أحمد عبدربه29/12/2025من المستبعد أن يكون عام ٢٠٢٦ فاصلًا أو مساحة لتغييرات جذرية، لكن في الوقت نفسه من المستبعد أن يكون عامًا رتيبًا ومجرد استمرار لعام ٢٠٢٥ والأعوام التي سبقته!
من المتوقع أن تكون ٢٠٢٦ لحظة إدارة دقيقة وحساسة لعدد كبير من التوازنات، حيث يصبح السؤال الأساسي: كيف يمكن للنظام السياسي المصري أن يحافظ على قدرته على الحكم وحماية الأمن القومي، وفي الوقت نفسه التقليل من كلفة هذا الحكم اجتماعيًا وسياسيًا؟
***
البرلمان الجديد الذي يبدأ عمله فعليًا في ٢٠٢٦ يمثل أحد مفاتيح هذه المعادلة. تركيبته، وطريقة تشكّله، وطبيعة الأدوار المتوقعة منه، كلها تشير إلى مؤسسة يُراد لها أن تكون مستقرة وقابلة للعمل، أكثر من كونها ساحة مواجهة سياسية مفتوحة. هذا لا يعني أن البرلمان الجديد سيكون بلا سياسة، بل يعني أن السياسة داخله ستُدار بأسلوب مختلف: نقاشات محسوبة، خلافات محددة السقف، وأولوية واضحة لتمرير التشريعات المرتبطة بالسياسات العامة، خاصة في المجال الاقتصادي. البرلمان هنا ليس معنيًا بإعادة تعريف النظام السياسي، بقدر ما هو معنيّ بتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبتوفير غطاء تشريعي لمسار تعتبره السلطة التنفيذية ضروريًا.
لكن هذا الدور الوظيفي لا يلغي التحديات. فكلما ازدادت الضغوط المعيشية، وخصوصًا الاقتصادية منها، زادت توقعات الناس من البرلمان، حتى لو كانوا يدركون محدودية تأثيره. المواطن، في النهاية، لا يميّز كثيرًا بين مسؤولية الحكومة ومسؤولية البرلمان، بل ينظر إلى الدولة كوحدة متماسكة. ومن هنا، فإن قدرة البرلمان على لعب دور الوسيط، وبشكل أكثر عملية من البرلمانات التي سبقته، تصبح حاسمة! لن يكون البرلمان معنيًا فقط بالخدمات، ولكن عليه أن يكون ذا قدرة على الاستماع والنقاش، ونقل الغضب من الشارع إلى الحكومة، لا مجرد امتصاصه، والضغط على الأخيرة لمواجهة هذه الضغوط بسياسات عملية محسوسة، حتى لو لم تكن النتائج فورية أو جذرية.
***
في المقابل، تدخل السلطة التنفيذية عام ٢٠٢٦ وهي محمّلة بإرث ثقيل. السنوات السابقة كانت سنوات إدارة أزمة بامتياز: أزمة العملة وسعر الصرف والسوق السوداء، تضخم مرتفع، ضغوط مالية، وتراجع واضح في مستوى معيشة قطاعات واسعة من المواطنين. في هذا السياق، ركزت الحكومة على منع الأسوأ، وعلى الحفاظ على تماسك الدولة اقتصاديًا. لكن الآن لم يعد «منع الأسوأ» كافيًا للاستقرار السياسي والاقتصادي، بل يصبح المطلوب هو إقناع الناس بأن هذا الاستقرار له معنى في حياتهم اليومية، لا عبر ما يردده الإعلام، ولكن من خلال تعامل المواطن اليومي مع سوق السلع والخدمات!
