إنتشرت عبر وسائل الإعلام المتعدّدة مقالات ورد فيها مثلاً أن القارة الأوروبية العجوز تريد التخلّص من المسنّين الذين يشكّلون شريحة سكانية كبيرة ويكلّفون خزينتها الكثير، وأن “عالم ما بعد كورونا” سيكون حتماً مختلفاً عما قبل هذه الجائحة التي أصابت حتى اليوم ما يزيد على ١٥ مليون نسمة وتسبّبت بوفاة حوالي ٦٤٠ ألف نسمة معظمهم في أميركا وأوروبا.
ولقد كتب بعضهم أن هذه الجائحة قد تكون أحد مظاهر الحروب الأمنيّة والمخابراتيٍة الخفيٍة الدائرة بين الدول المُتصارعة سياسياً وإقتصادياً على قيادة العالم، خاصة بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. ثم توالت الإتهامات بين تلك الدول وأبرزها اتهام الإدارة الأميركية للصين بالتستّر أو بإخفاء معلومات مهمة عن أعداد الحالات وسرعة إنتشار الفيروس في بداية ظهوره في مدينة “ووهان” الصينية.
وبعد حروب الكمامات والأدوية والمعدّات الطبيّة، جاء دور تطوير اللقاح الفعّال للحدّ من إنتشار هذا الوباء. فقد صدرت تصريحات أميركية تتهم الصين تارة وروسيا تارة أخرى بسرقة أو قرصنة معلومات سريّة عن الأبحاث الدائرة لتطوير لقاح لهذه الجائحة، لكن الأخطر تمثل في التنافس العالمي الذي نشهده في سياق السعي السريع ـ وإلى درجة التهور ـ لتطوير لقاح لهذا الفيروس وظهور بعض التقارير التي قد تكون أيضاً مدسوسة، والتي تحدّثت عن أن بيل غيتس مثلاً قد يكون ضالعاً في مؤامرة دولية لا يمكن تخيّلها إلا في افلام الخيال الهوليودية، وهدفه هو زرع شرائح إلكترونية أو حسّاسات صغيرة جداً في جسم الإنسان وعن طريق اللقاح تحديداً، وقد يكون الهدف الرئيسي منها هو مراقبة كل الأشخاص الذين سيحصلون على اللقاح، وهم بالمليارات في كل دول العالم!
ذهب البعض أبعد من ذلك بقوله إنّ اللقاح سيحتوي على وحدات جينية (حمض نووي) أو قد يكون فيه بعض مكوّنات الخلايا الجذعية وبعض الأجسام المُضادة التي ستلعب دوراً كبيرًا في تغيير طبيعة “بني البشر” وتغيير سلوكهم ونمط حياتهم وأطباعهم إستكمالاً لفصول الخطّة التي شرحنا فصولها سابقاً.
هذه المقالة تهدف لطرح آخر التطوّرات العلمية في مجال البحث الجاري عالمياً عن لقاح لفيروس كورونا ولشرح كيفية صناعة أو تطوير اللقاحات، وما هي اللقاحات التي تتصدّر السباق في هذه الحرب الكونية حالياً. كذلك، وهذا الأهم، ما هي المخاطر التي قد تترّتب على حاجة البشرية جمعاء للحصول على لقاح في أقصر فرصة مُمكنة وهل الأكاذيب والإشاعات والاخبار والسيناريوهات الجهنمية والهوليوودية المتداولة والمُتناقلة هنا وهناك عبر جميع أنواع وسائل الإعلام وخاصة الإجتماعية منها مُمكنة علمياً وكيف؟ وأين تكمن مخاطر تطوير لقاح سيوزّع على مليارات البشر بهذه السرعة الهائلة ودون التنبّه للمخاطر الكبيرة التي قد تترتّب على ذلك؟
سنقسم هذا البحث إلى جزئين لإعطاء المجال للتوسّع فيه وشرح حيثياته بشكلٍ كامل.
