حفلت ساحات لبنان في الأيام الأخيرة بمشاهد جميلة، لكن أكثر ما لفت إنتباهي هو كيف لم يتوقّف البعض – وربما الأكثرية ـ عند الإهانات التي تطال الآخر. ذلك الآخر الذي أعيش معه في وطن واحد، وأشاركه المصير الواحد. ذلك الآخر الذي هو عنصر أساسي في فهم وتشكيل هويّتي، ذلك الآخر الذي لا يشبهني… ولكنه هو ذاته أنا وأنا هو.
هذا البعد في المفاهيم وقراءة الواقع ليس مستجداً، بل هو نتاج سنوات من التعايش السطحي. تعايش نتغنى ونهتف به. نكتبه في المواثيق. نبرزه بفخرٍ في الخارج، عندما نُسأل عن وطننا لبنان… لكنه تعايش لم ينبثق يوماً من معرفة عميقة بالآخر وتاريخه أو الإشكاليات التي رسمت حاضره أو يمكن أن تؤشر إلى مستقبله. تعايش ليس نتاج فهم هذا المجتمع وتشريحه وتقديمه – للجيل الجديد خاصّة – انطلاقًا من دراسة ماضينا، ليس فقط كي لا نقع في الفخّ الذي وقع به أسلافنا، بل كي نفهم أكثر طبيعة التنوّع والتعدّد في المطالب والوقائع والتواريخ.
عند كلّ محنة يمر بها لبنان، أزداد قناعة أن فكرة لبنان ليست واحدة. من البديهي أن قراراتنا كلّها كانت وما زالت مبنيّة على مبدأ التوافقية، التي ضمنت المشاركة بدل السيطرة فخلقت توازناً، بات معه كلّ مكوّن وحده بمثابة ركن أساسي وحجر زاوية، إنْ مُسَّ به إنهار التوازن وإختل الإستقرار.
بدأ الحراك وبدأتُ أشعر أنني منبوذة من المجتمع… على الرغم من سعادتي عند رؤية الجميع متّحدين تحت علم واحد
مرّ أكثر من أسبوعين وأنا أمنع نفسي عن الكلام وأراقب وأنتظر… أعيش حالة من الخوف لم أعِشها من قبل، خوف من خطابات مليئة بالحقد والكراهية والعداوة لم أكن أعرف أنّها كانت تكمن في داخل نفوس الكثيرين منا… بدأ الحراك وبدأتُ أشعر أنني منبوذة من المجتمع… على الرغم من سعادتي عند رؤية الجميع متّحدين تحت علم واحد، ذعرت من بساطتنا، وخفتُ مِمَن إعتقد أن الشعب الذي كان يتنفس طائفية – وعلى الرغم حقاً من التضامن الساحر الذي وحّد الجميع في لحظة صدق حقيقية في الأسبوع الأوّل من الحراك – لا يمكن أن ينام طائفياً ويستيقظ وطنياً فجأة، بعد كابوس دام أكثر من مئة عام.
هناك من ترك خلفياته السياسية والدينية خلفه، وثمّة من كان ينظر إلى الآخر، قبل أن يقيّم نفسه، بهدف الإدانة والإتهام إلى حد الإستفزاز. كرهت نفسي في البداية لأنّني رأيت بعيني هذا الحقد عندما لم ينتبه له كثيرون.
رأيتُ الكثير من المشاهد المخيفة، من الحرب الأهلية إلى التضليل والمشاكل الإجتماعية والنفسية التي أخافتني الى حد الرعب خوفاً من أن يظهر كابوس الطائفية مجدداً ويعمد البعض الى إستغلاله لصالحه.
رأيت الكثير من التنمّر والإستفزاز والتشهير من أشخاص ينادون بالوحدة ويعملون على كل ما يفرق في الوقت نفسه.
ألمي اليوم وحرقة قلبي هي على الجيل الذي أنتمي إليه. نحن الجيل الجديد الذي يعيش تداعيات الماضي من دون أن نعرف عن هذا الماضي شيئا. نحن بحاجة إلى كبش محرقة، بحاجة إلى إلقاء اللوم على أحد، بحاجة أن نصرخ من أعماقنا علَّ أحد يسمعنا، ولكنّنا قبل كلّ شيء بحاجة إلى وعي جماعي. بحاجة إلى فهم من هو ذلك الآخر الذي نشاركه الوطن. بحاجة لأن نصغي لبعضنا ونتفاهم. حتى الكبار بحاجة إلى ذلك. أخاف لأننا طالما لم نبدأ بمعالجة الأمر الآن، فإنّنا لن نضمن للأجيال القادمة ولا لأنفسنا إلا إعادة المصير نفسه، والدوامة نفسها.
الأمر الذي أرغمني اليوم على كتابة كلّ هذا هو الخلاف والجدال حول مقاومة العدو الإسرائيلي ومكانة المقاومة في بلدنا
الأمر الذي أرغمني اليوم على كتابة كلّ هذا هو الخلاف والجدال حول مقاومة العدو الإسرائيلي ومكانة المقاومة في بلدنا والتي باتت حقاً قضية رأي عام لدى الأجيال الجديدة. قرأتُ أن المشكلة كلّها تكمن للبعض عند من عشق لبنان عشقاً عظيماً فسال دمه باسم ذلك الحبّ. فمن نلوم هنا؟
أنلوم بعض الشباب الذين يسافرون من بلد إلى بلد ولم تطأ يوماً رِجله أرض الجنوب وشريط الحدود مع فلسطين؟
أنلوم من يسوّق فكرة أن عداء إسرائيل لا يتوافق مع تعاليم الحب والسلام، في حين أن المقاومة ينبع جوهرها من الحب وهدفها الأسمى السلام والكرامة والسيادة والعنفوان؟
أنلوم الحكومات المتعاقبة التي لم تقرّر يوماً أن تلتزم بكتاب التاريخ الموحد، حتى تستمر ذاكراتنا الفئوية وكل واحد منا يختار بطله ومن هو الخائن والعميل مقابله؟
أنلوم الآباء الذين لم يزوّدوا أولادهم بذلك الوعي البديهي عند البعض؟ أنلوم قلّة فضولهم؟ أنلومهم على عدم النظر أبعد من مناطق راحتهم؟ حقاً، من نلوم؟ كيف نبني اليوم وطناً لجميع أبنائه إن كنّا أصلاً لا نعرف أبناءه وتاريخه ومخاطر حاضره؟
إن عناوين الجوع والفساد والفقر توحّدنا كلّنا في الشوارع، ولكن هذا لا يكفي ما دام لكلّ منّا لبنانه وما دمنا لم نتعرّف أو نحاول فهم لبنان غيرنا.
من ينبض قلبه مقاومة هو من ينبض قلبه لبنان. نحن لا نعرف بعضنا إلّا من خلال صور مزيّفة ومعلومات مزوّرة حكمت علينا أن نعيد التاريخ ذاته كلّ 30 عاماً.
فلنرسّخ ذلك التعايش الذي غُيّب موسى الصدر لأجله ونبني وطننا منطلقين من مفهوم التعرّف على الآخر وقبوله قبل محاسبته، كي ننعم يوماً ما بلبنان، الوطن النهائي لجميع أبنائه.