أن تختفي شيرين.. أن تحيا فلسطين

خبر كالصاعقة يجتاح شبكات التواصل الاجتماعى: مقتل الصحفية الفلسطينية المخضرمة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها أحداث اقتحام مخيم جنين فى الضفة الغربية.

يأتينى صوت شيرين الذى ألفته ككثيرين من جيلى على مدى سنوات من متابعة أخبار فلسطين. وجهها الوديع ونظرتها الحالمة كانا فى تناقض دائم مع كلماتها الدقيقة ونبرتها الحازمة. هكذا كانت شيرين وجها للأحداث الفلسطينية ومعلما من معالم قصة لا تندثر برغم محاولات لا تنتهى لدفنها. أخرج إلى الشارع متجهة إلى مقر عملى فأشعر بالجو من حولى ثقيلا وكأنه على وشك أن يبتلعنى.

***

«خطفها الموت»، عبارة تأخذ معنى جديدا كل مرة أقف فيها أمام رحيل مفاجئ. ينقض على الغياب، وكأنه شبح يفتح معطفا أسود أكمامه واسعة ويغلقه على شخص أعرفه، ثم يفتح الأكمام مرة أخرى فيختفى الشخص. يبدو لى أن الغياب صار من سمات المرحلة، إذ أمضى أكثر وقتى فى مواساة الأصدقاء بعد أن كنت فى مراحل سابقة أبارك أكثر مما أعزى.

***

الموت يعنى أن أقع فى جوف الأرض وأختفى. الموت يعنى أن تبتلعنى حفرة أصادفها وأنا أمشى على طريق الحياة. الموت هو ذلك الثقب الأسود الذى يسحب من أحب ويتركنى عاجزة الفعل والكلام والتفكير فى مواجهة الغياب. مكان يصبح شاغرا لا أعرف كيف أتعامل معه.

***

الموت هو أن يكبر وجه من رحل ويعلو صوته فى غيابه فيحاصران من بقى ويدفعانه للجنون. وكأن الشخص رحل وبقى، هل تفهمون هذا التناقض؟ أفكر كثيرا بمفهوم الرحيل وأنا أقدم سلسلة من التعازى فى هذه الفترة. أتساءل إن كان الرحيل أصعب على صاحب الشأن أم على من حوله. أتساءل إن كان الموت أسهل بشكل مفاجئ أم وهو بطىء؟ لو عندى خيار، هل أفضل أن أختفى أم أن أحضر نفسى ومن حولى وأنا أنسحب ببطء؟

***

رأيت طرقا مختلفة للتعامل مع الرحيل، كأن يغرق أحدنا فى الحزن، أو أن تشارك صديقة قصصا جميلة عمن رحل، أو أن يحتفل صديق كل يوم بحياة من فقده فيشركنا بتفاصيل ملونة تبقى من رحل معنا دون دراما. يبدو لى أن خير طريقة للتعامل مع الرحيل قد يكون فعلا ملأه بقصص من تركونا وكأننا نحتفل بحياتنا معهم. لن يخفف ذلك من ثقل الفراق إنما سوف ترافق ضحكات ونظرات من ذهبوا أيامنا من خلال قصص ومواقف يحلو لنا قصها ولغيرنا ربما متابعتها.

***

يقال إن علينا أن نحتفل بالحياة قبل أن ننسحب منها. علينا أن نقدر كل يوم يمضى ونحن أحياء. هو عيد ميلاد يومى، ملاحظة أننى استيقظت اليوم، ما زلت هنا، أتحسس ما حولى وأسمع صوت من فى البيت، أشم رائحة القهوة التى أعدها وتقضى مرارة طعمها على ما تبقى من آثار النوم فى رأسى.

***

أنا أفهم فى مكان ما فى عقلى أن كل من حولى قد ينسحب فجأة، كما بإمكانى أنا نفسى أن أختفى. لكن ذلك لا يخفف أبدا من وقع خبر صاعق كخبر الموت. يبدو أن هناك فرقا كبيرا بين استقبال العقل لخبر وبين تلقى العاطفة له. إذ نعرف جميعا أننا فى طريقنا إلى الموت بكل الأحوال، أليس كذلك؟ إنما تلقى إشارة واضحة تدل على الطريق أو أن يرحل شخص نحبه فذلك يتطلب أدوات للتعامل يجب اكتشافها فلا أظن أن ثمة من يملكها بشكل تلقائى.

***

لنتفق إذا أن الحياة طريق ملتوى مع بعض المسافات المستوية، وأن على طرفيه مشاهد كثيرة تتفاوت مستويات جمالها وقسوتها وتتبادل الأماكن. فيظهر مثلا أثر الثلوج على الزرع يوما ثم تشق فراشة ملونة شرنقتها وتلون ما حولها فى اليوم التالى. نمشى بخطى أحيانا ثابتة وأحيانا أخرى متعثرة، يقع بعض من حولنا فى حفر الموت فنقف أمام الفراغ فاتحين أفواهنا من هول الصدمة ثم نكمل الطريق. الجديد بالنسبة لى هو التفكير بأننى أيضا قد أقع فى الحفرة، وهو شىء بصراحة لم يكن يخطر على بالى من قبل، أو لم أفكر فيه سابقا بشكل جدى. ربما افتقرت للتواضع من قبل، واعتقدت أننى أباغت الحياة وأبقى فيها على عكس غيرى. أو أننى أوفر حظا من الكثيرين. وها أنا اليوم ما زلت أؤمن أننى أوفر حظا إنما أقول لنفسى إن الحفر واردة فى أى لحظة وعلى أن أتقبل ذلك.

***

أعود إلى خبر مقتل شيرين، أسمع صوتها الذى ألفته على مدى سنوات طويلة عصفت بالمنطقة تتوسطها كالعادة أحداث فلسطين. أن تختفى شيرين التى دخلت بيوتا كثيرة من خلال الشاشة هو خبر صاعق. شيرين التى لطالما نقلت الأخبار تصبح اليوم الخبر برحيلها الصادم. الصحفية التى نقلت الموت المباشر ها هى قد ماتت على الشاشة تماما كمن كانت تنقل نهاياتهم. ابتلعتها الأرض، بعد مشاوير كثيرة قضتها شيرين تنقل القصص حتى عرف الكثير منا فلسطين دون أن نزورها. وداعا شيرين، تحيا فلسطين.

إقرأ على موقع 180  "لعبة الأمم" تطوي قضية الحريري.. القتلة مجهولون!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
تمارا الرفاعي

كاتبة سورية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  عن الورّاق والإنسان رياض نجيب الريس