مخيمات لبنان.. ثورة مع وقف التنفيذ

كالجمر تحت الرماد، تلتهب الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، منذرة بانتفاضة كبيرة على غرار تلك التي يشهدها المجتمع اللبناني. كيف لا وأوكسجين المخيمات تحمله رئة هذا الجوار المأزوم في الإقتصاد والسيولة النقدية وفرص العمل.

ليست عادلة المقارنة القائمة بين مجتمعين لصيقين مكاناً، كتلك القائمة بين مخيمات اللجوء الفلسطيني الـ 12 وبين محيطها اللبناني. تباين الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية – برغم الأزمة غير المسبوقة التي يختبرها اللبنانيون حالياً – يحشر هذه المخيمات في شبه عزلة، تفاقمها تشريعات تفرضها الدولة اللبنانية المضيفة. ظروف تجعل اللاجىء الفلسطيني في وضع ملتبس، فلا هو لاجىء “كامل الأوصاف” وفق ما يمنحه إياه القانون الدولي، ولا هو أجنبي “درجة أولى” محظي ببعض ما تغدقه الدولة اللبنانية على وافدي جنسيات بعينها (حق تملك الأجانب المقر وفق قانون صادر عام 2001 مثلاً).

بهذا المعنى، يعيش اللاجىء الفلسطيني تهميشاً متعدد الأوجه، إقتصادي وإجتماعي وثقافي ومكاني، تجعل أزمة كتلك التي يمر بها لبنان حالياً مضاعفة التأثير، فكيف إذا كان عمر معاناته من عمر النكبة؟

أحدث تعبيرات هذا التهميش شهدته مخيمات اللجوء الفلسطيني بعد صدور خطة وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان “لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية على الأراضي اللبنانية” في مطلع حزيران/ يونيو الماضي، وذلك تحت عنوان الحد من أزمة البطالة التي تفاقمت مع النزوح السوري إلى لبنان. وقتذاك، إندلعت هبة شعبية في المخيمات الفلسطينية إستمرت نحو ثلاثة أشهر.

شكلت الحركة الإحتجاجية تلك شرارة حراك شعبي، كان قيض له أن يتسع، لولا أن قَطَعَ سياقه الحراك اللبناني الذي إندلع في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفق ما يقول الباحث الفلسطيني في دراسات اللاجئين جابر سليمان لموقع 180.

“نحن بلشنا” هو التعبير الذي يسمعه سليمان من شباب مخيم عين الحلوة، أكبر مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان عن حراك فلسطيني سبق حراك جيرانهم اللبنانيين، “فالمخيمات تعيش حالة بؤس شامل، والتردي مستمر منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إبان الغزو الإسرائيلي عام 1982، فهي كانت تشغّل نحو 60% من اللاجئين” يوضح سليمان، أما الآن، “فنسبة الفقر في المخيمات تبلغ نحو 65%، وفق دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت، بين عامي 2010 -2015، وهو رقم يُرَجح أنه إرتفع في ضوء الضائقة الأخيرة، مقابل 35% لدى اللبنانيين”.

جابر سليمان: مهندسون يبيعون الخضار، وأطباء يعملون بأسماء أطباء لبنانيين. أما البطالة، فتعززها أرقام إجازات العمل الممنوحة للفلسطينيين: عام 2016 منحت وزارة العمل 729 اجازة للفلسطينيين، بينها 113 اجازة جديدة فقط، مقابل 210 آلاف إجازة مُنحت لعمال اجانب في لبنان

ويسرد الباحث جابر سليمان نماذج عن هذا الفقر بوجود حالات بين المتعلمين من أبناء مخيم عين الحلوة دفعتهم البطالة المستشرية إلى خيارات مرّة: “مهندسون يبيعون الخضار، وأطباء يعملون بأسماء أطباء لبنانيين…”. أما البطالة، فتعززها أرقام إجازات العمل الممنوحة للفلسطينيين: “عام 2016 منحت وزارة العمل 729 اجازة للفلسطينيين، بينها 113 اجازة جديدة فقط، مقابل 210 آلاف إجازة مُنحت لعمال اجانب في لبنان”.