هنا تظهر الفجوة بين لغة الدولة ولغة المجتمع، بين منطق السلطة ومنطق الشارع! الدولة تتحدث عن أرقام، عن نمو، عن ضبط مالي، عن تراجع تدريجي في التضخم، بل ومؤخرًا يُبشّر رئيس الوزراء المواطنين بانخفاض الدين، أخبار سعيدة بلا شك، لكن ما يراه المواطن في النهاية مختلف! فالأسعار لا تعود إلى الوراء، والدخول شبه ثابتة أمام تكاليف متحركة، والخدمات الصحية والتعليمية لا تتحسن بالوتيرة نفسها التي تتحسن بها الأرقام والبيانات. حتى عندما تتراجع معدلات التضخم رسميًا، يبقى أثر الغلاء المتراكم حاضرًا، لأن ما ارتفع خلال سنوات لا ينخفض بسهولة، هذا إن انخفض من الأصل! هذه فجوة في الإحساس، في المنطق، في لغة الحياة اليومية التي لا تعتبر كثيرًا بتحسن الأرقام! هذا، في الواقع، هو التحدي الرئيسي الواقع على السلطة التنفيذية في ٢٠٢٦.
لهذا ستجد السلطة التنفيذية نفسها في العام الجديد وكأنها تسير على الحبال، أي الاستمرار في مسار إصلاحي تعتبره حتميًا، مع ضرورة اتخاذ إجراءات تخفف من حدّة الصدمات الاجتماعية والاقتصادية. كلام لا يبدو جديدًا، لكنني أدّعي أن هذه المرة سيكون الوضع أكثر حساسية من ذي قبل! زيادات محدودة في الأجور، توسيع نسبي لشبكات الحماية، تدخلات جزئية في بعض الأسواق، كلها أدوات لإدارة الغضب أكثر منها حلولًا شاملة. الهامش هنا ضيق، لأن الموارد محدودة، وأي توسع غير محسوب قد يعيد إنتاج الأزمة. لكن في الوقت نفسه، فإن تجاهل البعد الاجتماعي يحمل مخاطر سياسية واضحة، وهذا سيناريو عرفناه في مصر والمنطقة العربية بأسرها منذ ١٥ عامًا، ولا أعتقد أن أحدًا قادر على احتماله مستقبلًا!
العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في هذا السياق ستكون علاقة تنسيق أكثر منها علاقة صدام لن يكون لصالح أيٍّ منهما. الحكومة لا تحتاج إلى البرلمان فقط لتمرير القوانين، لكنها تحتاجه أيضًا كمنصة سياسية تشرح من خلالها قراراتها وتخفف من وقعها على المواطن. والبرلمان، بدوره، يحتاج أن يظهر بمظهر المؤسسة الفاعلة، لا مجرد حامل أختام. لذلك من المتوقع أن نشهد نقاشات تبدو حادة في الشكل، لكنها تنتهي غالبًا بتوافق في الجوهر. هذا النمط يسمح للطرفين بالحفاظ على صورتهما، ويجنب النظام السياسي كلفة صراع داخلي لا يملك ترفه!
***
اقتصاديًا، يمكن القول إن ٢٠٢٦ تمثل مرحلة انتقالية دقيقة. فبعد سنوات من إجراءات ركزت على ضبط السيولة وسوق العملة ورفع الاحتياطي، تبرز الحاجة إلى مرحلة يكون عنوانها الأساسي خلق فرص عمل حقيقية وتحسين نوعية الحياة. الحديث المتكرر عن دور القطاع الخاص يعكس إدراكًا بأن الدولة وحدها لا تستطيع تحمّل عبء النمو، وهذا صحيح، لكن ترجمة هذا الإدراك إلى واقع ليست مسألة فنية فقط، بل مسألة سياسية واجتماعية أيضًا، وعلى السلطة أن تراعي هذا دائمًا في خطابها وسياستها! فتقليص مشاركة الدولة المباشرة في النشاط الاقتصادي اليومي، مع توسيع دور القطاع الخاص كمحرك رئيسي للإنتاج والاستثمار، عادة ما يكون له آثار مؤلمة، نعرف هذا تمامًا، ولكن السؤال في ٢٠٢٦: هل يستطيع المواطن تحمّل المزيد من هذا الألم؟ أو بعبارة أخرى، هل تستطيع الدولة تحمّل آثار أي انفجارٍ شعبي نتيجة لهذا الألم؟
هنا يعود السؤال المركزي: من يدفع الكلفة، ومتى تظهر النتائج؟ المواطن العادي لا يرفض الإصلاح من حيث المبدأ، وحينما تُحدّثه السلطة عن تضحيات من أجل الأجيال القادمة، فهو لا يعترض، لكنه في الوقت نفسه يريد أفقًا واضحًا، وإحساسًا بأن هذه التضحيات ليست بلا نهاية! لذلك يصبح التواصل السياسي جزءًا من السياسة الاقتصادية نفسها. ليس المطلوب وعودًا كبيرة، بل شرحًا صريحًا وحدودًا واضحة لما يمكن تحقيقه وما لا يمكن، بلا وعود مفتوحة، أو طلب للصبر والتحمّل دون وضع نقطة زمنية دقيقة لانتهاء هذا الألم!
