 2018 من أجل منطقة خفض التصعيد حول إدلب. وفي 19 شباط/فبراير، حذر الرئيس التركي من أن الهجوم على الجيش العربي السوري وشيك، ما أثار مخاوف من نشوب اشتباك مع روسيا.
خلاصة القول إنه لا يوجد طرف على استعداد للسماح للوضع بالخروج عن السيطرة. والحل الوسط هو الأفضل لتصعيد محفوف بالمخاطر، على الرغم من أن السؤال هو من سيحصل على ماذا؟
هذه، بلا شك، حيلة تفاوضية. وفيها تمارس تركيا ضغوطا على أمل التوصل إلى اتفاق جديد مع الروس، مما سيسمح لها بحفظ ماء الوجه. وقد فشلت المحادثات الجارية في موسكو حتى الآن في التوصل إلى نتيجة، لكن خلاصة القول إنه لا يوجد طرف على استعداد للسماح للوضع بالخروج عن السيطرة. والحل الوسط هو الأفضل لتصعيد محفوف بالمخاطر، على الرغم من أن السؤال هو من سيحصل على ماذا؟
تصر تركيا على أن اتفاق سوتشي للعام 2018، والحدود التي يحددها، هو الأساس لأي اتفاق جديد. لكن هذه تبقى مجرد محاولة غير أساسية. ثمة احتمال أنه يتعين عليها إقرار انتقال المزيد من الأراضي إلى الأسد، على سبيل المثال طريق إم-4 السريع الذي يمتد بين حلب ومدينة اللاذقية الساحلية. وربما تضغط روسيا على مفاوضيها الأتراك للوفاء بوعدهم بحل “هيئة التحرير الشام”، الميليشيا التي انبثقت عن “جبهة النصرة” التي كانت بدورها موالية ذات يوم لتنظيم “القاعدة”. ويجعل نشر القوات المسلحة التركية في إدلب تحقيق هذا الهدف أسهل، إذ إنه يغير ميزان القوى في المنطقة. وستكون جائزة تركيا هي مدينة إدلب بالإضافة إلى المناطق المجاورة للحدود التركية. وستستمر هذه المنطقة الصغيرة في إيواء السوريين الذين يبحثون عن ملاذ آمن من أتباع الأسد، لا سيما أولئك الذي يسكنون المخيمات وعددهم نحو 800 ألف على أمل العبور إلى تركيا.
لا شك أن التسوية في إدلب تصب في مصلحة روسيا. ومن شأن استعادة سيطرة النظام على الطرق الحيوية أن يسمح له بتحقيق نصر نهائي في الحرب (وهو تصور خيالي بالطبع نظراً لأجزاء البلاد الخاضعة لسيطرة تركيا والأكراد والولايات المتحدة).
سوف تعلن موسكو بعد ذلك عن بدء مرحلة إعادة الإعمار، في محاولة لحشد الدعم من الخليج، وحتى من أوروبا. ويمكن أن تبدأ من جديد محادثات سوتشي حول وضع دستور جديد وبحيث تضم جماعات من المعارضة وكذلك تركيا. وقد يدفع الزخم التعاون التركي الروسي في ليبيا. وإذا استخدم بوتين كل الأوراق بشكل جيد، فيمكن لأنقرة أن تقوم بتطبيع العلاقات مع الأسد في مرحلة مستقبلية، من دون التخلي عن مصالحها الفعلية في سوريا.
لكن مثل هذا السيناريو غير مضمون. ربما نكون قد تجاوزنا نقطة اللاعودة وقد يكون من المستحيل منع الاصطدام بين تركيا وقوات الأسد. وفي هذه الحالة، سيتعين على روسيا اتخاذ قرار صعب، سواء بالبقاء على الخطوط الجانبية وإعادة الانخراط بعد أن تستقر الأوضاع، أو الانضمام إلى النظام السوري والمجازفة بخوض صراع مع تركيا”.
(*) نشر هذا المقال في موقع “أحوال تركية”، قبل يومين من التطورات الدراماتيكية التي شهدها الشمال السوري وأدت إلى مقتل 33 جندياً تركياً في إدلب.