من الحاكم إلى صانع الرأي.. إنّه المُعتقل مجدداً

أخيراً قُضي الأمر الذي فيه نستفتيان. سقط النظام الفولاذي الذي أذلّ الجميع دون حساب لأي معيار غير القوة، وصار بوسع الجميع إعلان البراءة من دم هذا الصديق الذي لم يكن يوماً صديقاً لأحد.

صار بوسع الضمائر، مهما بلغت حدة تلوثها الماضوي، أن تستريح اليوم، وتأنس إلى نقائها المنشود، عبر غرز أنيابها الكلامية في جسد نظام مافيوي، مخابراتي حوّل بلده وبلدنا إلى معتقل أمني يضج بالكبائر من الأفعال المثيرة للتقزز. كما بات متاحاً أن يُدبّج الكُتّاب مقالاتهم بعبارات مستقاة من الكتب السميكة يستعينون بها على تحليل هذه الظاهرة الديكتاتورية التي قلّما شهد لها التاريخ مثالًاً.

سقط النظام الفولاذي، وهو زمن ملائم للتغاضي عن كل النتائج والإحتمالات والتوقعات المثيرة للهواجس، وعن كل ما رافق سقوطه من الضحايا، وبتلك الأساليب المصرة على طابعها البدائي. والأهم أصبح بوسعنا أن نتجاوز، ولو مؤقتاً، كل المخاوف المشروعة المترتبة على المصائر في القادم من الزمن. شعار الكل راهناً: دعونا الآن نستنفد طاقة الإستبهاج الكامنة في دواخلنا. وإلى يوم الله سيعيننا الله.

المناسبة مفرحة إلى حدود استثنائية.. هي تغوي بالتصديق أن التكفير، والذبح، وسلخ الجلود، وتقطيع الرؤوس، وولائم الحساء المصنوعة من أجساد الأطفال، والمقامة على شرف اسقاط الديكتاتور لم تكن أكثر من طقوس تجريبية هدفت فقط إلى اختبار آليات المواجهة. ثم كان ما كان مما لسنا نذكره فلنظن خيراً دونما سؤال عن السبب.

في الحدث من الدهشة والسوريالية ما يُحرّض على التفاؤل، ولو كان ساذجاً، بإمكانية أن يكون الغد مشرقاً، خالياً من القبور المدنسة، والأطراف المبتورة، والألسنة الممزقة. ليس أمراً ذا مغزى أن نكون قد اعتدنا هذه الدموية المفرطة، وأدرجناها في خانة البحث عن الممكن في خبايا المستحيل.

كما أنه ليس مما يجب التوقف عنده أن تتبدل المعايير والمقاييس عندنا بهذه السرعة القاسية. هذا التعديل المفاهيمي لا يجدر به أن يكون مشكلة إلا بالنسبة لأولئك الذين يجدون صعوبة في سرعة التأقلم مع المتغيرات أياً تكن جذريتها. هكذا لا يعود أمراً مقلقاً أن نرصد في إنجازات أعدائنا ما يسعنا إدراجه ضمن حساباتنا الاستراتيجية، أو أن نخرج من سجن الحاكم المتسلط لنجد أنفسنا في معتقل المفكر المتفرد، وقد احتكر الوعي متماهياً مع نظيره الذي اختزل السلطة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ضرورات المشرق، محظورات أمريكا ورادارات الميقاتي
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عندما تروي السجون حكايا سوريا.. والوحش!