البراغماتية الأردوغانية الحادة: إستحضار التاريخ.. إدراك الجغرافيا (2)

وصلت السلطنة العثمانية إلى ذروة مجدها في القرن السادس عشر، عهد الخان سليمان القانوني، لكنّه في الوقت ذاته، كان عهد بداية التراجع والإنحدار.

عوامل عدة ساهمت في انحسار المدّ العثماني، أبرزها التقدّم العلمي والإقتصادي الذي بدأ يتراكم في أوروبا بقيادة الكنيسة، ساعده وموّله الثراء السريع بفعل عملية النهب المريعة للقارة الأمريكية المُكتشفة، في مقابل حالة الجمود العلمي التي خيّمت على السلطنة ومؤسّساتها تعبيراً عن رفض التقدم والتغيير الذي كان يخيف أركان السلطنة ويُهدد إمتيازاتهم.

شكّلت الغزوات المتلاحقة التي قادها الأتراك ضدّ الممالك والإمارات الأوروبية، أهمّ مصدرِ دخلٍ لميزانية دولة “عثمان أوغلو”، بالإضافة إلى سيطرتهم على الممرّات البحريّة الأساسيّة للتجارة في البحر المتوسط، وعلى الطريق البري الواصل بين الشرق والغرب. مع تقلّص السيطرة العثمانية البحرية، واكتشاف أوروبا لقارة أمريكا وخطّ الإلتفاف عبر إفريقيا للوصول إلى الهند وشرق آسيا، وتراجع أداء السلاطين في قيادة الدولة والجيش، كنتيجة لانغماسهم في ملذات “الحرملك” ورفاهيّة الثراء، أدّى ذلك إلى تزايد هزائمهم المتلاحقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادي بعد أن فقدوا سطوتهم المخيفة. بالإضافة إلى حاجة البلاد لتجديد الأنظمة والقوانين التي نخرها الفساد وتقدّم عليها الزمن، كلّ ذلك ساهم في تضاؤل مداخيل وعائدات السلطنة.

خيّم شبح الإفلاس الدائم على خزينة الدولة في تلك الفترة، مما فاقم أزماتها الداخلية، وقوّض روح الحماسة والإندفاع ـ عامل التفوّق الحاسم ـ لدى المقاتلين وعلى رأسهم الإنكشارية، الذين أصبحوا يمارسون مهنًا عديدة، بحثًا عن مورد رزقٍ جديدٍ لهم، الأمر الذي دفعهم إلى الإستقرار والإستئناس بحياة المدينة، بعد أن كانت الحرب وخدمة السلطان وحمايته هدف حياتهم الوحيد، بل أصبحوا أكثر جرأة وتمرّدًا عليه. كما دفع ذلك الإقطاعيين “السيباهيّة” إلى الإهتمام بالأراضي التي كانوا يُشرفون عليها، ما فاقم الظلم الإجتماعي ولا سيما لدى مزارعي تلك الأراضي، وشجّع بالتالي انقلاب الرعايا وقيام الثّورات ضدّهم.

بالنسبة إلينا نحن جيران تلك الدولة التي بقيت من السلطنة، الجمهورية التركية، من المفيد والضروريّ إعادة قراءة هذا التاريخ بروحٍ أكثر موضوعيّة وعلمية، بعيدًا عن عاطفة الحنين الجامحة، أو أثقال المظلوميّة المتوارثة، ذلك زمنٌ إنقضى

العصر الزنبقي

دخلت السلطنة العثمانية في حالة ركود وتراجع على الصعيد العسكري في القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادي، مما غيّر في بنية المجتمع الثقافية، فتحوّل من المجتمع الغازي والمقاتل والمتلهف للتوسّع والتمدّد، إلى مجتمع باحثٍ عن الإستقرار والهدوء والرفاهيّة والإستمتاع بملذات الحياة.