أولاً، معطيات منظمة الصحّة العالمية:
بحسب آخر التقارير الصادرة منذ أيام عن منظمة الصحة العالمية، هناك سباق بين مراكز الأبحاث والمختبرات المهتمّة بعلم الفيروسات والشركات المُصنّعة للأدوية واللقاحات في العالم، خاصة في الدول المتقدمة في هذا المجال مثل الولايات المتحدة والصين والإتحاد الأوروبي وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل.
وبحسب هذه المنظمة، يوجد أكثر من ١٣٩ برنامجاً بحثياً حول “مشروع لقاح”، في مختلف تلك المراكز، لكن أكثرها تقدّماً هما لقاحان تطورهما شركة Astra Zeneca في بريطانيا وآخر تطوّره شركة CanSino Biologics في الصين. وهذا اللقاحان أثبتا فعالية قويّة في تقوية جهاز المناعة عند الأشخاص الذين أخذوا جرعات منهما خلال التجارب السريريّة الأوّلية.
الصين تُنافس دول العالم من أجل أن تحتل المركز الأوّل في إيجاد اللقاح، لا سيما وأن حكومتها رصدت ميزانيات كبيرة من أجل قطف ثمار الأبحاث وحتى تتبوّأ المركز الأول عالمياً في هذا المجال، مما سيعزز مكانتها العالميّة
وفي آخر تقرير لها بتاريخ ٦ تموز/يوليو ٢٠٢٠، أحصت منظمة الصحة العالمية ٢١ مشروعاً جدّياً متقدّماً “جرى تجربته عند الإنسان” في تجارب سريريّة مختلفة بهدف تطوير هكذا لقاحات في دول مختلفة بحسب تقارير المنظمة التي أشارت إلى أن ثلث هذه المشاريع يتم العمل عليها في الصين التي كانت البلد الأوّل الذي ظهرت فيه أولى حالات SARS-CoV-2 أو ما سمّي لاحقاً بمرض COVID-19، ولذلك، فإن الصين تُنافس دول العالم من أجل أن تحتل المركز الأوّل في إيجاد هذا اللقاح، لا سيما وأن حكومتها رصدت ميزانيات كبيرة من أجل قطف ثمار الأبحاث وحتى تتبوّأ المركز الأول عالمياً في هذا المجال، مما سيعزز مكانتها العالميّة.
والجدير ذكره هنا أنّ معظم التجارب هي في المرحلة الأولى التي تسمّى Phase 1 وهي مرحلة تبيان أمان اللقاح أو في المرحلة الثانية Phase 2 وهي المرحلة التي يختبر فيها الخبراء فعالية اللقاح عند عدد قليل من المتطوّعين.
وكما ذكرنا سابقاً، هناك لقاحان فقط في المرحلة الثالثة Phase 3 وهي المرحلة التي يتم فيها إختبار فعالية اللقاح عند عدد أكبر من المرضى. وهذا هو الحال مع جامعة أوكسفورد في بريطانيا التي تطور لقاح شركة Astra Zeneca واللقاح الصيني الذي تطوّره شركة Sinovac Biologics الصينية بالتعاون مع معهد أبحاث برازيلي( Butantan institute).
ثانياً، التقنيات المعتمدة:
هناك ثلاثة وسائل تُستعمل عادة في تطوير اللقاحات، وهي الآتية:
أ- إستعمال الفيروس غير الفعّال او “المقتول”، وهي طريقة مُعتمدة منذ زمن طويل في تصنيع عدد كبير من اللقاحات.
