إذا كان الزمن يلتقط أنفاسه بعلامات فارقة، فإن الذاكرة تعمل وفق طريقة انتقائية، تنحفر فيها أوقات ولقاءات ووجوه انطباعات قد تتحوّل مع الوقت دفاتر للتذكر أو تضيع في رمال العمر المتراكمة.
أضع جانباً الكتب والمقالات والأرشيف، لأنني بصدد امتحان عسير للذاكرة بعد مرور أربعين سنة على رحلة إعلان انتصار الثورة الإيرانية. نعم، رحلة بالطائرة من باريس إلى طهران، طائرة قائد المعارضة العائد من المنفى، الإمام الخميني وصحبه من أعضاء قيادة مجلس الثورة وأبرزهم صادق قطب زاده وابراهيم يزدي.
كنت مكلّفاً بتغطية هذا الحدث الاستثنائي لصحيفة النهار البيروتية، وقد التقيت في باريس رفيق الدرب السابق أمين معلوف الذي جاء هو أيضاً للقيام بالمهمّة الصحافية إيّاها لحساب مجلة “جون أفريك”. وبدا لي منذ بداية اللقاء في “نوف لو شاتو” قرب باريس حيث كان الخميني يقيم في انتظار قرار العودة إلى إيران الثائرة، أن أمين معلوف الذي لم يكن تسلّق بعد سلّم الشهرة كروائيٍّ فرنكفوني، يتابع بشيء من البرودة الحيادية تطورات الثورة الإسلامية الإيرانية التي كانت تُشغل العالم وتهزّ منطقة الشرق الأوسط ومنه العالم العربي، وسط تساؤلات متزايدة حول شكل النظام الجديد الذي سيحل مكان نظام الشاه الموالي للولايات المتحدة وإسرائيل.
صورة بعدسة الكاتب أثناء تغطيته لعودة الخميني لطهران
بدا واضحاً في ذلك الوقت، أن الدول الكبرى في الغرب، تخلّت عن نظام الشاه بعدما فقدت حكومته السيطرة على البلاد التي شهدت خلال الفترة 1977 – 1979 عبر الإضرابات والعصيان المدني في المدن والانتفاضة المتواصلة لطلاب الجامعات، شهدت عملية انتقال للسلطة إلى تيارات المعارضة الدينية والقومية. لذلك فإن استقبال “قائد الثورة” الإمام الخميني في باريس تحت ضغط السلطات العراقية، اعتُبر في أوساط المراقبين رهاناً فرنسيّاً على المستقبل لتوسيع دائرة المصالح أو للأقل حماية المصالح الفرنسية القائمة. وكانت التكهنات تذهب بعيداً أحياناً، كقول البعض إن الغرب الذي يخشى من سيطرة اليسار والشيوعيين على السلطة في طهران يفضّل لُعبة “ورقة الخميني والإسلام السياسي، وإن كان الجمهور الإيراني بغالبيته منحازاً إلى شعار “جمهورية إسلامية لا شرقية ولا غربية”. وسوف تثبت التطورات اللاحقة في إيران أن كل هذه التصورات غير واقعية لأن الخميني كان مصمّماً على قيام حكومة إسلامية تلتزم سياسة الحياد بين المعسكرَين الأميركي والسوفياتي وإن كانت تعتبر أن التناقض الرئيسي هو مع “الإمبريالية الأميركية”.
حتى صدور لائحة الصحافيين والمراسلين المختارين من بين مئاتٍ آخرين لمرافقة الإمام في رحلته على “طائرة الثورة” التي ستحمل الألوان الفرنسية حُكماً لكونها تابعة لشركة “اير فرانس”، كنا نمضي الوقت في متابعة الأخبار في “نوفل لو شاتو” حول الموعد المرتقب للعودة، وكان هذا “السكوب” الذي يسعى إليه الجميع. كان الإمام الخميني في الأثناء يخرج من وقتٍ إلى آخر إلى فناء الحديقة ويسند ظهره إلى شجرة تفاح يحيط به الطلاب والصحافيون القادمون من كل أنحاء العالم. كان الحضور المعرفي والسياسي سيّد الموقف في “الجنينة”، وكان السيّد الموسوي الخميني يتحدّث بصفته إماماً مكلّفاً بواجب مقدّس منذ تمرّده مطلع الستينات من القرن الماضي على الاتجاهات المحافِظة في الحوزة الدينية في قُم وإعلانه الثورة على الامتيازات الأميركية في إيران وتعرّضه للسجن قبل الهجرة القسرية إلى العراق التي دامت 14 عاماً.
لم يكن هناك سَبَق صحافي حول الساعة الموعودة، فقد وُضع الصحافيون في حالة استنفار دائم، وعندما تقرّر موعد الرحلة إلى طهران جرى التبليغ شفويّاً ونُفّذت العملية سريعاً. طبعاً كنت في اللائحة مع أمين معلوف، وأذكر أن الانتقال في الأوتوبيس من نوفل لو شاتو إلى مطار رواسي شارل ديغول جرى بسلاسة سحرية. أما بالنسبة إلى الإجراءات الروتينية في المطار فقد كانت من السهولة بحيث يتصوّر المرء أنّ يداً عُليا تولّت الإشراف على التسهيلات، أو هي ربّما طاقة “الإمام الغائب”!.