أطلق المؤرخ الشهير أحمد رفيق بيك في مطلع القرن العشرين على تلك الحقبة الزمنيّة، التي بدأت مع السلطان أحمد الثالث، إسم “العصر الزنبقي”، بسبب ولهِ الأتراك وعشقهم لتلك الزهرة، حيث انعكس تأثيرها على جميع صنوف الفن العثماني من بناء ونقش ورسم وأدب وشعر وموسيقى. يُشير ألبير أورتايلي في كتابه “العثمانيون في ثلاث قارّات”، إلى تغيّر نمط الحياة في تلك الفترة، حيث لفّ “مرض الزنبق” كل مكان وكلّ شيءٍ في ذلك الوقت، فبنى رجال الدولة قصورًا صغيرة تحمل الأسلوب الفرنسي والبندقي (الإيطالي)، وأنشئت الحدائق والنوافير التي تتدفّق مياهها من أفواه التنانين، وغدا صعبًا على من يعادي الزنبق (كتعبيرٍ عن مدى تأثيره) تأمين لقمة العيش.

بحسب أورتايلي، شكل “العصر الزنبقي” مرحلة تطوير وتحديث في الحياة التركية والعمارة المدنية وحياة الدُّور وحياة الحي وساحات المدينة التركية، كان تحوّلًا حقيقيّا في نمط ومقاربة الحياة، إنها المرّة الأولى التي يبدأ الناس فيها برؤية الميدان والسّاحة على شاكلة ساحة أصفهان الشّهيرة في تلك الفترة. إضافة إلى أنّه عصر التغيرات الكبرى، في تاريخ الأدب العثماني ورسمه أيضًا، حيث غدت لغة الأدب أقرب للنّاس، كما تناول شعر تلك المرحلة العشق واللهو وحبّ الحياة، ووصل أحيانًا إلى صراحةٍ تجعل الوجوه تمتقع بالحمرة، كما يشرح أورتايلي.

إنهيار السلطنة وتداعياته

في بداية القرن العشرين، وجدت السلطنة ـ المنهارة والضعيفة والتي أصبح سلطانها حاكمًا شكليًا فقط ـ نفسها تخوض الحرب إلى جانب ألمانيا، بمواجهة قوّات الحلفاء (هناك غموض بالنسبة لاختيار تركيا التحالف مع ألمانيا، فقد وجّه عددٌ من المؤرخين اللوم إلى ونستون تشرشل، الذي قيل أنه ساق الأتراك إلى أيدي الألمانيين). كان الأداء العثماني المميز في بداية الحرب مُلفتًا للنظر ومفاجئًا في آن، خاصة على جبهتي العراق وفلسطين، لكنّ الوضع المالي السيء للسلطنة، والتحريض العرقي وتوليد الفتن التي أتقنت إدارَتها لندن، وما زالت، أضعف الجبهة العثمانيّة، وساهم في هزيمتها.

وتُشير الوثائق إلى أنّ لندن استعملت الشريف حسين وأبناءه، والملك عبد العزيز آل سعود، في معركتها ضدّ السلطنة برغم نظرتِها “الدونيّة” إليهم، إذ كان العرب حينها يُشكلون نصف رعاياها، كما تشير مراسلات السير مارك سايكس، التي ينقلها ديفيد فرومكين في كتابه “نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط” (A Peace to End All Peace, 1989). فقد كتب سايكس إلى غيلبرت كلايتون يصف عرب المدن أنّهم “جبناء ووقحون مع أنهم عاجزين، بل ووحشيون لدرجة تعترف أجسادهم النحيلة بذلك”، أمّا عن بدو العرب، فقد وصفهم بأنّهم “طمّاعون، جشعون.. وحيوانات”، يضيف فرومكين، أنّ هؤلاء أصبحوا “حلفاء” بريطانيا الرئيسيّين في نزاع الشرق الأوسط، أي إسقاط السلطنة العثمانية.

