الرصاص الطائش زينة الرجال.. الأغبياء!
640940353MT00050_England_v_

"شعرتُ بنارٍ تجتاح صدري. الدمّ ينزف منّي. أنا أموت"، هذا ما قاله شابٌ لبناني نجا من الموت بأعجوبة. فلقد اخترقت رصاصة طائشة صدره (قبل أربع سنوات)، بينما كان يسير في الشارع مع أفراد عائلته في الضاحية الجنوبيَّة لبيروت. "كانوا يحتفلون بالفوز في الانتخابات البلديَّة.. فيما كنّا نبكي دماً"، تعلّق والدة الشاب المصاب بالرصاص والذي باتت حياته مسلسل رعب، كما يؤكّد.

“الموت بالرصاص الطائش” بدعةٌ من البدع المُبتدَعة لشعب لبنان. هي لعبة الموت المعروفة من الجميع. لكنّ الفرق يكمن في نقطةٍ جوهريَّة. أنّ مَن يموت بالرصاصة (الطائشة) ليس اللاعب الانتحاري مع الموت، بل هو الآخر البريء الذي لا حول له ولا خيار أو قرار في لعبة المجازفة بالحياة هذه. لذا، ومع اختلاف الأدوار، يصبح اللعب بالموت الطائش جريمة موصوفة. إذْ يصبح القتل متعمَّداً، وليس عشوائياً. لأنّ مَن سيموت معروف: الأبرياء. ولأنّ مَن يُطلِق الرصاص في الهواء يعرف أنّه يقتل أرواحاً، في المقلب الآخر. هو مجرمٌ مستتر، إذن، مع وقف التنفيذ. لكنّه مجرمٌ مريض، ومرضه معروف. مرضه الجهل والغباء والعنجهيَّة (غالباً)، ولا إمكانيَّة لشفاء هذا المرض إلاّ بإنزال أشدّ العقوبات بحقّ العليل (السجن مع الأشغال الشاقة مثلاً).

فمثلما لا يعرف الكثير من الناس ما تعنيه كلمة رصاص طائش، لا يعرف معظم مُطلِقي هذا الرصاص النتائج المترتِّبة على إطلاق العيارات الناريَّة من سلاحهم الرشّاش. وهنا بضع أسئلة لا بدّ من الإجابة عليها: ما هو الرصاص الطائش؟ ما الذي يحدث، في الواقع، للرصاصة التي تُطلَق في الهواء؟ أي الرصاصة التي تُطلَق مباشرةً نحو الأعلى؟ إلى أيّ ارتفاع تصل هذه الرصاصة؟ وما الذي يجعلها تسقط على الأرض؟ متى وأين تنزل؟ ولماذا تؤذي، طالما أنّها فارغة من حشوتها المتفجّرة؟

إذا كان سهلاً معرفة معنى الرصاصة الطائشة في اللغة، فالإجابة “فيزيائيّاً” على هذه الأسئلة ليست بسيطة بالضرورة!

تعني الرصاصة الطائشة، الطلقة التي صدرت صدفةً من سلاحٍ بلا قصد أو هدف. هذا في اللغة. أمّا في علم الفيزياء، فهي تعني الرصاصة الفارغة من حشوتها، والتي تعود وتهبط على الأرض (أي غلافها النحاسي تحديداً) بعدما تخبو قوة الدفع في آخر نقطة يصل إليها مسارها (trajectoire). ومن الصعب التنبّؤ، طبعاً، بالمكان الذي يمكن أن تصل إليه الرصاصة. لكن، من المعلوم أنّها في رحلة هبوطها إلى الأرض، تزيد سرعتها باضطراد، كون هذه السرعة ناتجة عن حركة التدفّق الحرّة (mouvement de chute libre). وفي كتابه المنشور عام 1947 “مفكّرة هاتشر”، يؤكّد الجنرال الأميركي جوليان هاتشر أنّ رصاصةً (من عيار30) إذا أُطلِقت من بندقيَّة عموديّاً نحو الأعلى ستصل إلى ارتفاع 9000 قدم (2743.2 متراً) خلال 18 ثانية ثمّ تعود إلى الأرض في غضون 31 ثانية أخرى.

لماذا الحديث اليوم عن الرصاص الطائش، بينما لبنان يعوم على جبل نفاياته وأزماته وارتكابات حُكّامه؟

في الساعات الأخيرة، شيّع اللبنانيون ضحيّتيْن لهذا الرصاص، إحداهما لاعبُ كرة القدم المعروف محمد عطوي. أمّا الضحيَّة الثانية فهي سيّدة من مدينة طرابلس. نعم. ومن جديد يحصد الموت المجّاني الغدّار الأبرياء في لبنان. يسقطون في الشوارع أو داخل بيوتهم، واحداً تلو الآخر، من مختلف الأعمار والأجناس والجنسيّات. يحصدهم الرصاص “الموالي” و”المعارض” و”الممانع” و”الخائن” وكامل الأوصاف، أيضاً، في كلّ المواسم. إنّه جنون السلاح المتسيّب الذي تمتشقه الأيدي، بسرعة البرق.

