

تجسّد هذا التحول في شعارات مثل “أميركا أولًا” و“الاستقلال الاستراتيجيّ الأوروبيّ”، مؤدّياً إلى تشديد قواعد تصدير التّكنولوجيا وتقييد الاستثمارات الأجنبيّة وفقاً لتوصيات معهد الدّراسات الاستراتيجية الدّوليّة (CSIS) وتزامن هذا مع انخفاض حصّة الدّول النّامية من الاستثمار الأجنبيّ المباشر إلى ما يقارب من 11٪ من الإجماليّ العالميّ عام 2023 بحسب تقرير UNCTAD 2024. في هذا المناخ، تجد دول المشرق نفسها بلا أدوات الصّناديق السّياديّة أو احتياطاتٍ نقديّةٍ ضخمةٍ، معتمدةً بشكلٍ شبه كامل على المساعدات الإنسانيّة، وتمويل إعادة الإعمار، وتحويلات المغتربين.
إعادة الإعمار المشروط
في لبنان، لا يزال أكثر من 6.7 مليار دولار من تعهدات مؤتمر CEDRE عام 2018 مجمّداً، بينما انكمش النّاتج الحقيقيّ بأكثر من 40٪ منذ 2019 وفق صندوق النّقد الدّوليّ. فرض الصّندوق شروطاً للإصلاح الهيكليّ تشمل خصخصة قطاعاتٍ أساسيّةٍ وضبط فاتورة الكهرباء وشفافيّة المناقصات، لكن منطق المحاصصة الطّائفية عطّل تطبيق هذه الإصلاحات، فتوقّفت الدّفعات واستمر انهيار الليرة أمام الدولار.
وفي العراق وسوريا، تقدّر الأمم المتحدة احتياجات إعادة الإعمار بعد تحرير المدن من تنظيم “داعش” بأكثر من 200 مليار دولار، إلا أن مساهمات صندوق الاستقرار المرتبط بـمكتب تنسيق الشّؤون الإنسانيّة تراجعت بنسبة 60٪ بين 2019 و2024. ما أخّر تنفيذ المشاريع الأساسيّة، وأدّى إلى زيادة عدد النّازحين داخلياً إلى أكثر من 12 مليون شخص بحسب المفوضيّة السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين ، مع تأخّر عودة الحياة الطّبيعيّة إلى المناطق المحرّرة.
التّمويل الغربيّ البطيء والمشروط بعث برسائل متناقضةٍ للنّخب السّلطويّة المشرقيّة، مفادها أن الشّريك الخارجيّ غير ملتزمٍ حتى النّهاية. وبدلاً من دعم مؤسّسات الشّفافية والحوكمة، أصبح التّمويل ورقة تفاوضٍ بيد الأحزاب الطائفية. في لبنان، أخفق الضّغط الدولي في إنجاز إصلاحاتٍ ضريبيّةٍ، بينما في العراق اسْتُنْزِفَ جزءٌ من صندوق التعافي لدعم مقاولات المحاصصة بدلاً عن إطلاق مناقصاتٍ تنافسيّةٍ. سياسةٌ غذّت اعتقاد النخب الفاسدة بأنّها قادرةٌ على الصّمود إلى أن تتراجع الدّول الغربيّة عن شروطها
تقليص المخاطر يخنق التّحويلات
اعتماد سياسات تقليص المخاطر المصرفيّة (De-Risking)، التي تضيف قيوداً مشدّدة في تطبيق معايير “اعرف عميلك” و“مكافحة غسل الأموال، دفعت عدداً من البنوك الغربيّة إلى إنهاء تعاملها مع المصارف اللبنانيّة والعراقيّة والسّورية المُصنَّفة “عالية المخاطر. فانخفضت التّحويلات الرّسمية للمغتربين بنسبة 25٪ في 2023 وفق البنك الدّوليّ، علماً أنّ هذه التّحويلات كانت تمثّل نحو 30٪ من إجماليّ دخل الأسر في لبنان و15٪ من النّاتج المحلّيّ العراقيّ قبل القيود.
في الوقت نفسه، ابتعد المستثمرون الغربيّون عن مشاريع “المشرق” وتبنّوا استراتيجيّة الصّديق أولاً، فحوّلوا رؤوس الأموال إلى دولٍ أكثر استقراراً تنظيميّاً وأمنيّاً، مثل المكسيك وبولندا، تاركين وراءهم فرصاً حيويّةً في البنية التّحتيّة والطّاقة المتجدّدة.
العبء الإنسانيّ
منذ 2015، أحكمت أوروبا وأميركا ضوابط الهجرة، فأنشأت نقاط تفتيشٍ عند الحدود اليونانيّة ووظّفت نظام التّسجيل الرّقميّ لطلبات اللّجوء مع تأخيراتٍ قد تمتدّ لأشهرٍ بحسب وكالة الاتّحاد الأوروبيّ للّجوء.