لكن لماذا “فُرمِل” الحراك بنسخته الفلسطينية، ولم يصل صداه إلى خارج أسوار المخيمات التي تعيش حالة غليان شعبي منذ أكثر من شهر؟ يعزو سليمان ذلك إلى حساسية الوجود الفلسطيني في لبنان. “هناك حذر فلسطيني مقيم، معطوف على نضج في التجربة، تترجم بإرادة جامعة للحيلولة دون إستخدام العامل الفلسطيني في أي تطور سياسي أو أمني على الساحة اللبنانية”.

هذا التوجه شاهدناه في بيانات صادرة عن سفارة دولة فلسطين في لبنان، وعن لجان وتنظيمات فلسطينية تدعو لتجنب المشاركة في أي نشاط خارج المخيمات، وعدم الإنجرار لما قد يؤدي إلى صراع من أي نوع كان.

مع إنطلاق الحراك الشعبي اللبناني في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وعلى غرار الفضاء الإفتراضي اللبناني، شكلت وسائل التواصل الإجتماعي للفلسطينيين هي الأخرى منصات تدعو للإنتفاض على الواقع المأزوم، والهدف الأبرز كان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” المتخلية عن دورها التاريخي، فضلا عن تكرار ظاهرة تأخر صرف رواتب حركة “فتح” للمتفرغين وعائلات الشهداء.

وصلت الأمور ببعض المجموعات إلى تحدي تعليمات عدم الإنخراط في أي حراك في الفترة الحالية. يقول أحد سكان مخيم نهر البارد في معرض الدعوة الى تحرك ضد الوكالة في تسجيل صوتي:”لن نقبل أن نصل الى الجوع واليأس، ما حدا يقول مش وقتو.. لا تكسير ولا ضرب.. لا يمين ولا يسار، نريد أن تُؤمن لنا الأموال مثلما تؤمن للفرد المنظم (المنتمي الى “فتح”)، أن تُؤمن لإبن الشعب العادي، التابع لفلسطين”.

في صرخة هذا اللاجىء ما يوحي بأن هناك صيفا وشتاء تحت سقف المخيم المتداعي. “نعم هناك منظومة فساد على مستوى الفصائل من كل الفئات”، يجيب الناشط في مخيم عين الحلوة محمد عطايا. “كل مشارك في إدارة مواردنا فاسد، ومن لا يسرق بالمباشر، يشارك بصمته”، يضيف عطايا لموقع 180. يحيلنا توصيفه لواقع الحال في المخيمات إلى المشهد اللبناني، كأنما هما وجهان لعملة واحدة. منظومة من الفساد يستفيد منها الفرد المنظم، والجمعيات (يتعدى عددها الـ 40 منظمة في عين الحلوة لوحده) ومن يدور في فلك وكالة “الأونروا”، ناهيك عن اللجان الشعبية التي تراقب خدمات المخيمات، وباتت هي الأخرى طرفاً مع الجمعيات والمنظمات السياسية. يسأل عطايا: أين الأموال التي تأتي عبر هؤلاء من الدول المانحة على إسم شعبنا؟ ويردف سؤاله بمعطيات عن تردي الواقع. فقد تدنت مثلاً المؤونة المالية (أو ما يعرف بالإعاشة) التي كانت تعطى لحالات العسر الشديد أو العائلات الأكثر فقراً والبالغة قيمتها 100 دولار كل ثلاثة أشهر لتصبح 45 ألف ليرة لبنانية (أي 30 دولارا أو ما دون ذلك إذا احتسبنا سعر صرف الدولار وفق تسعيرة السوق السوداء المعتمدة حالياً في لبنان). هذا واقع يحيل الى الإنفجار الإجتماعي، والمسألة مسألة وقت. “هناك منازل أهلها من دون أكل.. الناس ستنفجر” يحذر محمود عطايا.

