عندما يريد النظام إسقاط الشعب!

يؤكّد العارفون في علم الأحياء، أنّ الضفادع إذا وُضعَت في مياهٍ ساخنة لدرجة الغليان، فإنّها تقفز منها على الفور لتنقذ حياتها. أمّا إذا وُضعَت في مياهٍ عاديّة، ثمّ قُمنا بغلي تلك المياه (مع الضفادع) على مراحل، فإنّها تبقى ساكنة في داخلها حتّى تموت.

هذا هو حال بعض الشعوب والمجتمعات في العالم. هذا هو حالنا، بالضبط، في لبنان. لقد وضعتنا الطبقة السياسيّة الحاكمة، في مياه الأزمات والنكبات والمصائب. وبدأت تغلي الخليط على نارٍ خفيفة. شهور طويلة في سنةٍ جهنميّة، بكلّ المقاييس، كانت كفيلة بإيصال المياه، التي غرقنا فيها، إلى درجة الغليان. انظروا إلى أرواحنا كيف تعلو فوق القِدْر مع البخار. كلّ شيءٍ في مشهد مصرعنا المعروض على شاشةٍ عملاقة، يوحي بأنّنا، نحن ضفادع القرن الواحد والعشرين، اقتربنا كثيراً من الهلاك. خلاصة أساسيّة أرادها العلماء، من وراء تجربتهم المخبريّة التي بدأنا بها هذه السطور. هم هدفوا إلى إفهامنا، أنّ الكائن الحيّ يتقبّل، مع الوقت، ما كان يرفضه، ربّما، إذا فُرض عليه قسراً. اللبنانيّون أثبتوا، بالملموس، تلك التجربة العلميّة. هم قبلوا وتقبّلوا الواقع الذي فُرِض عليهم. لقد ابتلعوه على جُرعات، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً. كيف؟

مع الوقت، تكيّفوا، مع اللّاعيش. دخلوا إلى جحيمٍ، بخمس نجوم، على أقدامهم. تعوّدوا على تقبُّل كلّ المشاكل والمصائب والكوارث التي اجترحتها لهم السلطة. بل، بمعنى أدقّ السلطات الثلاث، التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة. تعوّدوا إلى حدٍّ، بات بإمكانهم معه مساكنة المهانة. تمرّسوا على ابتلاع كبسولات الذلّ كالدواء، صبحاً وظهراً ومساءً. فهكذا، أصبح انتهاك كلّ حُرمة، بمرور الزمن، مقبولاً. وبات التعايش مع كلّ أزمة، بمرور الزمن، سهلاً. و”مَن يَهُن يسهل الهوان عليه…” كما يقول الشاعر. لذا، أمسى التأقلم مع هذا الهوان، بعضاً من مظاهر حياتنا اليوميّة. ويمكن توصيف السنة الفائتة، في الحقيقة، بأنّها كانت سنة ترويض اللبنانيّين وتدجينهم! راقبوا واحكموا.

لو قال قائلٌ للّبنانيّين، قبل اليوم، إنّ “قادة” دولتكم سيسرقون مالكم الخاصّ، ويحوّلونه إلى حساباتهم في الخارج، هل كانوا ليصدّقوا؟ بالطبع لا. لو قال قائلٌ للّبنانيّين، قبل اليوم، إنّهم سيقفون في العام 2020 طوابير طويلة كي يشحذوا رواتبهم من المصارف، هل كانوا ليصدّقوا أيضاً؟ بالطبع لا. ولا حاجة إلى سرد مزيدٍ من الأمثلة، تفادياً للتسبّب لكم بالدوار والغثيان. غريبٌ عجيبٌ أمر هذا الشعب! كيف يحصل له ما يحصل، هو الذي رقصت قلوب العالم، ذات تشرين، مع حناجر ثواره وهي تتوعّد الأوغاد وتحتجزهم في أوكارهم؟ فعلاً أمرٌ لا يُصدَّق حتّى في المنام! ولا بدّ، قبل الإجابة على هذا التساؤل، الإشارة إلى أنّ المواطن اللبناني هو إنسانٌ مهدور.