في المقابل، بات لبنان- الذي يستضيف نحو 1.4 مليون لاجئٍ سوريٍّ – وفق وكالة الأمم المتّحدة للّاجئين مَنطقةً عازلةً لإبعاد موجات النّزوح عن السواحل المتوسّطيّة. أُطلقت منتصف 2025 خطةً وطنيّةً للّاجئين بالشراكة مع المفوّضيّة، تهدف إلى “العودة الآمنة والطّوعية والمستدامة”، لكنها واجهت نقصاً في التّمويل يفوق 70٪ من الأهداف السّنوية المعلنة في تقرير لجنة تنسيق العودة الحكوميّة.
رفض الدّول الغربيّة برامج التّوطين الواسعة، والاكتفاء بدعمٍ محدودٍ عبر وكالاتٍ إنسانيّةٍ، دفع دولاً مثل لبنان والأردن وتركيا لإنفاق أكثر من 2.3 مليار دولار من ميزانيّاتها المحلّيّة لاستضافة اللّاجئين، وفق تقرير البنك الدولي 2024. هذا العبء الملقى على دول الجوار أجّج التّوتّر الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وأعطى قوًى محلّيّةً مسوّغاتٍ شعبويّةٍ للاستثمار في مآسي اللّجوء لتعزيز قواعدها الانتخابيّة.
الفراغ الجيوسياسيّ
في غياب المبادرات الغربيّة، دخلت الصين بقوةٍ عبر مشاريع الحزام والطّريق. في العراق، وقّعت بغداد وبكّين في 2023 اتّفاقية “النّفط مقابل الإعمار” لتمويل مصافي وتوسعة ميناء الفاو، مقابل تسليم 50 ألف برميلٍ يوميّاً لمدة 25 عاماً، وفق تحليلات المعهد الدّوليّ للدّراسات الاستراتيجيّة. هذا النّموذج يعيد تعريف ما يُسمّى دبلوماسيّة الديون حيث يتحوّل القرض إلى أداةٍ لضبط السّياسات الوطنيّة على المدى الطّويل.
بينما استخدمت روسيا بوّابة الأمن والدّفاع لتعزيز نفوذها في المشرق. فدعمت حكومة الأسد عسكريّاً ودبلوماسيّاً (قبل انهيار النّظام وسقوطه)، وسيطرت على قطاعات الطاقة عبر عقود إعادة تشغيل حقل “الآرام” قرب دمشق حسب تقرير كارنيغي 2021. وفي لبنان والعراق، وُظِّفَتْ “المصلحة الرّوسيّة للتّصنيع الحربيّ” لتقديم خدمات صيانة الأسلحة وتدريب الميليشيات، ما ضاعف من قدرة هذه الفواعل غير الحكوميّة على البقاء خارج رقابة الدّولة، كما رصدت مجموعة الأزمات الدولّيّة في تقاريرها.
الإصلاح في مهب الرّيح
التّمويل الغربيّ البطيء والمشروط بعث برسائل متناقضةٍ للنّخب السّلطويّة المشرقيّة، مفادها أن الشّريك الخارجيّ غير ملتزمٍ حتى النّهاية. وبدلاً من دعم مؤسّسات الشّفافية والحوكمة، أصبح التّمويل ورقة تفاوضٍ بيد الأحزاب الطائفية. في لبنان، أخفق الضّغط الدولي في إنجاز إصلاحاتٍ ضريبيّةٍ، بينما في العراق اسْتُنْزِفَ جزءٌ من صندوق التّعافي لدعم مقاولات المحاصصة بدلاً عن إطلاق مناقصاتٍ تنافسيّةٍ، وفق دراسات مركز السّياسات الدّوليّة.
هذه السياسات غذّت اعتقاد النخب الفاسدة بأنّها قادرةٌ على الصّمود إلى أن تتراجع الدّول الغربيّة عن شروطها، تاركةً الإصلاح كهدفٍ بعيد المنال ومجرّد شعارٍ يُسْتَدْعى وقت الأزمات.
في الختام، القوميّة الاقتصاديّة الغربية ليست حركةً داخليّةً فحسب، بل زلزالٌ جيواقتصاديٌّ يضرب دول المشرق الهشّة. أمام هذا الواقع، يواجه لبنان وسوريا والعراق خياراً قاسياً: تمويلٌ مشروطٌ من الشّرق يحدّ من سيادتهم، أو إصلاحٌ غربيٌّ معلّقٌ لا يترجم إلى دعمٍ فعليٍّ. أمام تآكل الشّرعية وزيادة الهشاشة وتراجع مستويات المعيشة، باتت المنطقة تحتاج إلى رؤيةٍ دوليّةٍ متكاملة تجمع بين التّمويل المستدام والدّعم السّياسي الحازم، مع جداول زمنيةً واضحةً ومشاركةً شعبيّةً تضمن الشّفافية والمساءلة.