

إن مقاربة مواقف فاروق الشرع في 2007-2008 من زاوية التحولات الجيوسياسية الحاصلة اليوم في الساحة العربية، يُفضي إلى القول إنّه كان يحمل رؤية استشرافية بالنسبة لغياب الدور العربي القيادي في المنطقة، خصوصًا ما يتعلق بدوري السعودية ومصر.
ففي ١٥ آب/أغسطس عام 2007، أدلى فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري آنذاك، بتصريحات خلال اجتماع للقيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، وبحضور مختلف وسائل الإعلام، انتقد فيها غياب الدور السعودي في الساحة العربية. ووصف الشرع الدور السعودي في المنطقة بأنه “شبه مشلول”، مُعربًا عن أسفه لعدم حضور السعودية اجتماع دول جوار العراق الذي عُقد في دمشق.
كان وزير الإعلام حينها محسن بلال، مُشاركاً في الاجتماع، فغادره على وجه السرعة لكي يتصل بالرئاسة السورية ناقلاً إليها ما تفّوه به الشرع حرفياً، وسارع بناء على توجيهاتها إلى مصادرة ما صوّرته وسجّلته وسائل الإعلام لكي يُصار إلى حذف فقرة انتقاده غياب السعودية عن المشهد العربي، ليس حباً بالسعودية، التي كان رئيس النظام بشار الاسد قد وصف قادتها بـ”أشباه الرجال” عام ٢٠٠٦، بل تحاشياً لأن تفهم السعودية مقصد الشرع الفعلي لجهة حث المملكة على تعزيز دورها العربي، في مواجهة تصاعد النفوذين الإيراني والتركي إقليمياً بسبب غياب الدور العربي.
لم تُفلح مساعي محسن بلال ووصلت تصريحات فاروق الشرع إلى الرياض، التي لم تُخيّب رجاء النظام، معتبرة انتقادات الشرع شخصية، وركّزت هجومها على شخصه.
وردًا على ما قاله الشرع، أصدرت الحكومة السعودية (سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية حينذاك تحديداً) بيانًا شديد اللهجة، واصفةً تصريحات الشرع بأنها “نابية” وتحتوي على “الكثير من الأكاذيب والمغالطات” التي تستهدف الإساءة إلى المملكة. وأكد البيان أن الحديث عن شلل الدور السعودي “لا يصدر عن إنسان عاقل متزن”، مشيرًا إلى أن الشرع ربما كان يقصد بسياسة الشلل السياسة التي يمثلها هو.
من جانبها، تبرأت دمشق من تصريحات نائب الرئيس السوري، وأبدت أسفها للرد السعودي، مؤكدةً حرصها على استمرار أفضل العلاقات مع المملكة والشعب السعودي الشقيق. وأشارت إلى أن التصريحات المنسوبة للشرع تم تحريفها، معربةً عن إصرارها على عدم الانجرار إلى سجالات لا تخدم سوى أعداء البلدين والأمة العربية.
طبعاً، لم تكتفِ الرياض بنقدها الرسمي للشرع، بل أوعزت لاعلامها، وتحديداً رئيس تحرير “الشرق الأوسط” طارق الحميد، لتوجيه أقذع الشتائم ضد شخص الشرع، وكأن ما صدر عن الأخير هو تعبيرٌ عن موقف شخصي تجاه السعودية!
أثبت التاريخ أن الفراغ العربي قد ملأته قوى غير عربية، وأن كلام الشرع عن السعودية ومصر كان يحمل بُعدًا استشرافيًا أكثر مما بدا في وقته، وبالتالي، يمكن القول إن التاريخ أنصف فاروق الشرع، ولكن بعد أن ظلمه النظام العربي أولاً والنظام السوري لاحقاً
***
لم ينتهِ الأمر هنا. ففي العام ٢٠٠٨، تكرّر الأمر عندما ألقى فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري آنذاك، كلمة خلال اجتماع للاتحاد الوطني لطلبة سوريا، انتقد فيها غياب الدور المصري في الساحة العربية. أشار الشرع إلى أن مصر، التي كانت تقليديًا تلعب دورًا رياديًا في القضايا العربية، أصبحت منكفئة على شؤونها الداخلية، مما أدى إلى فراغ في القيادة العربية.