فلا نعرف من أيّ مخدعٍ امتُشِق، ولا إذا كان مرخَّصاً له أم لا. يلعلع من على السطوح، من الأزقّة الضيِّقة، من الساحات. لا فرق. في كلّ وقتٍ ينطلق. وابلاً من الرصاص في الهواء (وأحياناً فوق الرؤوس ببضعة سنتيمترات)، رشقات في المناسبات الاجتماعيَّة وبعد الخطب السياسيَّة وعند الاستحقاقات الرسميَّة. لا من حسيبٍ أو رقيب. ولا أحد بعيداً عن مرمى الرصاص الطائش. منذ سنواتٍ طويلة وهذه الظاهرة القاتلة تتدحرج ككتلة ثلج ونار. لم تعرف أن تتوقّف. ولا يُراد لها، كما يبدو، أن تتوقّف. ولماذا تتوقّف، طالما هي تؤذي وتقتل هذا الشعب؟ حُكّامنا، يا أصدقاء، يكرهون هذا الشعب ويسعون للخلاص منه بكلّ الطرق. قلناها مراراً فعذراً للتكرار. وإذا كان هذا الكلام تجنّيّاً، فلماذا لا يُلاحقون، إذن، مرتكبي جرائم القتل بالرصاص الطائش!

كلّ مُطلِق للنيران، يعرف أنّه القاتل المفترض والافتراضي لضحيَّةٍ ما، متى أُعلِنت هويتها. فعندما تتوقّع القوى الأمنيَّة مصدر الرصاص الذي سقطت جرّاءه الضحيّة، وتحدِّد هذه المنطقة أو تلك، يمكن للمجرم المستتر أن يعرف أنّه مجرم مفترض! لأنّه يعرف أين كان يُفرِّغ سلاحه. لكن حتى لو عرِف، فالأكيد أنّه لا يشعر بشيء

هل من أرقامٍ عن عدد الضحايا؟

لا توجد إحصاءاتٌ دقيقة حول عدد الإصابات بالرصاص الطائش. فهذه الظاهرة لا تنحصر في منطقةٍ واحدة، وليست حكراً على مجموعة أو طائفة معيّنة. بل إنّها تعمّ لبنان، من أقصاه إلى أقصاه. أي، هي قضيَّة وطنيَّة بامتياز. عشرات القصص تنقلها الأخبار، عن أطفال وكبار قضوا برصاصٍ مبتهج أو حزين أو مُفاخِر. فلا تكتمل فرحة العروسيْن إلاّ بالرصاص. ولا تكتمل فرحة العائلة بولادة طفل إلاّ بالرصاص. ولا تكتمل فرحة ناجح بشهادة إلاّ بالرصاص. ولا تُرقَّص النعوش إلاّ على وقْع الرصاص. ولا يفهم الزعيم المفدّى بأنّنا عبيده ورهْن إشارته إلاّ بإطلاق الرصاص. ولا تستطيع حاشية خصم الزعيم المفدّى إيّاه أن تفهم التحدّي إلاّ بإطلاق “القطيع” للرصاص.. وهكذا.

إقرأ على موقع 180  في وداع طلال سلمان.. «إبن الدركي» على خطى «إبن البوسطجي»

لكنّ المفارقة (وربّما ليست مفارقة)، أنّ اللبنانيّين لا يطلقون الرصاص أبداً، تعبيراً عن غضبهم من واقع أكثر من مُذلّ، ولا يطلقونه احتجاجاً على قمعهم وقتلهم وسرقتهم، ولا رفضاً لاستغبائهم والاستمرار بالتآمر عليهم، ولا انتقاماً للكرامات المهدورة على أبواب الزعماء. وهذا طبيعي. فهكذا رصاص يكون، عادةً، ذكيّاً وهادفاً وذا عنفوان. ولا ذكاءً وأهدافاً وعنفواناً للرصاص المتفلّت. فشرعة هذا الرصاص كي تسود شريعة الغاب، هو الغباء والجهل والرعونة!

هل مَن يحاسب زارعي الموت المجّاني هذا؟ كلا.

