إذاّ، وبحسب شينكر، على لبنان ألا يكون “رهينة المطالب الفلسطينية”، أي رهينة موقفه السياسي من فلسطين، كما تفعل بعض الدول العربية التي لطالما أعلنت أنها “تقبل بما يقبل به الفلسطينيون”، ولكن يبدو أن هذه المعادلة تبدلت حيث وضعت هذه الدول قواعد جديدة في كيفية تعاطيها مع ما كان يسمى بـ”الصراع العربي – الإسرائيلي” وباتت تقول، بحسب شينكر أيضا، “بينما ندعم القضية الفلسطينية، من مصلحة شعبنا اقتصاديا واستراتيجيا أن نقوم بتعاون أكبر مع إسرائيل”.
توازياً تتزايد “اللهفة” الدولية والإقليمية على لبنان، وهو بطبيعة الحال أبرز الدول المعنية بالمسألة الفلسطينية بسبب الموقف اللبناني الداعم لفلسطين سياسيا وعسكريا عبر المقاومة، ووجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
لبنانياً، يتحرك شينكر على مستويين، الأول، هو تركيزه خلال لقاءاته على الاجتماع بممثلين عن “المجتمع المدني”، دون السياسيين اللبنانيين، ما يؤشر إلى ما يمكن تسميته رؤية غربية لمستقبل العمل السياسي في لبنان، مع توجه نحو تغيير النظام باتجاه “دولة مدنية”، وهو ما عبرت عنه الطروحات الفرنسية أيضا وخطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في ذكرى المئوية. والثاني، هو العمل على استكمال المباحثات حول ترسيم الحدود البحرية مع ما يتضمن انجاز هكذا اتفاق من دلالات، ما يوحي بأن مسار التغيير السياسي الداخلي يرتبط بالنسبة للأميركيين بالموقف السياسي من قضايا المنطقة، وبذلك يتلازم المساران مع ما يطرح حول مصير نظام الطائف وثوابته السياسية أيضا.
يضع الأميركيون – حتى الآن – من خلال تصريحات مسؤوليهم تغيير النظام السياسي في لبنان ودعم الانتفاضة الشعبية في سياق إقصاء “حزب الله” والفريق الذي يمثل المقاومة، أو تقزيم دوره، وهو ما يتلاقى مع طرح جزء من مجموعات الانتفاضة، وبذلك يربطون بالمعنى السياسي بين تغيير النظام أو الإصلاحات بالحد الأدنى وبين تجريد الدولة اللبنانية من ما يعتبره فريق من اللبنانيين ثوابتها السياسية، التي تبدأ من الحفاظ على المقاومة ولا تنتهي عند الإصرار على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم المحتلة، بينما يأتي “الطرح” الفرنسي أكثر مرونة معتبراً ان الحل يجب أن يأتي عبر توافق جميع القوى السياسية وهو ما يبدو أكثر اعتدالا مقابل الطرح الأميركي. يريد الفرنسيون صيغة توافقية جديدة للنظام السياسي داخليا وخارجيا تضمن مصالحهم “مع الجميع”، بينما تمتلك واشنطن رؤية مختلفة لمستقبل النظام اللبناني وموقعه في الشقين الداخلي والإقليمي، أي موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي.
تتكدس هذه المواقف في ظل إصرار فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومنظّر صفقة القرن جاريد كوشنير على الضغط باتجاه إتمام الصفقة التي باتت بنودها واضحة، وفي طليعتها دفع تعويضات لجزء من اللاجئين الفلسطينيين مع العمل على ابقائهم في دول الشتات أو تهجير جزء منهم مجددا إلى بعض الدول الغربية، وهنا لا بد من الإشارة، إلى بندين أساسيين من اتفاق الطائف بدلالاتهما السياسية حيث يشير الاتفاق إلى “اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي” وان “لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين” في لبنان.
ليس ما تقدم دفاعاً عن اتفاق “الطائف” ولا عن أية صيغة طوائفية أخرى، بل محاولة لتدليل على حجم تعقيدات الملف اللبناني في المقبل من الأشهر، وربما الأسابيع القادمة، فالتوافق العربي الذي رعى هذا الاتفاق غائب بل بات غير معنيّ بما بدأنا بالحديث عنه من ثوابت سياسية أو اجماع حول كيفية التعامل مع الصراع “العربي – الإسرائيلي”، كما عبر شينكر بشكل واضح عن نظرة الأميركيين للبنان على أنه “رهينة المطالب الفلسطينية”، فاذا كانت طليعة هذه المطالب رفض التوطين الذي لا زال يشكل اجماعا فلسطينيا وبندا من بنود وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، فمن البديهي أن ينعكس الحل الأميركي المطروح على الميثاق اللبناني الجديد الذي تفترض واشنطن أنه، يكرس الحياد، في دولة مدنية تقبل بتوطين الفلسطينيين وبتجريدها من ثوابتها السياسية، فمن سيدفع هذه الفدية الأميركية لبنانيا.
يقول شينكر ببساطة، أيها اللبنانيون إذا أردتم الاستفادة من “آفاق السلام” الاقتصادية، والتنقيب عن الغاز الطبيعي، ادفعوا الفدية التي تحرركم، اقبلوا بالتوطين، واخرجوا المقاومة من المعادلة وتعالوا إلى حيث تتحررون من “الصراع الأيديولوجي”، وعليكم بالحياد، وسنلاقيكم لبنانيا بدولة مدنية تزيل عنكم عبء هذه الطبقة السياسية، والتحقوا بالركب العربي المسالم حتى تجدوا ما ينعشكم. ولكن مهلا يتكرر المشهد هنا، عدنا إلى منتصف الثمانينيات وعِبرها، من سيقبل بالتوطين في لبنان سيكون نفسه من سيرفع راية تقسيم هذه البلاد أو تهجير جزء من أهلها. انها الحرب إذا؟ لا تجعلونا عبرة مرتين.