قبل أيّامٍ من إصدار المرجعيّة الدينيّة العليا، بيانها الإستثنائي، سرت «شائعةٌ» في الأوساط العراقيّة تفيد بـ«عودة خطبة الجمعة إلى الصحن الحسيني، في كربلاء المقدسّة»، وهذا يعني – تلقائيّاً – إعلانٌ عن «نيّة المرجعيّة» بتصدير موقفها تجاه الانتخابات التشريعيّة المبكرة (المقرّر إجراؤها في 10 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري)، خاصّةً أنها الجهة التي دعت إليها عقب اندلاع الحراك المطلبي، في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019.
لاحقاً تبين أنها مجرد “شائعة” (أي عودة خطبة الجمعة إلى كربلاء)، خاصّةً أن توقيتها جاء في زيارة أربعينيّة الإمام الحسين. وما هي ساعاتٌ على انتهاء الزيارة، حتى «ردّ» السيستاني على سؤالٍ وجّه إلى مكتبه يُراد منه فهم توجيهات المرجعيّة، برسم ما يمكن تسميتها “خارطة طريقٍ للعمليّة الانتخابيّة”، موّجهة إلى الشارع العراقي بالدرجة الأولى، والقوى السياسيّة الفاعلة بالدرجة الثانية، والحكومة الاتحاديّة برئاسة مصطفى الكاظمي بالدرجة الثالثة.
«فكفكة» البيان ـ الخارطة يستوجب إحاطةً برؤية المرجعيّة للانتخابات التشريعيّة. طوال الدورات الماضيّة (2006 و2010 و2014)، حثّت المرجعية على المشاركة الفاعلة ووجوبها. في الدورة الماضية قالت إن «الانتخاب حقٌّ وليس واجب» مع تقديمها النصيحة والمشورة للناخبين، بوضعها «معايير مدروسة»، ولعل أبرزها «المجرّب لا يجرّب». ذلك التراجع المدروس، في الدورة الماضية، جاء كردّة فعلٍ على بعض القوى التي استغلّت اسم «المرجعيّة» في الصراع الانتخابي والسياسي، والتي استثمرت أو اختزلت التضحيات التي قُدّمت في الحرب على الإرهاب (2014 – 2018)، وقدّمت نفسها كـ«منقذٍ» للبلاد والعباد.
الرسالة الثالثة وجهتها «المرجعيّة» إلى الكاظمي وحكومته، داعيةً إيّاه إلى إجراء الانتخابات «في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني أو التدخلات الخارجية»
يومها، حذّرت النجف من ذلك، وجاءت الانتخابات وسط مقاطعةٍ شعبية كبيرة. هنا، تجدر الإشارة إلى النقطة التاليّة. بمعزلٍ عن التصريحات الرسميّة، يدرك جيّداً قادة الصف الأوّل، أن نسبة المقترعين في الانتخابات الماضية لم تتجاوز الـ 20 بالمائة. نسبة التزوير كانت عاليةً جدّاً، بلغت النصف وأكثر، في ظل استشراء الفساد (فساد «المفوضّية العليا المستقلّة للانتخابات») والمال الانتخابي والسلاح المتفلت. أحجامٌ تمثيليّة كانت أكبر من الأحجام الفعليّة، وهذا ما أدى إلى إنتاج برلمان مشوّهٍ، فحكومة مشوّهة برئاسة عادل عبدالمهدي، كانت نهايتها واضحة، منذ اليوم الأوّل أنّها لن تعيش لأكثر من عام (منح زعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر، يومها، مدة عامٍ واحدٍ لعبدالمهدي، قبل أن يسحب الغطاء عنه، وهذا ما فعله مع اندلاع الحراك التشريني، كفرصةٍ جاءت للهروب من التحالف مع «تحالف الفتح»، وتأكيد الانحياز للشارع ومطالبه).
دفع «تحالف الفتح» (إئتلافٌ برلمانيٌّ يضم القوى والأحزاب المؤيّدة لخيار «الحشد الشعبي»، بزعامة هادي العامري)، الفاتورة. حُمّلوا – حرفيّاً – مسؤوليّة إخفاقات عمرها 16 عاماً من الفساد والمحسوبيّة. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنهم خلال عامٍ واحد، لم يلتزموا بالشعارات التي نادوا بها قبيل الدورة الرابعة (أيّار/ مايو 2018)، إذ انخرطوا في دوّامة الفساد وبات لهم حصّةً وازنةً كغيرهم من الأحزاب والقوى العراقية!
في كانون الأوّل/ ديسمبر 2019، دعت المرجعيّة الدينية العليا (السيستاني) إلى الانتخابات المبكرة، واصفة إيّاها بـ«أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي». وفي أكثر من مناسبة، أكّد السيستاني على ضرورة إجراءها، متمسّكاً بهذا الخيار، بالقول إن «الانتخابات المبكرة ليست هدفاً بحد ذاتها وإنما هي المسار السلمي الصحيح للخروج من المأزق الراهن الذي يعاني منه البلد نتيجة تراكم أزماته سياسياً واقتصادياً وأمنياً وصحياً وخدمياً وغير ذلك». هذه التأكيدات كانت نتيجةً مناخاتٍ بثّها البعض تفيد بأن المرجعية وبعد تسنّم مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة (أيّار/ مايو 2020)، تراجعت عن ذلك، وقبلت بإجراء الانتخابات في موعدها.
