بسمة عبد العزيز, Author at 180Post

800-33.jpg

سألتني المُوظفة عن الرَّقم القومِي. سَكت قليلًا ثم أمليتها إياه. نظرت في وَجهي مَدهوشة ورجتني التأكد؛ فمن ذا الذي لم يَزل حريصًا أو حتى قادرًا على تخزين أيِّ معلومة في ذاكرته؟ من الذي لا يستعين بوَسيلة مُسِاعدة تُسهِّل له المهمَّة وتخفِّف عنه عناءَ التركيز؟

750-1.jpg

درجنا على أن نتحدث عن كوننا مَطمَعًا. شواطئُنا وسواحلنا مَطمَع، أراضينا المُنبسِطة مَطمَع، النهر مَطمَع والوادِ الخصبُ مَطمَع. أبنيتنا القديمة وتاريخُنا مَطمَع، وخنوُعنا ذاته هو أكبر مَطمَع. المَطمَع وَصفٌ يوحي بعض المرات بالضَّعف والاستكانة؛ ولو أن المَوصوفَ قويٌّ، عزيزٌّ، صعبُ المنال؛ ما حقَّ عليه ذاك التوصيف الذي تعزى إليه فترات مُطوَّلة من الاحتلال والاستغلال، وتشيد عليه نظرية المؤامرة الدائمة. 

801.jpg

أثلج مَهبَط الصواريخ الإيرانية على تل أبيب وغيرها من مدن يحتلها الكيان الصهيوني صدور الكثيرين. أشفى بعضًا من الغليل وعدَّل مؤشرات البوصلة من السخرية والاستهزاء إلى المؤازرة والتشجيع. انتقاءُ الهدف بدقة وتحقيق الإصابة المباشرة كانا من عوامل الإعجاب برغم محاولات إخفاء الخسائرِ من جانب العدو، والشعور الغامر بالقهر على خلفية ما يجري بفلسطين كان سببًا في سَهَر المقهورين؛ يتابعون الجديدَ ويتمنون الأثقلَ وطأة وأثرًا ويُحلِّقون بأمنياتهم بعيدًا. 

1548b4917e53e35166a42d1ac38304c2.jpg

التقيت خارجَ البلادِ صديقًا قديمًا مرَّ ما يناهز عقدان من الزَّمان مُذ رأيته. عرفت أنه ترك فصيلًا سياسيًا كان قد انضمَّ إليه؛ مُفضلًا أن يستقلَّ بأفكاره وأن يحتفظَ بحريَّته ورؤيته؛ على أن يتبعَ الآخرين وقد اختلفَ معهم.

1.jpg

التقيت وأصدقاء قدامى وتشعَّب الحديثُ في أكثر من اتجاه، ثم راحت الأغلبية تتبادل الآراء بشأن المَهْرَب المناسب؛ ما وقع انفجارٌ نوويٌّ وانبعثت الإشعاعات. جاء اللقاءُ قبل توقُّف الحرب بين إيران والكيان المُحتل، وقد اتخذ الكلامُ طابعَ الهذر والتنكيت وتعالت القهقهاتُ بما جاوزَ حجمَ المَخاوف التي انتشرت في الأجواء؛ فما كان من أحد الرِّفاق أصحاب الحِسِّ السَّاخر سوى أن أعلن عن لا مبالاته؛ دافعًا بالمثل الشعبيّ الشهير: "ضربوا الأعوَر على عينه"؛ فهتف الباقون في صوت واحد: "قال خسرانه خسرانه".

9090009090909.jpg

أظنُّ أن مَكتَبَ الرئيسِ الأمريكيّ في البيت الأبيض، قد شهدَ خلال أعوام حُكْم دونالد ترامب ما لم يَشهَد منذ تأسيسه. الحاوي العجيب إيلون ماسك الذي انضمَّ في غفلة من الزمن لطاقم الموظفين، والطفلُ الذي حظي في المكان بما فاق مَراتب الملوك والرؤساء، والرئيسُ ترامب ذاته؛ بشطاته ونزواته اللاتي باتت حديث العالم ليل نهار: كلماتٌ قالها ثم ذابت كأنها كُتِبَت على ماء، وقراراتٌ أفصَحَ عنها وعن ضِدها ولم تمض بين هذا وذاك لحظات. أفكار مَعيبة شذَّت عن كلّ مألوف، وخُططٌ بدَت مُستحيلة لا تخطر ببال.

3434343.jpg

ضَربَت إيران منشآتٍ ومواقع ذات أهمية يحتلها العدو الإسرائيلي. سَهَر كثير الناس مع الضربات، يطربون لأصوات الانفجارات، ويستعذبون الشَّرر وألسنة اللهب المندلعة هنا وهناك، ويتحمَّسون مُطالبين بالمزيد، متجاوزين ما كان من شِقاق. مَوقِع وثانٍ، ضربة وأخرى؛ ردُّ يشفي بعضَ الغليل ولو أعقبه انتقامٌ واسع مُتعدّد الأقطاب، وقد تأكد للمتفرجين أن بالإمكانِ ما اتحدوا درءَ العدوان، وانتزاعَ الحقوقِ، واستردادَ شيءٍ من الكرامة المُراقَة على صفحة الأرض.

marsat.jpg

جلسنا أيامًا أمام الشاشة نتابع مسارَ السفينة مادلين وعلى مَتنها اثني عشر شخصًا. رأينا رجالًا ونساءً، متفاوتي الأعمار، مُختلفي الجنسيات، تجمع بينهم صفاتُ الشجاعةِ والجَّرأةِ والاتساق مع الذات، وتحركهم قبل هذا وذاك ضمائرٌ يقظة؛ أبَت التواطؤَ على جرائم الاحتلال في غزة وسائر الأرض الفلسطينية؛ ولو بالصَّمت. لم تتمكَّن السفينةُ من الوُصول بأمان إلى مَرساها. هاجمتها قواتُ الاحتلال ومنعتها استكمال طريقها، ثم اعتقلت ركابها.

dd12e2213a8bdfef6130eb989ac458b5.jpg

شهدت الأيامُ القليلة الفائتة صُعودَ صورةِ الأم العنيدةِ المُكافحة في سبيلِ حريَّة ولدِها إلى سُدَّة المَشهد. الصُّعود مُكللٌّ بالفخار والشَّرف بقدر ما هو عامرٌ بالوجع، أما هبوط غرمائها؛ فمشفُوع بضيق الأفقِ والتصاغُر والبلادة. باتت ليلى أيقونةَ نضالٍ تزدان بها صفحاتُ التاريخ، وأمسى الواقفون على الجانب المُضاد رمزًا أبديًا للتدني وقصور المبادئ والأخلاق.

32c642c3-50a0-466a-afee-a8f933b014b4.jpg

تقفز الصُّورةُ أمامي باطراد، تطاردني ولا تفارقُ ذاكرتي: مَدفَن طَه حسَين الذي بات محشورًا أسفل كوبري من الكباري المُستحدَثة. المَدفَن في التصميمِ الجديد للمكان يبدو مُضحكًا وعجيبًا في آن؛ إذ العادة أن تكرّم الدولُ أعلامَها وعظماءَها في حياتهم أو حتى عَقب مَماتِهم؛ أما أن تحاولَ حَجبَ ذكراهم واستبعادَها من مَجال الرؤية؛ فأمر غير مُتعارف عليه.