ماذا يعني ذلك؟

الإنسان المهدور، هو الإنسان الذي تُهدَر إنسانيّته. وهدر الإنسان متعدِّد الأشكال والمستويات؛ بدءًا بهدر الدم والتجريم والتحريم والتهجير والإبعاد والنفي في الوطن وخارجه، مروراً بالاستبداد وآليّات التحكُّم بالسلوك وتدجين فكره ووعيه، وصولاً إلى كافّة ألوان الهدر الوجودي له في الحياة اليوميّة. وهدر إنسانيّة الإنسان، قيمةً وحقوقاً وكياناً، هو، بطبيعة الحال، أشدّ حالات الهدر كارثيّة. إذْ يقوم فيه “الهادِر” بعمليّات تدميرٍ نفسي مبرمج (الهادِر في حالتنا هو الطبقة الحاكمة). تدميرٌ، يتوسّل شتّى آليّات التتفيه لكفاءات المرء والتهميش لمهاراته والإلغاء لشخصيّته عبر التخويف والترويع والتعنيف والتعدّي على روحه وفكره وحرّيته وجسده. ويمكن اختصار كلّ هذا “النهج”، في التصويب على هدفٍ واحد: تعميم ثقافة الكُساح. وما هي ثقافة الكُساح هذه؟

الأنظمة الاستبداديّة (ولو كان استبدادها مموَّهاً مثل حال نظامنا اللبناني)، لا يمكنها أن تحيا بدون استيلاد القطعان. هي تصنّعها تصنيعاً

إنّها ثقافة تقوم على قلب المعايير رأساً على عقب (وما أدراك في لبنان ما هي هذه المعايير!). ثقافة تشتغل على استلاب فكر اللبنانيّين، ليصبحوا أشخاصاً طيّعين ليُصابوا بالذُهان (ما تعرفونه بأسماء أمراض مثل الشيزوفرينيا أو الفصام أو انفصام الشخصيّة). هو باختصار اضطراب نفسي، يجعل اللبنانيّين المرضى مستَلَبين لا يسمعون بتركيزٍ إلاّ لأولئك السفهاء والمرائين. يُنصتون إليهم ينصحونهم، بأن يتخدّروا ولا يتحرّكوا لأنّ “البعبع” يقف خلف باب الدار. يهمسون لهم، عبر أجهزتهم وقوّاديهم ومستشاريهم وإعلاميّيهم ومنجّميهم: “إذا عرفتم السوء الذي ينتظركم لما خطوتم خطوة. لو علمتم الغيْب لاخترتم الواقع” (إنّه كيّ الوعي الذي تحدّثنا عنه قبل أسابيع). وكيف يتفاعل اللبنانيّون؟

ترتجف قلوبهم الحبلى بالهمّ والغمّ. فتسمعهم يردّدون في سرّهم: “علينا ألاّ نخاطر بأنفسنا وبأولادنا. علينا ألاّ نتزحزح قيد أنملة من مكاننا”. فثقافة الكُساح هذه، تعبّد الطريق إلى ثقافةٍ أخرى تُسمّى ثقافة القطيع. وتعني هذه الثقافة، في ما تعنيه، السقوط في مهاوي التصديق Crédulité. أي، إيمان الإنسان الساذج، بكلّ ما يُقال له. وهذا الإيمان هو، بدوره، مرضٌ ذهني وليس نفسيّاً (مثل الذُهان). يعوّق الإنسان اللبناني، عن تحصين ذهنه ضدّ ما يصدر عن أباطرة الجهل والتجهيل والإجرام. فهؤلاء أمسوا في حياته، وبقدرة قادر، نجوم هذا الزمن وسادة هذا الشعب. هم يوحون إلى هذا الشعب، بأنّ نصيبه من هذه الحياة ينحصر في تلقُّف الخراب، وما عليه سوى بالقبول والتسليم. وفي الاستماع، بصبرٍ موصوف، إلى خطب وهذيان زعمائه السياسيّين وتجّار الدين والهيكل. يا للخطب الرنّانة والهذيان المقزّز! أفكار مستعادة، وألفاظ مكرورة، وسجالات يجترّونها اجتراراً ويقذفون بها للجماهير.