هذه التصريحات أثارت ردود فعل متباينة في الأوساط السياسية والإعلامية. البعض رأى فيها دعوة لمصر لاستعادة دورها المحوري في المنطقة، بينما اعتبرها آخرون تدخلاً في الشؤون الداخلية المصرية.
تحليل موقف الشرع آنذاك يُبيّن لنا الآتي:
- الشرع لم يكن يهاجم السعودية ومصر لمجرد النقد، بل كان يدعو إلى تعزيز دورهما القيادي العربي، خشية أن تملأ إيران وتركيا هذا الفراغ.
- السعودية ومصر ردّتا عليه بقوة، ربما لاعتبارات سياسية آنية، ولم تلتقطا تحذيراته باعتبارها تعبيراً عن رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
ماذا حدث لاحقًا؛ وهل كان الشرع محقًا؟
- منذ “الثورات العربية” في العام 2011 وما تبعها من اضطرابات إقليمية، رأينا تصاعد النفوذين الإيراني والتركي بشكل غير مسبوق في العالم العربي، سواء عبر الحضور العسكري المباشر (كما في سوريا والعراق واليمن وليبيا) أو عبر توسيع شبكة النفوذ السياسي والاقتصادي.
- إيران دعمت النظام السوري وتمدّدت في العراق ولبنان واليمن.
- تركيا عزّزت وجودها في سوريا وليبيا.. وتحاول التدخل في شمال أفريقيا.
ماذا يعني كل هذا ببساطة؟
يعني شيئاً واحداً وهو أن تحذيرات الشرع لو تم الأخذ بها في حينه بجدية، لكانت وفّرت على الدول العربية، وخصوصاً سوريا، الكثير الكثير مما عانت منه حتى يومنا هذا، ولكن بدل الرد عليها إيجاباً برؤية استراتيجية، تم التعامل معها كإهانة سياسية، مما حال دون أي محاولة للاستفادة منها كفرصة لإعادة ترتيب الدور العربي.
وقد أظهرت التطورات اللاحقة أن ردة فعل كل من السعودية ومصر على تحذيرات الشرع لم تكن مدروسة استراتيجياً، حيث كان التركيز على النبرة العاطفية والسياسية بدلًا من التعامل مع جوهر المشكلة: أيُّ دور يُمكن لكل من السعودية ومصر أن تلعبه للحفاظ على موقعيتها في قيادة العمل العربي المشترك؟
لربما كانت السعودية ومصر في مرحلة ضعف سياسي أو انشغال داخلي، لكن هذا لا يعفيهما من التخلي عن دور إقليمي تاريخي كان يُمكن أن يمنع الهيمنة التركية والإيرانية.
***
باختصار؛ لا بد من الاعتراف أن الشرع لم يكن مُخطئًا في جوهر تحليله، وأن السعودية ومصر أخطأتا في التعامل مع تحذيراته من خلال وضعها في خانة “الإهانة” بدلاً من جعلها فرصةً للتفكير في استراتيجيات طويلة الأمد. وقد برهنت الأحداث اللاحقة أن غياب الدور العربي أدّى إلى تعاظم النفوذ الإقليمي لغير العرب، وهو ما كان الشرع يُحذّر منه دائماً.
في النهاية، أثبت التاريخ أن الفراغ العربي قد ملأته قوى غير عربية، وأن كلام الشرع عن السعودية ومصر كان يحمل بُعدًا استشرافيًا أكثر مما بدا في وقته، وبالتالي، يمكن القول إن التاريخ أنصف فاروق الشرع، ولكن بعد أن ظلمه النظام العربي أولاً والنظام السوري لاحقاً.