***
أما عن السياسة الخارجية، فمن المتوقع أن تستمر تعقيدات الوضع الإقليمي في ٢٠٢٦! أحسنت مصر إدارة ملفات سياستها الخارجية خلال السنوات الماضية رغم كل التعقيدات، لكن في النهاية هذه التعقيدات ستستمر في العام الجديد. ملف غزة، وتداعيات الحرب وما بعدها، يظل حاضرًا بثقله الأمني والسياسي. الأوضاع في السودان وليبيا، وأمن البحر الأحمر، بالإضافة إلى ملف الأمن المائي المصري، والعلاقات مع دول الخليج والاتحاد الأوروبي وكذلك الولايات المتحدة، كلها ملفات تمس الأمن القومي مباشرة. في هذه الملفات، تميل السياسة المصرية إلى الحذر وإلى لعب دور الوسيط بكل الطرق الممكنة، بل وحتى الصبر على بعض الإساءات أو التهديدات بقدر الإمكان، مع تجنب الانخراط في مغامرات مكلفة. هذا تصرف رشيد بلا شك، لكن هذا الحذر نفسه مرتبط بالوضع الداخلي. فكلما كانت الجبهة الداخلية أكثر تماسكًا، زاد هامش الحركة في الخارج، والعكس صحيح! بعبارة أخرى، قدرة مصر على الاستمرار في إدارة هذه التعقيدات والتحديات الإقليمية، أو حتى اتخاذ قرار بالتصعيد — يبدو حتميًا — في بعض الملفات، يظل مرتبطًا بالدعم الشعبي، هكذا ببساطة!
***
وفي خلفية كل ذلك، يظل النقاش حول المستقبل السياسي الأبعد والأكثر حساسية حاضرًا، بما في ذلك ما يُثار أحيانًا عن الترتيبات الدستورية ومدد الرئاسة. هذا ملف لم يُطرح رسميًا بعد، لكن إرهاصات النقاش عنه موجودة في دوائر المحللين والمراقبين للوضع المصري في الداخل والخارج، وهو ملف مرتبط كذلك بسؤال الاستقرار والاستمرارية. القراءة الأكثر واقعية تشير إلى أن أي نقاش من هذا النوع لن يُفتح إلا في بيئة هادئة نسبيًا، اقتصاديًا واجتماعيًا. بمعنى آخر، الاقتصاد هنا ليس مجرد ملف مستقل، بل شرط سياسي أساسي لأي ترتيبات مستقبلية في هذا الشأن!
***
في النهاية، يمكن القول إن عام ٢٠٢٦ يبدو عامًا لإدارة التوازنات أكثر منه عامًا للقرارات الكبرى. برلمان يقوم بدور تنظيمي، حكومة تحاول تحويل الاستقرار إلى شعور معاش ومحسوس لدى المواطنين، واقتصاد يسعى للخروج من منطق إدارة الأزمة إلى منطق الحياة اليومية. النجاح هنا لن يُقاس بخطابات مطولة أو قوانين جديدة، بل بقدرة النظام السياسي على تقليل الفجوة بين ما تقوله الدولة وما يعيشه المواطن، بين لغة الأرقام الرسمية والبيانات ولغة الشعب. هذه هي المعركة الحقيقية في السياسة المصرية خلال ٢٠٢٦!
(*) بالتزامن مع “الشروق” المصرية
