

الحقيقة يا أصدقائي أكثر قسوة وسخرية. لبنان هو بلد كل الذين مرّوا ولم يبقوا. أنبياء، غزاة، تجّار، رحّالة إلخ.. كلّهم تركوا بصماتهم ورحلوا، وبقينا نحن نُعلّق على الصخور أسماءهم ونرتل أقوالهم. لوحة نهر الكلب شاهدٌ نموذجيٌ على ذلك؛ سجلٌّ حجريٌ لمن حكمونا بالقوة، ولشعب لم يُكتَب له إلّا أن يكون موضوعًا للقهر لا فاعلًا في صناعة تاريخه. يرى سعيد عقل في لبنان “رسالة” ثقافية وروحية للعالم العربي، بينما يعتبر ميشال شيحا أن لبنان فسيفساء حضارية يجب أن تكون مثالاً للتعايش والحداثة. لكن الواقع أظهر أن الشعب اللبناني لطالما كان وما يزال محكومًا بالولاءات المؤقتة والزعامات والأزمان المتغيرة، ما يجعل فكرة “لبنان الرسالة” أقرب إلى حلم أدبي منه إلى مشروع واقعي على الأرض.
ففي هذا البلد ثمة حضارات سادت ثم بادت. أتقن أهله مهارة غريبة: لعن الراحل وتمجيد القادم. من غادر يُصبح شيطانًا في الذاكرة الجماعية، ومن يحضر يتحوّل إلى مخلّص لحظيّ، حتى يحين موعد لعنه هو الآخر. إنها حلقة مفرغة تُعيد إنتاج ذاتها منذ قرون، وجعلت فكرة “المواطن” في لبنان فكرة طارئة، لا تثبت إلا بمباركة الزعيم أو في ظلّ وصاية عابرة.
الجنون اللبناني المتكرر موجود في أرشيف التاريخ: رسائل كبار اللبنانيين أيام السلطنة العثمانية، كما وثّقها المؤرخ فؤاد كرم، كانت مليئة بالتزلف والتملّق للولاة؛ تعكس كيف أن الولاء الشخصي كان أكثر أهمية من الحقائق القانونية أو الدستورية. هذه القاعدة لم تختفِ مع مرور الزمن، بل تغيّر المستهدف فقط: أحيانًا والي جبل لبنان، وأحيانًا رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، وأحيانًا الزعيم الطائفي أو السياسي، بحسب من يمسك بزمام السلطة في كل مرحلة من تاريخ لبنان الحديث. بمعنى آخر، الجوهر بقي نفسه: المواطنة مرهونة بالولاء للشخص، وليس بالقوانين أو الدستور.
ينص الدستور اللبناني على أنّ كل اللبنانيين سواء وأنّهم يتمتّعون “بالمساواة في الحقوق والواجبات”. لكن الواقع السياسي والاجتماعي أثبت عكس ذلك، يشير فواز طرابلسي (2014) في كتابه “تاريخ لبنان الحديث”، إلى إن النظام الطائفي رسّخ علاقة زبائنية تجعل الحقوق تُوزَّع عبر قنوات الولاء السياسي والطائفي بدل المؤسسات العامة، فالمواطن لا يُكافأ بصفته مواطنًا، بل بصفته تابعًا.
وهذه التبعية يُمكن تلمس خيوطها من خلال عيش الناس. مفهوم اقتصاد الولاء في لبنان ليس مجرد وصف اجتماعي، بل هو آلية تشغيل أساسية للمواطنة والسياسة. المواطنة لا تُمارِس عبر الحقوق القانونية أو الدستورية، بل عبر الولاء للزعيم أو الحزب الذي يُمثل طائفته.
الزبائنية تتفوق على القانون
الوظيفة العامة التي من المفترض أن تكون حقًا مدنيًا ومستندة إلى الكفاءة، غالبًا ما تمر عبر مكاتب الزعماء وخطوط الولاء الحزبي. الموظف لا يُعيَّن ليخدم الدولة أو المواطنين، بل ليخدم مصالح الزعيم أو الحزب، وللتأكد من استمرار الولاء يُتوقع منه المشاركة في الحملات الانتخابية؛ ترويج سياسات الحزب؛ الامتثال لتوجيهات شخصية لا علاقة لها بالقانون. أنت هنا بإرادة الزعيم وعليك أن تنفذ كل ما يأمرك به.. وهكذا تتحوّل المؤسسات الرسمية إلى أذرع للزعيم أو الحزب. هذه البنية ليست طارئة، بل امتداد مباشر للتقاليد التاريخية التي وثّقها فؤاد كرم منذ أيام السلطنة العثمانية، حيث كانت الولاءات الشخصية أهم من القانون، وحتى اليوم، حيث تحوّلت الولاءات الحزبية والزعاماتية إلى آلية لتوزيع المنافع والوظائف.
