تاريخياً، إصطدم الروس والأتراك في مواجهات عسكرية أكثر من 13 مرة، وتركيا هي عضو في حلف شمال الأطلسي، وتملك ـ بعد الولايات المتحدة ـ ثاني أكبر جيش في الحلف الغربي، ولها حدود مائية مع روسيا في البحر الأسود. إبان الحرب الباردة، كانت تركيا الحارس الرئيسي للجناح الجنوبي للأطلسي، ولعب موقعها الجغرافي دوراً رئيسياً في جعل الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف يتخذ قراراً بسحب الصواريخ السوفياتية من كوبا عام 1962، لأن الولايات المتحدة عمدت من قبيل الضغوط التي مارستها على السوفيات خلال الأزمة، إلى نشر قنابل نووية في تركيا. ولا تزال إلى اليوم أكثر من 50 قنبلة نووية أميركية موجودة في قاعدة أنجيرليك الجوية التركية.
بقيت تركيا وفية لإلتزاماتها في حلف شمال الأطلسي حتى يومنا هذا، لكن سياسة تركيا الخارجية بدأت تميل نحو توثيق العلاقات مع موسكو لا سيما في العقد الأخير، خصوصاً بعدما لمس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن الطريق مسدود أمام إنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، لألف سبب وسبب. وبات الروس يشكلون غالبية السياح الذي يقصدون تركيا، بينما تحولت روسيا سوقاً رئيسية للصادرات التركية من الخضار والفواكه. وأنشىء خط “السيل الجنوبي” لنقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى دول أوروبا الجنوبية. ويبلغ حجم التجارة بين البلدين نحو 20 مليار دولار سنوياً.
تمكنت روسيا وتركيا من التغلب على خلافاتهما في ملف الحرب السورية. تجاوزتا مسألة إسقاط الدفاعات الجوية التركية لمقاتلة “سوخوي-24” قرب الحدود السورية-التركية عام 2015، وكذلك إغتيال السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف عام 2016. أقامتا منصة أستانا بمشاركة إيران، لخفض التصعيد في العديد من مناطق الشمال السوري، وصولاً إلى صفقة صواريخ “إس-400” التي أغضبت واشنطن وكانت سبباً في فرض عقوبات على صناعات الدفاع التركية، ومعها بدأت التساؤلات الغربية، بشأن مدى إلتزام أنقرة بسياسات حلف شمال الأطلسي وهل لا تزال حليفاً موثوقاً للغرب بينما هي ترتمي على نحوٍ متسارع في أحضان روسيا؟
يقدّم أردوغان نفسه وسيطاً محايداً لا يتبنى مطالب الغرب بالكامل ولا يوافق أيضاً على الحرب لتحقيق المطالب الروسية. ويقول في الوقت نفسه كلاماً يرضي موسكو، من قبيل ما قاله مستشاره إبراهيم كالين على هامش “منتدى الدوحة العالمي” الأسبوع الماضي:”عندما تنتهي هذه الحرب، يتعين أن يكون ثمة هيكلاً أمنياً جديداً على المستوى العالمي”
ومن المفارقات، أن أردوغان الذي نسج أفضل العلاقات مع روسيا، كان أيضاً يقيم علاقات ممتازة مع أوكرانيا، وهو عارض على الدوام ضم روسيا لشبه جزيرة القرم التي توجد فيها أقلية تترية، هي بنظر أردوغان من “الشعوب التركية”، كما أن لديه حنيناً إستعمارياً إلى المنطقة، ولم تتردد أنقرة في تزويد أوكرانيا في العامين الماضيين بمسيرات “بيرقدار” المتطورة، على رغم إستياء موسكو من هذه الخطوة. وتلعب هذه المسيرات دوراً مهماً في صد الهجمات الروسية في أكثر من منطقة أوكرانية. ولا يمر يوم في بيانات وزارة الدفاع الروسية من دون الإشارة إلى إسقاط القوات الروسية لعدد من المسيرات التركية. وهذه إشارات لا بدا أنها ذات مغزى.
وإستطاع بوتين وأردوغان تنظيم الخلافات بينهما وإقامة نوع من التنسيق في المناطق ذات الوجود المشترك، من سوريا إلى ليبيا إلى إقليم ناغورنو كراباخ.
