المَخزَن 

سألتني المُوظفة عن الرَّقم القومِي. سَكت قليلًا ثم أمليتها إياه. نظرت في وَجهي مَدهوشة ورجتني التأكد؛ فمن ذا الذي لم يَزل حريصًا أو حتى قادرًا على تخزين أيِّ معلومة في ذاكرته؟ من الذي لا يستعين بوَسيلة مُسِاعدة تُسهِّل له المهمَّة وتخفِّف عنه عناءَ التركيز؟

مَخزَن المعلومات هو ذاك المَوضِع الذي يُمكن حفظُ البيانات فيه لفتراتٍ طويلة. أدَّت الذاكرةُ هذه الوظيفةَ بكفاءةٍ مَشهودة على مَرِّ قرون، وإلى جانبها مضى فعلُ التدوينِ على الجُّدران والحجارة، وقد تبعتهما الأوراقُ والدفاتر وما في حكمها، ثم تطوَّرت الأمور في قفزةٍ هائلة وظهرت أنظمةٌ رقمِيَّة تستوعب من البياناتِ أضعافًا، وتتيح استرجاعَها واستخدامَها، وإجراءَ بعض العملياتِ الاستنتاجيةِ عليها خلال لحظات؛ دون أن تحتلَّ من الفراغ مساحاتٍ كبيرة.

***

تعاملتُ في أيام الطفولة مع الديسك والسي دي، ثم ظهرت الفلاش ميموري كمخزن عظيم المزايا، يتيسَّر حمله ونقله ويَصعب إفساده؛ وبالتوازي مع هذا وذاك أمكن استخدامُ ذاكرة المَحمول لتسجيل الجداولِ والمواعيد والأعمالِ الهامَّة. برغم هذه التسهيلات كلها، لم أزَل حتى يومِنا هذا أسَجِّل في رأسي معظمَ الأمور، وقد أحملُ ورقةً صغيرةً تحوي نقاطًا مُهمة؛ تضيع الورقةُ فأحاول أن استحضرَ شكلَها ومحتوياتها، وتغمُرني السَّعادة ما إن أتمكَّن من كتابة أخرى.

***

المَخزَن اسمُ مكان من الفعل خَزَنَ، الفاعل خازِن والمَفعول به مَخزون وخَزين، والمصدر خَزْنٌ بتسكين الزاي، أما الخزَّان بتشديدها؛ فصيغة مبالغة يُوصَف بها المكان الذي يَستوعب كمياتِ مياهٍ ضخمة؛ فينظم استعمالها وقد يستغلُّ في توليد الكهرباء، والأشهر لدينا هو خزان أسوان الذي وضعَ حجَرَ أساسِه الخديو عباس حلمي الثاني.

***

يتألف الخَزين الذي تعرفه أغلبُ البيوت من أغذية يُمكن جمعُها وحفظُها، ثم استخدامُها على مدار العام؛ هناك على سبيل المثال أنواع من الحبوبِ والنشوياتِ مثل البقول والأرز، وبعضُ المُصنَّعات التي تتحمَّل البقاءَ لفترات طويلة دون أن تفسدَ مثل الجُّبن القديم والأسماك المُملحة، وتلحق بهما إضافة لأصناف من الخضروات؛ تُعّد في مواقيت توفُّرها وتخزَّن بالمُبرِّدات. درجت النساءُ الماهرات على تجميد كمياتٍ من الثومِ الذي يتضاعف سِعره في غير مَوسمه، ومثله قرون البامية وحبَّات البازلاء وكؤوس الخرشوف وغيرها، وحين يشحُّ الصنفُ المَرغوب ويَشتاق إليه أهلُ البيت؛ تغادر الخَبيئةُ مَكمنَها وتظهر على المَوائد حاملةً البهجة.

***

يُقال إن القلبَ مَخزنُ المشاعر وأكثر أعضاء الجَّسد تأثُّرًا بها وتعبيرًا عنها؛ إذا تعرَّض للاستثارة تسارع إيقاعُه واشتدَّت دقاته، وإن هدأت من حوله الأمور انتظم عملُه واعتدل أداؤه. أثبتت الدراساتُ من قديم أن المُخَّ مَصدر الإشاراتِ العصبيَّة ومَوضِع تكوين الأحاسيس واستقبالها؛ لكن أبحاثًا أحدث عادت إلى الوراء قليلًا، وحامت فرضياتُها وبعضُ نتائجِها حول وجود ارتباطٍ عصبيٍّ مُعقَّد بين القلبِ والمُخ، يَسمح بانخراط الأول في عملية إنتاج المشاعر وتلقيها والتفاعل معها.

***

                                                                                سد أسوان خلال افتتاحه عام 1902  

الصَّوامع هي مَخازن الحبوبِ والغلال؛ مُفردها صَومَعة وتُشيَّد فوق سطح الأرض حماية لمحتوياتها من الفساد. تطلق كلمة الصومعة أيضًا على كلِّ مكان مُغلَق، يعتزلُ فيه الواحد الآخرين؛ حيث تلفُّه الخُصوصِيَّة وتتيح له الانفراد بذاته، وتهديه وقتًا مُستقطعًا للتأمل والتفكير، وفاصلًا للراحة واسترداد الأنفاس؛ بل ومناخًا مناسبًا للابتكار والإبداع.