فما يؤلم أهل الضحايا أكثرَ من موت أحبابهم، قد يكون وجود نصوص قانونيَّة تجرِّم إطلاق الرصاص لكنّها تبقى في بلادنا حبراً على ورق. إذْ، بحسب المادة 75 من المرسوم الاشتراعي الرقم 137 الصادر عام 1959 والمعدّل عام 1966، فـ”إنّ كلّ مَن يُقدِم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة أو في حشدٍ من الناس، من سلاحٍ مرخّص أو غير مرخّص به، يعاقَب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات”. وبرأي النائب السابق غسان مخيبر (الذي كان مقرِّر “لجنة حقوق الإنسان” في مجلس النواب اللبناني)، فإنّ ظاهرة إطلاق “الرصاص الطائش” ترتقي إلى شيءٍ من الجريمة المتمادية. وقد تقدّم، هو مع عشرة نوّاب من مختلف الأحزاب اللبنانيَّة الموجودة في السلطة، باقتراح قانون عام 2016. يطالب هذا الاقتراح، بتشديد عقوبة السجن حتى 20 عاماً ورفع قيمة الغرامة حتى 12500 دولار، وبإنزال العقوبتيْن معاً بحقّ كلّ مَن يطلق الرصاص وبتجريده من سلاحه. لكن هناك نقطة مهمّة جداً؛ فإطلاق الرصاص العشوائي في الهواء يحصل من أكثر من شخص في المكان الواحد، ما يصعّب الاعتقالات والتوقيفات والمحاسبة، تالياً. حتى المحاسبة، يستهتر بها الناس. ففي لبنان المحكوم من العصابات والقَتَلة المأجورين (كونهم يتلقون المال مقابل قتلنا)، تصبح أيّ مطالبة بمعاقبة مطلقي الرصاص كلاماً خارجاً عن السياق. لذا، كلّ ما تفعله السلطة، لحفظ ماء الوجه فقط، هو إطلاق بضع مناشدات رسميَّة أو تحريمات دينيَّة، لا تصل إلى آذان الناس. فصوت الرصاص يعلو ولا يُعلى عليه!

ولكن مَن يحمل هذا السلاح؟

وفق بعض التقديرات، فإنّ هناك أربعة ملايين قطعة سلاح في المنازل اللبنانيَّة. وينتشر السلاح الحربي انتشاراً واسعاً جدّاً عند اللبنانيّين منذ القِدم، وزاد بعد الحروب المتكرّرة ولا سيّما بعد الحرب الأهليَّة عام 1975. إذْ بات يتركّز السلاح بيد مجموعاتٍ كبيرة، سواء منها مليشيات حاليَّة أو مليشيات سابقة (لم تسلِّم كلّ سلاحها بعد انتهاء الحرب عام 1990). وقد تعزّز ذلك خلال الحرب الأهليَّة، وتطوّرت النزعة إلى حمل السلاح، مع الشعور باللاستقرار الدائم بسبب الوضعيْن الأمني والسياسي. لكنّ استخداماته الراهنة، لا تمتّ بصلة إلى هذا اللاستقرار. بل هو شكلٌ من أشكال “الزعرنة والبطر”. فهناك أشخاص يعتبرون أنفسهم فوق القانون، لأنّهم محميّون سياسيّاً بأحزاب ونواب ووزراء ومافيات ومرجعيّات دينيَّة.

بماذا يشعر مطلق الرصاص؟ أي ذاك المجرم المستتر عندما يسمع بنبأ وفاة إحدى ضحاياه؟

بديهيّاً، لا يمكن تحديد المسؤوليّات في حالة الموت بالرصاص الطائش. هذا شيء مستحيل. فأيّ مُطلِق للرصاص يمكن أن يكون المسؤول عن مقتل الضحيَّة، أو لا يكون. وكلّ مُطلِق للنيران، يعرف أنّه القاتل المفترض والافتراضي لضحيَّةٍ ما، متى أُعلِنت هويتها. فعندما تتوقّع القوى الأمنيَّة مصدر الرصاص الذي سقطت جرّاءه الضحيّة، وتحدِّد هذه المنطقة أو تلك، يمكن للمجرم المستتر أن يعرف أنّه مجرم مفترض! لأنّه يعرف أين كان يُفرِّغ سلاحه. لكن حتى لو عرِف، فالأكيد أنّه لا يشعر بشيء. لا يشعر بأيّ تعاطف أو أسى مع الضحيّة أو أيٍّ كان. لماذا؟ لأنّه، بالتأكيد، شخص غير مسؤول وجاهل ومن دون أحاسيس (فلو كان العكس هل كان أطلق النار؟). ولأنّه، بالتأكيد، سيبرّئ نفسه في كلّ مرّة، باعتبار أنّ غيره كان يطلق الرصاص، أيضاً!

من يوقف هذه الهستيريا؟

من دون شكّ فإنّ هذه الظاهرة تعود إلى ثقافة سائدة تنبع من افتخار كلّ رجل لبناني بوجود السلاح في منزله وتوريثه لأهله (السلاح زينة الرجال!). المسألة تُعتَبر، إذن، جزءاً من المنظومة الفكريَّة في لبنان، على مستوى الفرد والجماعة. يقول الكاتب الإيطالي Edmondo de Amicis، إنّ “تقييم التربية السليمة يتمّ بشكلٍ أساسي في الشارع”، أي إنّ حكومات الدول المتحضّرة، تجهد لوضع وتطبيق مناهج تنشئة وتعليم وطنيَّة، تقوم على احترام الفرد للقانون ولحقوق الغير الأساسيَّة، مقابل احترام المجتمع لحقّ هذا الفرد بالعيش بكرامة وسلامة واطمئنان. هذا يحصل في الدول المتحضّرة. ما يعني، تلقائيّاً، أنّنا لسنا معنيّين بهذا الكلام، ولا بكلّ الموضوع أصلاً. فاقتضى التنويه و.. التحسُّر على الضحايا.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هكذا تكلّم اللواء ناصيف.. من إغتال الحريري؟