رب سائل كيف لقنبلة البؤس الموقوتة هذه، البؤس الذي يلفح بصر الداخل الى واحد من مخيمات اللجوء في لبنان، ويتسلل إلى رئتيه، أن لا ينفجر

الناشطة هبة قاسم تبدو أكثر تهيباً، “نحن بحالة إنتظار” تقول لموقع 180، “وما يحكمنا هو المخاوف من إنجرارنا لأن نصبح شماعة تُعلق عليها أزمات لبنان”. لكن مخاوف هبة قاسم يشوبها أمل، يتبدى من خلال مشهد غير مسبوق شهده مخيم عين الحلوة تحديداً، الذي توحد شبابه إثر قرار وزير العمل إياه، فخرجوا من إصطفافاتهم الحزبية والحساسيات الأمنية (وما أكثرها) وجاهروا بتراجع ثقتهم بالأحزاب والتنظيمات من أقصى اليسار الى أقصى التدين، جمعهم مطلب لقمة العيش الكريمة.. “نريد أن نتعلم ونأكل ونشرب وننعم بعمل يحفظ كراماتنا”، هو لسان حال ابن حي الصفصاف والبراكسات وغيرهما. على قاعدة رب ضارة نافعة حصل التحول إذاً. مرة أخرى يحيلنا المشهد الى الواقع اللبناني حيث يقفز الشباب فوق إنتماءاته الكلاسيكية ويعيد إكتشاف هويته وصياغتها.

إقرأ على موقع 180  قراءة أولية في الحراك الشعبي في لبنان وآفاقه

رب سائل كيف لقنبلة البؤس الموقوتة هذه، البؤس الذي يلفح بصر الداخل الى واحد من مخيمات اللجوء في لبنان، ويتسلل إلى رئتيه، أن لا ينفجر؟ كيف لمشهد شبكة الكهرباء المتدلية فوق رؤوس المارة، وأنابيب المياه المنفجرة في الأزقة، والبيوت الآيلة للسقوط، وإرتفاع أسعار المواد الغذائية، وشح موارد العيش بسبب تراجع تقديمات “الأونروا” الصحية والتعليمية والتوظيفية (إعتماد التعاقد المؤقت)، وتحويلات المغتربين وحركة “فتح” وصعوبة سحب هذه التحويلات جراء الازمة النقدية في لبنان، وإرتفاع نسبة البطالة جراء تسريح عمال واجراء من وظائفهم في مؤسسات لبنانية متعثرة، كيف لهذا كله أن لا يأخذ أهل المخيمات الى الثورة؟ ما الذي يمنع إنفجاراً غير محسوب؟

في حسابات العقل تبدو الفرضية واردة. فالجهات المعنية، أي السلطة الفلسطينية عبر تنظيماتها الحزبية، والمجتمع الدولي، والدولة اللبنانية، قاصرة عن درء المخاطر الكامنة تحت رماد المخيمات.

“بالنسبة للبنان، لا يشكل المخيم أولوية الا من الناحية الأمنية، وهذه مقاربة قاصرة”، يستخلص الباحث جابر سليمان، ويؤكد “ألاّ حل من دون معالجة الجذور التي تدفع إلى العنف، وهذا شرطه ردم الهوة بين معايير العيش الكريم والتشريعات، من دون إشهار فزاعة التوطين الذي لا يريده الفلسطينيون، تماما كما اللبنانيين”.

هل يمكن أن تتسلل العوامل السياسية إلى هكذا نوع من الحراك؟

الساحة الفلسطينية في لبنان تحتمل ذلك تاريخياً، بفعل إنقساماتها السياسية وتراجع دور المنظمات الفلسطينية وعدم وجود رؤية فلسطينية موحدة لقضية اللجوء، فضلا عن الدور السلبي الذي تلعبه الدولة المضيفة، ومحاولات تصفية “الأونروا”، تمهيداً لشطب حق العودة، أحد أبرز عناوين قضية فلسطين.

Print Friendly, PDF & Email
جمانة بعلبكي

صحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  كرة القدم التركية.. كثيرٌ من السياسة وقليلٌ من الرياضة!