ومنذ بدأت الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية العام الماضي وتصاعد التوتر مع الغرب، عرض أردوغان التوسط وإستضافة بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحل النزاع، وقبل أسبوع من الحرب، زار الرئيس التركي كييف. واعتبرت أنقرة الحرب “غير مقبولة”، لكنها حاذرت الإنضمام إلى العقوبات الغربية، ولم تقفل الأجواء أمام الطائرات الروسية المدنية، وأقدمت على إغلاق مضائقها المؤدية إلى البحر الأسود، من دون أن تتسبب في إزعاج روسيا، وحافظ أردوغان على إتصالاته الهاتفية شبه اليومية مع بوتين. وثمة وعي تركي لمخاطر توسع الحرب وإحتمال إنعكاسها على تركيا إقتصادياً بالدرجة الأولى. ليس هذا فحسب فالسواحل التركية ليست بعيدة عن ميدان المعارك، وفي الأيام الأخيرة فكّكت البحرية التركية قرب مضيق البوسفور ألغاماً بحرية طافية مصدرها قواعد بحرية روسية أو أوكرانية في البحر الأسود.
وعلى رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت زار موسكو بعد الحرب بأيام عارضاً التوسط، فإنه لم يلقَ رداً إيجابياً من الكرملين. ومع أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتصل يومياً ببوتين، فإنه لم يعهد إليه بدور الوسيط. وثمة دول أخرى إلتزمت حياداً حيال الأزمة مما ساعد روسيا بطريقة غير مباشرة، مثل دول الخليج التي رفضت شق تحالف “أوبيك بلاس” وتلبية الطلب الأميركي بزيادة إنتاج النفط والغاز لمساعدة أوروبا في التحرر من النفط الروسي.
وبدا أن بوتين قرر إيلاء تركيا دور الوساطة، فكان أول إجتماع وجهاً لوجه بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأوكراني ديميترو كوليبا في أنطاليا بحضور وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على هامش المنتدي الديبلوماسي الدولي الشهر الماضي، ثم كانت جولة مفاوضات أخرى بين الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول الثلثاء الماضي، والتي اعتبرت الجولة الأفضل لأن أوكرانيا قدّمت فيها ورقة مكتوبة بإقتراحاتها من المطالب الروسية، ولا سيما مسألة الحياد ومصير القرم والدونباس. وعلى إثر هذه الجولة، أعلن الجيش الروسي “تقليص عملياته” في كييف وتشيرينهيف.
منح دور الوساطة تركيا وزناً إقليمياً ودولياً يطمح إليه أردوغان منذ زمن، وقد يساعده قبل عام من الإنتخابات الرئاسية في ترميم صورته المتراجعة في الداخل في ظل الركود الإقتصادي بعد جائحة كورونا
يقدّم أردوغان نفسه وسيطاً محايداً لا يتبنى مطالب الغرب بالكامل ولا يوافق أيضاً على الحرب لتحقيق المطالب الروسية. ويقول في الوقت نفسه كلاماً يرضي موسكو، من قبيل ما قاله مستشاره إبراهيم كالين على هامش “منتدى الدوحة العالمي” الأسبوع الماضي:”عندما تنتهي هذه الحرب، يتعين أن يكون ثمة هيكلاً أمنياً جديداً على المستوى العالمي. وهذه الهندسة الأمنية الجديدة ستؤثر في سياق الأحداث لعقود مقبلة”.. ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يرى أن “المصالح الفضلى لأوكرانيا تكمن في إتباعها سياسة خارجية متوازنة”.
وقد منح دور الوساطة تركيا وزناً إقليمياً ودولياً يطمح إليه أردوغان منذ زمن، وقد يساعده قبل عام من الإنتخابات الرئاسية في ترميم صورته المتراجعة في الداخل في ظل الركود الإقتصادي بعد جائحة كورونا ونظراً إلى التخبط في سياسات مالية، هوت بالليرة التركية إلى مستويات قياسية أمام الدولار.
إلى أي مدى يمكن أن تستمر الوساطة التركية وما هي حظوظ نجاحها في غمرة حربٍ يبدو أنها لا تزال في بداياتها؟
لا يزال من المبكر التكهن بأي إختراق سياسي مهم من دون تحقيق تحولٍ كبير في الميدان. هذا لا يلغي أن مسألة وقوع الخيار الروسي على تركيا لدور الوساطة، تبقى لغزاً من ألغاز بوتين في مرحلة من أصعب المراحل التي تمر بها روسيا وأوكرانيا وأوروبا والعالم!