هم، للأمانة، مثل المجترّات. لهم معدة كبيرة جدّاً (بأربع حجرات)، اتّسعت لكلّ ما ابتلعوه من خيرات الدولة. إنّما الفرق، بينهم وبين الحيوانات المجترّة، أنّ هذه الأخيرة تبتلع الطعام لكنّها تستعيده لتعيد مضغه. وهم لا يستعيدون أو يعيدون شيئاً. لا نعرف ما هي حكمة الطبيعة، لخلق هكذا صنفٍ من الحيوانات. ولا نعرف ما هي الحكمة الإلهيّة، لخلق هكذا صنفٍ من السياسيّين. يقولون “للّه في خلقه شؤون”. لكنّ الأكيد، أنّ كلّ ذلك يفضي إلى نتيجةٍ واحدة: تحويل هذه الجماهير إلى قطعان بأذانٍ من دون أذهان. أليْس هذا ما وصفه عالم الاجتماع الألماني سيرج تشاكوتين بـ”اغتصاب الجماهير” عن طريق البروباغندا السياسيّة؟ بلى. فالأنظمة الاستبداديّة (ولو كان استبدادها مموَّهاً مثل حال نظامنا اللبناني)، لا يمكنها أن تحيا بدون استيلاد القطعان. هي تصنّعها تصنيعاً.

بذل أرباب النظام اللبناني جهوداً حثيثة، وعلى أكثر من جبهة، كي يحوّلوا شعبنا إلى شعوب غريزيّة متناحرة. تدعمها وتحصِّنها زعامات الطوائف التي باتت خارجةً على القانون

و”بالعودة إلى قطيعنا”، كما يقول الفرنسيّون ليستكملوا الحديث المقطوع، فإنّه صورة للتجمّع في البلدان المغتَصَبة عقول شعوبها وأرواحهم. وهناك شبه اتفاق على القول، إنّ البشريّة تنحو، بشكلٍ غريزي أو بدافعٍ نفسي أو اجتماعي أو سياسي، إلى التجمّع في صورة القطيع أو الجماعة أو الحزب أو الطائفة أو غيرها من أشكال التجمّعات. فهذا هو الشكل “البدائي” للمجتمع الإنساني، والذي أشار إليه العالم البريطاني ومؤسّس نظريّة التطوّر تشارلز داروين. وصّفه‏ بـ”الحشد أو القوم الخاضعين للهيمنة المطلقة من لَدُن فحلٍ قوي”. وهذا الفحل القوي يمكن أن يتجلّى بصورٍ عديدة. من بينها صورة “الزعيم” الذي يخطب من أعلى شرفة قصره، كما فعل، ذات زمن، ديكتاتور إيطاليا الفاشي موسوليني!

إقرأ على موقع 180  أساطير إسرائيل الهرمة.. ووحدة المصير الفلسطيني

بذل أرباب النظام اللبناني جهوداً حثيثة، وعلى أكثر من جبهة، كي يحوّلوا شعبنا إلى شعوب غريزيّة متناحرة. تدعمها وتحصِّنها زعامات الطوائف التي باتت خارجةً على القانون. استراتيجيّة أساسيّة تحكم السياسة التي يسوس بواسطتها أركان هذه الطبقة الحاكمة هذه البلاد. إنّها استراتيجيّة التلاعب النفسي (manipulation)، التي تعني نوعاً من التأثير الاجتماعي الهادف، من خلال تكتيكات مسيئة أو خادعة أو خفيّة، إلى تغيير نظرة وسلوك الآخرين ليصبحا على الصورة المطلوبة. وأبرز أدوات اشتغال هذه الاستراتيجيّة، هي تخويف الناس من بعضهم البعض ومن “الأيادي الخارجيّة”. رهيبٌ تفوّق حُكّامنا في خداع الناس. والخداع، على فكرة، أفظع من القتل. رهيبةٌ جرأتهم في الفشل. رهيبٌ نشازهم في معزوفة التفاهة التي تُطرَب لها شعوبهم. أي، ناسهم الذين تمّ “اغتصابهم” (تذكّروا نظريّة تشاكوتين) ويعتقدون أنّ البلاد بألف خير. يظنّون، أنّ هذا النظام ومنظومته هما الأمثل لحمايتهم من كلّ الشرور. وبعد؟

القضاء للضعفاء، كما يقول أحد حكماء لبنان. وجميع حُكّام لبنان أقوياء، نقطة على السطر