وبينما يسيطر اقتصاد الولاء على المؤسسات، تعكس دراسة “المؤسسة الدولية للمعلومات” (2019) جانبًا آخر من الواقع الاجتماعي والثقافي للمواطن اللبناني: 62% من المواطنين يرون أنّ “الواسطة” أهم من القانون في إنجاز المعاملات اليومية، وأن التكيّف مع الزعيم أو الحزب جزء من استراتيجية البقاء. هذه النسبة توضح أن المواطن اللبناني لا يعيش فقط في نظام سياسي زبائني، بل أيضًا في ثقافة اجتماعية تتكيّف مع الولاء الشخصي، حيث يصبح الانتماء للزعيم جزءًا من الهوية اليومية، ووسيلة للتنقل بين أزمات الدولة المتكررة.
الاقتصاد السياسي اللبناني يقوم على معادلة واضحة: الولاء يضمن الحقوق والمنافع، وعدم الولاء يؤدي إلى الإقصاء أو التأخير. الدولة والمؤسسات الرسمية تبدو وكأنها وجه ظاهر، بينما الزعيم أو الحزب هو الفاعل الحقيقي الذي يُحدّد من يستحق وما يحصل عليه. في لبنان، الأب الروحي أسرع استجابة من القضاء، وواسطة النائب أو الزعيم أكثر فعالية من بطاقة الهوية.
يعرف المواطن اللبناني هذه اللعبة جيدًا، بل ويتقن فنّ التكيّف معها. فبينما يُستدعى إلى صناديق الاقتراع ليبرهن ولاءه، يجد نفسه مضطرًا أيضًا للتكيّف مع شبكة الولاءات اليومية للحصول على الخدمات: الكهرباء، المياه، المحروقات، الطبابة والاستشفاء، الوثائق الرسمية، وحتى التعليم. هذه الثقافة تجعل المواطن يرى أن شرط البقاء هو المشاركة في اقتصاد الولاء، بدل المطالبة بحقوقه الدستورية.
ثقافة الزعيم ليست طارئة، بل جزء من البنية الاجتماعية اللبنانية. كما يوضح سمير خلف (1987) في كتابه (Lebanon’s Predicament)، فإالعائلة والطائفة والزعيم لعبوا دور “الأب البديل” للدولة، بحيث ظلّت فكرة المواطن الفرد ضعيفة ومشوّهة. هذه البنية جعلت اللبناني يرى في الزعيم مصدر حماية ورعاية، أكثر مما يرى في الدولة مصدر حقوق.
هل المواطنة تستلزم موافقة الزعيم؟
الجواب هو نعم، وأحيانًا بأسوأ صيغها، المواطنة مرتبطة مباشرة بما إذا كان الزعيم يرى فيك مواطناً صالحًا أم متمرّدًا. المشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية؛ لافتات التأييد والمبايعة؛ نشر محاسن الزعيم على وسائل التواصل الاجتماعي؛ كلها طقوس تؤكد أنك لا تهدد السلطة. فالزعيم وطني ويضحي من أجلك، وخصمه دائمًا فاسد ومرتشٍ وعميل للدول والسفارات؛ هذه القصة تتكرر في كل حملة انتخابية. ولا يكتمل الاحتفال بالزعيم من دون مظهره. حضوره وهيبته يرتبطان بعدد السيارات والمرافقين.
أما إذا تجرأت على السؤال أو النقد، فإن الغضب والحُرم الاجتماعي والسياسي سيسقطان عليك فورًا؛ تُتّهَم بمحاولة إضعاف الطائفة لصالح الآخرين، وتصبح في حالة شبه عزلة، كأنك خرجت عن دائرة الولاء. هذه العقوبة الرمزية تظهر بشكل يومي من خلال تعليق فايسبوكي، إلى مقاطع التهكم السياسي، وصولاً إلى رفض الخدمات أو فرص العمل، كل ذلك يذكّرك أن الولاء الشخصي للزعيم هو ما يحميك في ظل هذا النظام الزبائني.
المواطنة في لبنان ليست مجرد حقوق دستورية أو ديموقراطية، بل طقس مستمر من الولاء، المبايعة، والتزلف، يتجدد كل يوم، ويؤكد أن الدولة والمؤسسات الرسمية مجرد واجهة، بينما الزعيم هو الفاعل الحقيقي الذي يحدد من يستحق وما يحصل عليه.
سيبقى اللبنانيون أسرى المعادلة القديمة: مواطنة معلّقة في انتظار توقيع الزعيم، وتصديق دائرة الولاء الوطني بألوانها التقليدية والرقمية، مع تصنيف الأبطال الوطنيين والفاسدين بحسب رؤية الزعيم، وقياس الهيبة بعدد السيارات والمرافقين!