بقوة الحقائق فإننا أمام ثورة كبرى في وسائل الاتصال لم تتضح كامل ملامحها، مزاياها ومزالقها، ولا مدى ما قد تدخله من تغييرات على نظريات الصحافة، ولا قدر ما تؤثر على حركة الإبداع الفني والأدبي وسوق النشر.
كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول جوهرية في إيقاع الحياة، فكل شيء سريع من الخطوة إلى الوجبة إلى المعلومات والفكر وصياغة الخبر وعدد كلمات المقال.
نشأت نظريات ومدارس في الصحافة والإعلام حاولت أن تستجيب لروح العصر ومذاقه وإيقاعه تأثرا بالنموذج الأمريكي.
مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي بدأت تجربة الـ(CNN).
كان ذلك إعلانا عن «العصر الفضائي»، اتسع نطاق جمهوره وطبيعة محتواه، حتى أصبحت الثورات والحروب والجوائح والكوارث الطبيعية تنقل بالبث المباشر لجميع أرجاء المعمورة في اللحظة ذاتها.
«لكل زمن حواره وحوار هذا الزمن لا يتكلف شيئا لفك رموز ما هو مكتوب على ورق».
«إن أي مهتم بالشأن العام سوف يتابع الخبر صورا متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها».
«كل أسطح الحوادث مكشوفة تحت الومضات السريعة».
«الكلمة في جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر».
«في العصر الإلكتروني أريد أن أعرف ما الذى دار همسا في أية لقاءات قمة لها أهمية بعد أن رأيت الصور الملونة على الهواء مباشرة».
هكذا تحدث الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ذات حوار بيننا عن مستقبل مهنة الصحافة والإعلام فى العصر الإلكتروني.
لا يملك أحد، أيا كانت دوافعه ونواياه، أن يعاند الزمن وحقائقه المستجدة.
لم يكد هيكل يطالع النص ويشرع في القول: «هناك بضعة ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالبا إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقيا أوراقه في سلة مهملات. لم يكن «الحكيم» مستريحا لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها
كيف نحفظ مستقبل الصحافة الورقية في العصر الإلكتروني؟
الأحكام المطلقة خطيئة كاملة.
لكل شيء أصول وضرورات.
الحرية أصل أول، وإلا فإن الموت السريري مؤكد أمام الحريات المتاحة بلا قيود تذكر لوسائل الاتصال الحديثة.
المهنية أصل ثان، حتى يكون هناك ما يدفع القارئ لشراء صحيفته واثقاً من صحة ما ينشر فيها أمام فوضى وعشوائية وغياب القواعد في الإعلام البديل.
إحترام التعدد وحرمة الحوار العام أصل ثالث أمام ضراوة انتهاك الحرمات العامة وإغتيال الشخصية على صفحات التواصل الاجتماعي.
الأهم من ذلك كله أن يكون لدى الصحيفة ما تقوله وما تغطيه بالعمق مختلفا عما يبث بالومضات السريعة على شاشات الهواتف المحمولة، مقترنا بالحفاظ على الأصول والقواعد المتعارف عليها دوليا، التي تضفي على المهنة احترامها وقدرتها على الوفاء بمهامها وأدوارها في تبصير الرأى العام بحقائق ودخائل ما يحدث في وطنه وعالمه دون تدليس عليه بأخبار مزيفة أو غير مدققة.
قوة العصر الإلكتروني في اتساع منصاته على التنوع والتعدد وسرعة نقل الخبر وإدخال المواطن العادي شريكا بالرقابة على أداء المؤسسات العامة، وهو ما يغيب فى العادة عن الصحافة الورقية.
أسوأ ما في ذلك العصر ما يتبدى فيه من يقين مفرط في تداول الأخبار والآراء، بلا استعداد للتدقيق والمراجعة.
عندما تغيب الروح القلقة، التي تدقق وتضبط الصياغات قبل أن تنشر يزهق أي إبداع وتغيب أية قدرة على الإقناع.
في منتصف ستينيات القرن الماضى انتابت رائد المسرح العربي «توفيق الحكيم» أحوال قلق من مقال انتهى من كتابته للتو.
خطر له أن يسأل صديقه رئيس تحرير «الأهرام» «محمد حسنين هيكل» أن يقرأ ما كتب قبل أن يدفع به إلى المطبعة.
أجابه: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأي قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أيا ما كتبت ولا تراجع أحدا».. وفى يقينه قاعدة استقرت عنده: «عندما يكون لصاحب الرأي تجربة عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسئوليته أمام الرأي العام ولا شأن لأي رئيس تحرير بما يكتب».
ألح عليه أن يقرأ ما كتب وأن يسمع ملاحظاته.
لم يكد هيكل يطالع النص ويشرع في القول: «هناك بضعة ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالبا إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقيا أوراقه في سلة مهملات.
لم يكن «الحكيم» مستريحا لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها.
القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعا يبقى، أو يفضي إلى رؤية تختلف.
في القلق سعي إلى شيء من الكمال لا يُدرك لكنه يُطلب.
كان «هيكل» يتملكه قلق مماثل، يلازمه قبل الكتابة وبعدها، وطقوسها تستهلك يوما كاملا، لا يفكر في شيء آخر ولا تكون فيه مواعيد تشتت.
«إن استشعرت أن موضوعك يقلقك فلا تتردد أن تمزق ما كتبت».
و«إن أردت تغييرا جوهريا فابدأ من جديد حتى لا تربك النص والقارئ معه وتفقده اتساقه ومنطقه واحترامه».
استعاد تجربة «الحكيم» ذات يوم في النصف الثاني من عام (٢٠١٢)، وهو يتساءل عن الأسباب التي دعتنى لتغيير بنية مقال يستلهم مسرحيته: «السلطان الحائر».
قلت: «الحيرة فيها نبل وما يحدث الآن لا يستحق أن يوصف أصحابه بأي نبل».
قال: «كان عليك أن تمزق ما كتبت مثلما فعل الحكيم وتبدأ من جديد لا أن تدخل تعديلات على فكرتك الأصلية».
بعد أولى إطلالاته التليفزيونية لم يقدر على النوم فى مواقيته قلقا على الصورة التى سوف يبدو عليها أمام المشاهدين، وما إذا كانت إضافة لحياته المهنية أم خصما منها.
«تقول لي إن تاريخي يشفع أمام مشاهدي لكن التاريخ وحده لا يقنع أحدا بأنه يسمع ما يستحق الاستماع إليه، وإن لم يكن الكلام مقنعا فسوف يكون من العبث أن تذكر الناس بالتاريخ».
«فى كل مرة تكتب على ورق، أو تطل على شاشة، لا بد أن يكون لديك شيء جديد تقوله لا يكرر ما اجتهد فيه غيرك».
هذه مسألة إبداع بالقلق والمراجعة، لا إطلاق العبارات دون تدقيق لازم، على ما خشي ذات يوم بعيد «توفيق الحكيم».
(*) نقلاً عن “الشروق“