كان المشهد في النجف موازياً للمشهد في العاصمة بغداد. إقرارٌ لقانونٍ انتخابي يمنح المستقلّين فرصةً للحضور، ويراعي – في الوقت عينه – مقاربة النجف لشكل برلمانٍ من شأنه أن يعكس التمثيل الشعبي الصحيح. أُقرّ القانون برلمانيّاً، وأطلق الكاظمي ورشة تحضير على مختلف الأصعدة، ليُحسم التاريخ ويكون العاشر من الشهر العاشر.
سارعت جميع القوى العراقيّة، الشيعيّة منها تحديداً، إلى الترحيب وتقديم فروض الطاعة للنجف، واصفةً البيان بأنّه «خارطة طريق» لهم، مؤكدين على التزامهم بها، ولكن «العجب» أن يسارع من شملهم سخط «بيت السيّد» إلى الإعلان عن الالتزام التام بتوجيهاته!
في يوم الأربعاء 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، صدر بيان السيستاني. في المضمون، فُهم أنّه عبارة عن دعوة وحثّ للشارع على المشاركة: على المقاطعين العودة والمشاركة، وعلى الناخبين التمعّن في سير المرشحين، وانتخاب الأصلح. عبّرت المرجعية عن ذلك بتشجيع «المشاركة الواعية والمسؤولة في الانتخابات القادمة». وعليه، حدّدت المرجعيّة الدينية معايير إنتخاب الأصلح والأنزه، من خلال دعوتها إلى الآتي:
1- شاركوا بصورة فاعلة وأحسنوا الاختيار.
2- دقّقوا في سِيَر المرشحين في دوائرهم الانتخابية.
3- انتخبوا الأصلح والأنزه والأحرص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره.
هذه المعايير، مقرونةٌ – وفق البيان – بالخطوات التالية:
1- أخذ العِبَر والدروس من التجارب الماضية.
2- معرفة قيمة أصوات الناخبين ودورهم المهم في رسم مستقبل العراق.
3- استغلال الفرصة لإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة ومفاصلها الرئيسة.
«المرجعيّة» أكّدت أيضاً أنها «لا تساند أيّ مرشح أو قائمة انتخابية على الاطلاق، وأن الأمر كله متروك لقناعة الناخبين وما تستقر عليه آراؤهم»، وذلك حتى لا يقول البعض إنّه قريب من النجف، أو يُحمّلها مسؤوليّة الإشارة إلى لائحة أو مرشحٍّ بعينه؛ علماً أن المعايير واضحة، ومن «تُسقط» عليه قد يكون موجوداً.
بناءً على ما تقدّم، على الناخبين معرفة نتائج «استسهال» قيمة أصواتهم، والاستهتار بها، لأن ذلك «يمكّن الأشخاص غير الأكفاء أو المتورطين بالفساد أو أطرافاً لا تؤمن بثوابت الشعب العراقي الكريم أو تعمل خارج إطار الدستور…». في هذه النقطة، على وجه التحديد، إشارةٌ واضحة إلى رفض «المرجعيّة» لبعض الوجوه/ القوى الحاليّة، والتي تنطبق عليها «المحاذير» السابقة، ذلك أن التصويت لهؤلاء سوف «يكرّر إخفاقات المجالس النيابية السابقة والحكومات المنبثقة عنها». هذه رسالةٌ واضحة لا بل مكرّرة: المرجعيّة ترفض المجربين السيئين.
أما الرسالة الثالثة، فقد وجهتها «المرجعيّة» إلى الكاظمي وحكومته، داعيةً إيّاه إلى إجراء الانتخابات «في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني أو التدخلات الخارجية»، إضافةً إلى مراعاة «نزاهتها ويحافظوا على أصوات الناخبين فإنها أمانة في أعناقهم».
طبعاً، سارعت جميع القوى العراقيّة، الشيعيّة منها تحديداً، إلى الترحيب وتقديم فروض الطاعة للنجف، واصفةً البيان بأنّه «خارطة طريق» لهم، مؤكدين على التزامهم بها، ولكن «العجب» أن يسارع من شملهم سخط «بيت السيّد» إلى الإعلان عن الالتزام التام بتوجيهاته!
في طبيعة الحال، رسم بيان السيستاني نتائج الانتخابات: إما انتخاباتٌ سلسة، تنتج طبقةً «متوازنة» وحكومة تحمل على عاتقها الإصلاح السياسي – الاقتصادي، وإمّا انتخاباتٌ مشوّه – كما حدث في الدورة السابقة، تقود – تلقائيّاً – إلى «الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي.. ولات حين مندم».