ميشال نوفل برفقة الروائي اللبناني أمين معلوف على تقاطع اسطنبول بطهران
عندما أستعيد هذه اللحظات اليوم تراني أُسجّل أهمية دور المعارضة الإيرانية في المنفى، وهو الدور الذي جعل محطة الخميني في باريس محور الأضواء العالمية، وسمح بنشر خُطبه وأقواله عبر تقنية (الكاسيتات)، وسهّل التفاوض مع السلطات الفرنسية حول شروط الإقامة المؤقتة وضمان حرية الإمام في التعبير قبل انتقال “إدارة الثورة” التي ستمسك بالسلطة في طهران. وتحضُر أمامي وجوه العديد من المثقفين الإيرانيين الناشطين في المنفى ومنهم الدكتور شمس الدين مُجابي.
في طائرة الخميني التي خُصّص قسم منها للإمام وصحبه وفي مقدّمهم صادق قطب زاده، وقسم آخر للصحافيين، خيّم طوال ساعات الطيران صمتٌ ثقيل الوطأة، ربما مردّه إلى الشعور بخطورة الرحلة في وقت لم نكن متأكدين من أن الهبوط في طهران سيجري بسلام، أو ربّما هو الإرهاق نتيجة الانتظار الطويل في ظلّ أجواء باردة في باريس، فضلاً عن المغامرة التي تنتظرنا في مهب العاصفة الثورية في طهران. وكان للضوء الخافت في المقصورة وعدم صدور أصوات أو حركات من الركاب أن جعلا الطائرة تشبه سفينة فضائية تسبح نحو عالمٍ مجهول. إلى أن خرج الإمام للتحدّث إلينا فيما كانت الطائرة تحلّق فوق طهران، فأنهى بذلك “دراما المهمة الانتحارية” وبدا قويّاً بهدوئه واثقاً من إتمام بعثته بنجاح، فأشاع ظهوره بعد إدائه الصلاة طمأنينة في النفوس.
صورة أخرى بعدسة الكاتب أثناء تغطيته لعودة الخميني لطهران.
في الواقع كان الإمام الخميني يعرف من خلال رؤيته وتجربته وشبكة مندوبيه الواسعة، أن سقوط حكم الشاه بات مسألة وقت فقط. ففي الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1978 بدأت احتجاجات محرّم وكانت ضخمة ومحورية، دفعت إلى الشوارع في طهران أكثر من مليوني متظاهر اجتاحوا ساحة الحريّة (شهياد). وكثيراً ما كان المتظاهرون يخرجون ليلاً متحدّين حظر التجوّل، ومنهم مَن كان يصعد إلى أسطح المنازل ويصرخ “الله أكبر”. تصاعدت الاحتجاجات عقب سقوط عدد من المتظاهرين تحت الدبابات في مدينة قزوين، وطالب المتظاهرون بتنحّي الشاه وإعادة آية الله العظمى روح الله الخميني، وتزامن المطالبة هذه بخروج نحو 9 ملايين متظاهر في الأسبوع الأول والأخير من شهر محرّم وأسفرت عن تنحّي الشاه. في 10و11 كانون الأول/ديسمبر من أيام التاسوعاء وعاشوراء تظاهر نحو 10 ملايين من المناهضين للشاه في كل أنحاء إيران، وقاد المسيرات آية الله محمود طالقاني وزعيم الجبهة الوطنية كريم سنجابي، وهو الأمر الذي كان يرمز إلى وحدة المعارضة الدينية والمدنية. في 13 كانون الثاني/يناير خرج نحو مليوني متظاهر مطالبين بعودة الخميني وطرد الشاه الذي غادر البلاد في 16 كانون الثاني/يناير. في 19 كانون الثاني/يناير لبّت الجماهير دعوة الخميني إلى “استفتاء في الشوارع” لتقرير مصير النظام الملكي وحكومة شهبور بختيار، غير أن المطارات أُغلقت لمنع الخميني من العودة ما أدى إلى احتجاجات عنيفة ضدّ إغلاق مطار طهران سقط فيها عدد من القتلى. وفي نهاية المطاف في الأول من شباط/فبراير نزل إلى الشوارع ملايين الناس للترحيب بعودة الخميني.
في الأيام العشرة التالية لعودة الخميني إلى طهران، خرج سكان المدينة مع المقاومين للسيطرة على الثكنات والمخافر الحكومية عقب إعلان الحكومة الأولى للثورة بقيادة مهدي بازركان. دارت اشتباكات مسلّحة مع فلول قوات الشاه وتوقفّت الحياة العادية مؤقتاً في المدينة التي سيطرت عليها اللجان الثورية، وقُطعت الاتصال مع الخارج. كنت في حينه برفقة صحافي إيراني صديق نتنقّل بخفرٍ وحذر من بيت إلى آخر حتى انقشع غبار “حرب الثكنات” وتحوّل السفارة الإسرائيلية بعد الهجوم عليها إلى سفارة فلسطين. وكشفت أشعة شباط أن دفء الربيع بكّر في المجيء على غير عادته حسب الطهرانيين، وظلّت مياه ثلوج جبال “البورز” تتدفّق على سجيّتها من الشمال إلى الجنوب.
ينشر بالتزامن مع موقع “جاده ايران”