***

تخزينُ القات طقسٌ مألوف لدى أهل اليَمن السَّعيد؛ يمارسونه في ساعات مُحدَّدة وثابتة؛ لا يستقيم الأمر ما نقصت. تعرَّفت في أحد الأسفار على عالم اجتماع يمنيّ، حكى لي عن جلسات التخزين وكيف تمثِّل آفةً مُتجذِّرة بين الأفراد ومُزعِجة للمُجتمع؛ فالسَّعادة التي تُضفيها على الشخص وقتيةً عابرة، لا تلبث الكآبةُ المَشبوبة بشيء من العنف أن تحلَّ محلَّها وتطرد بقاياها. تحرَّجت حينها من سؤاله إن كان لقبُ البلد العريق ذي الحضارة القديمة المَشهودة، المُرتبِط بالخصوبة والوفرة؛ بات في حاجة دائمة لما يلطف نفوس أهله؛ فيهون نكبتهم ويُخفِّف أعباءهم.

***

يَخزِن النملُ طعامَه ليبقى آمنًا داخل جحوره في فصل الشتاء، وحين يَهلُّ الصَّيف؛ يظهر معه كلازِمة من اللوازم؛ مثله مثل بعض الفواكه والمَحاصيل الزِّراعية. يَجدُّ النملُ ويَجتهد ويَنشط، ويُواظِب على غزو الأمكنة التي تحوي مُبتغاه؛ لكن مسلكَه يبدو في الآونة الأخيرة عصيًّا على التنبؤ؛ إذ مال نحو الأطعمة المالحة والبروتينات؛ وهَجَر السُّكر والحلوى لمن أراد، ضاربًا بالقواعد الرَّاسخة عرضَ الحائط، باتت حالُه كحالِ الأحياء جميعًا على كوكبنا؛ تأرجحت الأهواءُ وتلاطمَت الأمزجة.

***

الخازندار هو ذاك الشخص الذي تولى مَهام أمين بيت المال في العصر المملوكي، وكان واجبُه الأساسيّ آنذاك حراسةَ أموال السُّلطان، وتوزيعَ العطايا على الآخرين. مرَّت العُصور وتفرَّقت المَهامُ وتبدَّلت المفاهيم. صارت الثروات العامة حقًا للشعوب لا لحكامِها؛ لكلِّ مُواطن أن يُراقِبها وأن يعرفَ مَصارفَها؛ فإن بدَّدها الخازندار ووزَّعها هنا وهناك، أو أهداها لمن لا يستحق؛ كان لا بُد من الحساب.

إقرأ على موقع 180  كرمئيل والجليل الأعلى وحرمون بين التاريخ.. والحاضر

***

                                                                 إحدى صوامع القمح المصرية القديمة

لا ننفكّ نسمع عن مَخزون السِّلع الاستراتيجية الذي يكفي عامًا أو أشهرًا أو حتى بعض أسابيع. نسمع ونقرأ ولا نُعنى بالأمر كثيرًا، فقد دَرجنا منذ فترة على أن نحيا اليومَ دون أن نفكِّر في الغد. في حقابٍ سابقة لم تكن هذه التذكِرةُ بما نملِك أو لا نَملِك أمرًا مُلحًا؛ لكن دوام الحال من المُحال، والتدهوُر على كثير الأصعدة مَشهودٌ لا يُنكَر؛ تثبته الإحصاءاتُ والأرقامُ، ويُدلِّل عليه تنامي الديون وتضاعفها.

***

عادة ما يقوم الناسُ بتخزين المؤن في أحوال الشِّدةِ والكرب. يحاولون أن يُطمئنوا أنفسَهم بالاستعداد كيفما استطاعوا، وأن يُعضدوا قدرتَهم على تجاوُزِ المِحنة؛ فإن تفاقَمت الظروفُ ولم يَعد في جعابِهم مَخزونٌ يمكن الاعتماد عليه، اضطربت الحياةُ وتزلزَلت الأرضُ تحت الأقدام. القوتُ احتياجٌ أساسيٌّ وليس رفاهة، وكفُّ الجوع غريزةٌ أصيلةٌ لا تحتاج إلى تفكير؛ فإن تملَّكت من الفرد غدا مسلكُه شاذًا وتعذَّرت مُحاسبته، والمَوروث التاريخيِّ الذي نعرفه يروي كيف رُفِع حدُّ السَّرقة إبان المَجاعة؛ أما وقد وَصل الأمرُ بالناس إلى نزعِ أغطية البالوعات من الشوارع، وأسلاكِ الكهرباء الوَاصلة بين أعمدة الإنارة، وأبوابِ البنايات الحديديَّة، وغيرها مما أمكنَ قنصُه من مكانه وبيعه بثمن مُجزي؛ فدعوةٌ عاجلةٌ للنظر في المسار الذي انحرف، وجعل يمضي حثيثًا باتجاه الهاوية.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنتخابات المغرب بين هزيمة الإسلاميين.. وتزوير "المخزن"!