هذه التقنيّة تعتمد على زراعة الفيروس في المختبر ومن ثم علاجه بطُرق معيّنة لكي يفقد فعاليته على إحداث أي ضرر في جسم الإنسان بالكامل، أي أنه يصبح غير ضار أو مؤذٍ لخلايا جسم الإنسان. ومن ثم يتم حقنه عند الإنسان لكي يفرز الجهاز المناعي عنده مواداً مضادة (أجسام مضادّة Antibody). والخطير في كل هذه العمليّة هو التأكد بعد علاج الفيروس في المختبر من أنه فقد أية إمكانية في إيذاء خلايا الجسم، أي التأكد من أنه آمن بالكامل لكي لا يتكاثر ويسبب إلتهابات خطيرة في الجسم. وهناك ثلاثة لقاحات من هذا النوع قيد التطوير في الصين، وتحديداً لدى شركتي Sinovac و Sinopharm.
ب- “لقاح محمول بواسطة فيروس آخر فاقد للفعالية”: تقنيته تعتمد على حقن جسم الإنسان بفيروس غير ضار ومُعدّل مثل الـ Adenovirus وهو يُستعمل لكي نضع في داخله الوحدات الوراثية الضرورية لصناعة بعض البروتينات الموجودة على الجدار الخارجي أو الغلاف لفيروس كورونا. وهنا تجري الأبحاث على بروتين معيّن إسمه بروتين (S) وهو بروتين موجود في النتوءات أو التيجان الصغيرة الموجودة على غلاف الفيروس، وهو المسؤول عن تفعيل جهاز مناعة الجسم تجاه الفيروس.
وعند حقن هذا اللقاح، يفرز الفيروس المحقون كميات كبيرة من هذا البروتين، وهذا ما يؤدي إلى اكتساب المناعة تجاه فيروس كورونا. وهذه الطريقة هي المُعتمدة في اللقاح الذي تطوّره جامعة أوكسفورد في بريطانيا. وهي طريقة مُعتمدة أيضاً في أبحاث تجري في مدينة Pittsburgh في الولايات المتحدة وفي مدينة Rotterdam الهولندية.
ج-تقنيات نقل الوحدات الجينية المسؤولة عن صناعة البروتينات مباشرة، وهما إثنتان:
الأولى، تعتمد على نقل قطعة معيّنة من الحمض النووي الريبي او ال RNA من فيروس كورونا وحقنها مباشرة في خلايا المريض الذي نودّ تلقيحه. وفي هذه الحالة نتكلّم تحديدًا عن القطعة المسؤولة مباشرة عن صناعة البروتين S الذي ذكرناه آنفاً. وهكذا تعمل هذه الوحدات الوراثيّة على صناعة كميات كبيرة من البروتين المذكور في داخل الجسم وتحدث المناعة ضد فيروس كورونا. والمركز الذي أحدث أكبر خرق في هذا المجال يوجد في مدينة Cambridge في الولايات المتحدة حيث تقوم شركة Moderna Therapeutics بتقييم لقاح وصل إلى المرحلة الثالثة في الأبحاث بفضل تمويل كبيرة من الإدارة الأميركية وسوف يبدأ هذا البرنامج البحثي بتجربة سريرية واسعة في ٢٧ تموز/يوليو ٢٠٢٠.
الثانية، تعتمد على نقل قطعة معيّنة من الحمض النووي أو الـ DNA. وهنا يتم وضع القطعة المسؤولة مباشرة عن صناعة البروتين المذكور أعلاه في خلايا المُلقّح المُتلقّي. وبفضل هذا التقنية هناك صناعة لكميّات أكبر من البروتين ولفترة أطول. لكن لهذه التقنية تعقيدات أكثر ناتجة عن الصعوبات التقنيّة التي لها علاقة بضخ الـ DNA في الخلايا. ومن الشركات التي تنشط في هذا المجال شركة Inovio Pharmaceuticals الأميركية التي ابتكرت طريقة معيّنة لتسهيل إدخال الـ DNA عن طريق إحداث عدة صدمات كهربائية للخلايا التي تُدخل لها هذه الوحدات الجينية الصغيرة.
وتجدر الإشارة إلى أنه في كلتا الحالتين: إستعمال الـ RNA أو الـ DNA، أثبتت دراسات جديدة أمان هاتين التقنيتين وفعاليّتهما وأنهما تسمحان باختصار الوقت بشكل كبير لتطوير اللقاح.