قد نتفق أو نختلف على أداء القاطن في مقر الرئاسة التركية، لكن ما يجب أن يظلّ ثابتًا ودائمًا، هو السعي لبناء قاعدة صلبة وثابتة لعلاقة متبادلة، على أن تعِيَ أنقرة ذلك وأن تبادلنا به أيضًا، لأن التأثير المتبادل على المستقبل مسألةٌ لا خيار فيها

رفعت بريطانيا أمام الشعوب العربية شعارات خادعة وجذابة في آن، في سياق حربها ضدّ دولة الخلافة، لكن جوهر وفحوى معركتها يعكسه أيضًا السّير مارك سايكس برسالته إلى صديقه الحميم عضو البرلمان البريطاني أوبري هيربت الذي كان يميل إلى الأتراك، إذ يقول: “إنّ سياستك خاطئة، يجب أن تتوقف تركيا عن الوجود، سوف تُصبح إزمير يونانية، وأنطاليا إيطالية، وجنوب طوروس وشمال سوريا فرنسيان، وفلسطين والعراق بريطانيان، وكل ما تبقى روسيًا بما فيه القسطنطينية.. وسوف أًنشد ابتهالًا مسيحيًا في مدينة سانتا صوفيا وآخر في مسجد عُمر”.

إقرأ على موقع 180  التواطؤ على غزة باسم.. "الإنسانية"!

الإنتقال للحاضر

هكذا تبدو سنن التاريخ، سنن الله بالمعنى الدّيني، نشوء الإمبراطوريّات وصعودها، ثم مراوحتها وانحدارها. قد تتشابه أسباب الصّعود وكذلك أسباب الإنهيار، لكن حتى الآن، لا يبدو أنّ الإنسان بقدرته وقوّته الذاتية قادرٌ على فهم هذه الصيرورة، هي مسألة خارج تأثيره وسيطرته، وبالتالي منع مسار الإنهيار المحقق. قد نتمكّن من معاينة هذا السيّاق مع الإمبراطوريّة الأميركيّة.

بالنسبة إلينا نحن جيران تلك الدولة التي بقيت من السلطنة، الجمهورية التركية، من المفيد والضروريّ إعادة قراءة هذا التاريخ بروحٍ أكثر موضوعيّة وعلمية، بعيدًا عن عاطفة الحنين الجامحة، أو أثقال المظلوميّة المتوارثة، ذلك زمنٌ إنقضى. أمّا الآن، فإنّ الحاضر والمستقبل يفرضان هذا الفهم الموضوعي في إدراك تلك العناصر، وهو ما يتقنه ويمارسه ببراغماتية وبراعة رجب طيب أردوغان، ما منح بلاده القدرة على صياغة مساحة معيّنة من الإستقلاليّة وترتيب الأولويّات. هذه البراغماتيّة الحادّة للسياسة التركية اليوم أعادت لها زخمها الإقليمي والعالمي، وهي أيضًا ما يُفترض أن يكون المدخل لتحقيق توازن المصالح معها، إنها نتيجة استحضار التاريخ وبعث الروح فيه، وفهم الموقع والدور والحاضر والمستقبل.

ما أحاول تلخيصه والوصول إليه، هو أنّنا قد نتفق أو نختلف على أداء القاطن في مقر الرئاسة التركية، لكن ما يجب أن يظلّ ثابتًا ودائمًا، هو السعي لبناء قاعدة صلبة وثابتة لعلاقة متبادلة، على أن تعِيَ أنقرة ذلك وأن تبادلنا به أيضًا، لأن التأثير المتبادل على المستقبل مسألةٌ لا خيار فيها، هذه جملة لا بأس من تكرارها مرارًا، لأنّها ببساطةٍ وقائع لا يمكن الهروب منها أو تجاوزها. لبنان وسوريا خير شاهد ودليل، مصالحك ومستقبلك تعني مصالح ومستقبل سوريا، أيّا كان القاطن في بعبدا أو المهاجرين، “فديكتاتورية الجغرافيا أهم من ديكتاتورية الحاكم”، هكذا ختم لي أحد الزملاء الثّقاة.

(*) راجع الجزء الأول: تركيا عن التاريخ والحاضر.. والمستقبل

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الدفع بإيران نحو "القنبلة".. لمصلحة من؟