نحن نغوص في مياه ثقافتيْ الكُساح والقطيع (المشار إليهما آنفاً) التي تغلي. لا يمكن إلاّ أن تفضيا إلى موتنا السريري. إلى استسلامنا المدوّي. لقد استسلم اللبنانيّون لهذه الطبقة السياسيّة اللعينة. ولا يبدو أنّهم يفكّرون في الانتفاض على أنفسهم المستسلمة. يبحثون عن الهروب بعيداً. لقد أقنعهم القابضون على أرواحهم ومصيرهم، بأنّ الآتي أعظم. بأنّ ما ينتظرهم، هو أسوأ ممّا هم فيه. بأنّ المستقبل أسود كظلمة الليل. بأن خلاصهم هو أن يتقبّلوا ما يقولونه لهم، وأن يجعلوه تعويذة يعلّقونها حول أعناقهم أو في ثيابهم الداخليّة. تعويذة على غرار “تعويذة الربط المثيرة” المصنوعة من ورق البردي المصري. تعويذة يقول العلماء العاملون على ترجمتها، إنّها كلمات كتبتها قبل 1800 سنة إمرأة إسمها تارومواي، كانت تريد جذب رجلٍ يدعى كيفالاس. حُكّامنا هم تارومواي هذا العصر. واللبنانيّون هم كيفالاس هذا الزمن. وبفعل هذه التعويذة، بات اللبنانيّون مقتنعين بستّة أمورٍ لا مفرّ منها:

الأوّل، أنّ هناك جرائم تُرتكَب في البلد، لكن ليس هناك من مجرمين. وعليه، يجب العمل، برأيهم، بمقولة الكاتب البريطاني جورج أورويل “لغة السياسة تمّ تصميمها لتجعل الكذب يبدو صادقاً والقتل محترَماً”.

الثاني، لا داعي لأن يكون هناك سياسة في البلد. وإنْ وُجِدت، فهي ليست فنّ إدارة شؤون البلاد والعباد، بل فنّ إدارة مصالح الزعماء والسياسيّين وتعطيل الحياة العامّة والمؤسّسات الدستوريّة.

الثالث، يمكن أن يبقى لبنان من دون حكومة، وأيضاً من دون رئيسٍ للجمهوريّة (إذا لزم الأمر). ألَمْ نعشْ، طوال سنتيْن ونيّف، من دون رئيسٍ للبلاد؟ بلى وألف بلى. وإذا أردتم أكثر، بنظرهم، لا حاجة لنا للنواب. ولا لتشريعاتهم أو استعراض عضلاتهم أمام ناخبيهم. لا داعي لذهابهم، في الأساس، إلى البرلمان. فحضورهم وغيابهم سيّان، طالما أنّ الرئيس الأغرّ للمجلس النيابي يستطيع أن يصوّت على القوانين وحده، وبلمح البصر.

الرابع، نحن نحتاج لصنفٍ واحد من المسؤولين والحُكّام. صنف يشبه “خيالات الصحراء”، يمكنه، في الوقت عينه، أن يعيث في البلاد فساداً، كيفما اتّجه. وأن يخرّب كلّ ما يقع تحت يديْه أو لا يقع، كلّما استطاع إلى الإفساد والخراب سبيلاً.

الخامس، ممنوع أن يكون هناك قضاء أو سلطة قضائيّة. أصلاً، بات معظم القضاة يعلمون أنّهم موجودون، فقط، للبتِّ في أمور الناس. لكن، ليس لهم أيّ “عمل” مع الوزراء والنواب والرؤساء وعائلاتهم، وكلّ مَن يشدّ على مشدّهم. فالقضاء للضعفاء، كما يقول أحد حكماء لبنان. وجميع حُكّام لبنان أقوياء، نقطة على السطر.

السادس، بحلول السنة الجديدة، يجب أن يتغيّر الهتاف الصادح “الشعب يريد إسقاط النظام” ليصبح، بحسب التوقيت الشتوي، “النظام يريد إسقاط الشعب”.

كلمة أخيرة. في مجتمعات القمع، يضع الحُكّام نصب أعينهم هدفاً عظيماً، يسعون إلى تحقيقه بشتّى الطرق. هذا الهدف يقول، إنّه لا بدّ من أن يتغيّر “شيءٌ ما” في الإنسان، لضمان انصياعه التامّ والدائم. يجب أن يغدو شعوره بالأمان، شعوراً ثابتاً بالقلق. عندها فقط، يصبح لدى هذا الإنسان “استعداد لقبول أيّ إيديولوجيا وأيّ قائد”، يؤكّد الفيلسوف والعالم النفسي الألماني إريك فروم في كتابه الشهير “الهروب من الحريّة”. أما آن الأوان لهذا السبات العميق أن ينتهي؟ إقتضى هروبنا.. إلى الحريّة.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الدينُ في خدمة العقل..وإلا هزيمةً وذلاً بعد ذُل