تُشير المعطيات إلى أن اللقاحات التي تستعمل تقنيات نقل وزرع ال RNA أو الـ DNA هي التي تتصدّر قائمة الدوائر الدولية المتنافسة لأجل تطوير اللقاح بأسرع وقت مُمكن بسبب خطورة الوضع وأعداد الإصابات والوفيّات الهائلة التي تسبّب بها هذا الفيروس
ثالثاً-الطرق الأكثر تقدّماً حتى الآن:
تُشير المعطيات إلى أن اللقاحات التي تستعمل تقنيات نقل وزرع الـ RNA أو ال DNA هي التي تتصدّر قائمة الدوائر الدولية المتنافسة لأجل تطوير اللقاح بأسرع وقت مُمكن بسبب خطورة الوضع وأعداد الإصابات والوفيّات الهائلة التي تسبّب بها هذا الفيروس. وبهذا تكون شركة Moderna Therapeutics الأميركية في صدارة قائمة مراكز الأبحاث التي تجري في هذا المحال. وقد أعلنت هذه الشركة في ١٤ تموز/يوليو أنها ستطلق في ٢٧ من الشهر الحالي أوسع دراسة سريريّة على ٣٠ ألف متطوّع في الولايات المتحدة. وسوف يُعطى نصف هؤلاء المرضى ١٠٠ ميكروغرام من اللقاح ويُعطى النصف الآخر لقاحاً وهمياً لا فعالية له (Placebo). وستبحث الدراسة عن دراجة الحماية التي سيؤمّنها هذا اللقاح وما إذا كان يحمي أيضاً من تفاقم أعراض الإصابة بفيروس كورونا في حال حدوث ذلك بعد اللقاح.
ومن المقرر أن تستمر الدراسة حتى ٢٧ تشرين الأول/أكتوبر واذا أثبت هذا اللقاح فعاليته، فإنّ الشركة وضعت كل البرامج والخطط لصناعة حوالي ٥٠٠ مليون نسخة من هذا اللقاح خلال سنة وقد يصل هذا الرقم إلى مليار نسخة خلال سنة اذا ما استدعت الحاجة. ويُعتبر هذا الإنجاز من أهم الخروقات في عالم اللقاحات لأن تطوير أي لقاح كان يأخذ عادة بين 10 و15 سنة في أفضل الأحوال.
في المقابل، وقّعت كل من المانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا عقودًا مع شركة Astra Zeneca من أجل الحصول على ٤٠٠ مليون لقاح في حال نجاح التجارب والأبحاث الجارية على اللقاح الذي تطوّره هذه الشركة في بريطانيا. ويحمل هذا اللقاح إسم AZD 122 وقد أظهرت مُعطيات علميّة مؤكدة نشرت بتاريخ ٢٠ تموز/يوليو في مجلة Lancet المشهورة، أنّ هذا اللقاح أعطى نتائج سريريّة مهمة عند ١٠٧٧ مريضاً تتراوح أعمارهم بين 18 و55 سنة يتمتّعون بصحة جيّدة. وأدّى هذا اللقاح إلى حدوث تغييرات كبيرة تشير إلى تفعيل جهاز المناعة بشكل كبير حتى بعد مرور ٥٦ يومًا على حقنه في الجسم. لكن ثمة دراسات أخرى يجب أن تشمل مرضى متقدّمين أكثر في السن أو عندهم عوامل خطورة مهمة للتعرّض للإصابة بأعراض خطيرة لفيروس كورونا. وهذا اللقاح يعتمد على حقن الـ RNA وقد اعتمد الخبراء في تطويره على فيروس يُصيب نوعا من القردة وعطّلوه وزرعوا في داخله الوحدات الجينية المسؤولة عن صناعة البروتين (S) الذي تكلّمنا عنه آنفاً.
(*) طبيب قلب وشرايين – مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود