

في المقابل، لم يُسلّم المعسكر “التوراتي” بالأمر، بل خاضَ جيشٌ من الحاخامات حرباً ضد العلمانيين، حتى قبل العام 1948، أبرزهم أنصار “الحركة التصحيحية”، بزعامة زئيف جابوتسكي، وقبله أحد أبرز المنظرين للحكم اللاهوتي، الحاخام أبراهام كوك (1865-1935). ولم تنتهِ هذه الحركة بانتصار اليسار عليهم، إنما تابع الجيل الثاني من الحاخامات المسيرة أمثال يتسحاق غينزبورغ، الذي بدأ يبرز تأثيره مع حكومة بنيامين نتنياهو الأولى، عام 1996، على وقع مقتل رئيس الوزراء الخامس لـ”الكيان”، إسحق رابين – صاحب مُبادرة السلام الإسرائيلية في عام 1995، والذي اغتاله الحقوقي القومي المتطرف إيجال عامير.
وثمة معلومات تقول بإن نتنياهو، زعيم حزب “الليكود” آنذاك، كان له دورٌ كبيرٌ لجهة خلق جو عاصف ومتشنج قابل لارتكاب جريمة من هذا النوع. وعلى ضوء ذاك “الجو” رفضت أرملة رابين مصافحة نتنياهو، أثناء تأديته للعزاء بزوجها.
لم نعد للتاريخ كثيراً، بما كان يقوله جابوتسكي وكوك، صاحبا نظرية “دولة الجدران”، وصاحبا معادلة قامت على أساس “كل ما لا تستطيع إسرائيل تحقيقه مع الشعوب العربية بالقوة يمكنها أن تحققه بمزيد من القوة”. وسنُركز على اللسان الحيّ الناطق، اليوم، باسم الحاخاميْن الراحليْن، وأعني هنا الحاخام يتسحاق غينزبورغ.
من هو غينزبورغ؟
وُلد غينزبورغ في الولايات المتحدة، في عام 1944، وبدأ مسيرته كحاخام من خلال حركة “حباد” (أكبر الحركات الحسيدية في أوروبا)، وهو يسكن اليوم في قرية “حباد”، وأصبح يتمتع بشعبية كبيرة جداً في أوساط الصهيونية الدينية، وخصوصاً وسط “الحريديم”(*). وهو يقدم مزيجاً فريداً من نوعه من الفكر الحسيدي والقومية “المسيانية”(**) المُستوحاة من فكر كوك و”الحركة التصحيحية”. وكان غينزبورغ، لسنوات طويلة، يوجّه رسائله إلى عامَّة الناس، ومن بينهم العلمانيون في مجال العصر الجديد وعلم النفس اليهودي. وفي العام 1995، ألَّف كتاباً أجاز فيه قتل النساء والأطفال من غير اليهود. وضمّن رؤيته في الكتاب التي تتمحور حول موت الفكرة المؤسِّسة والساذجة للصهيونية العلمانية بشأن “الدولة اليهودية الديموقراطية” بعد مقتل رابين.
إحياء رؤية غينزبورغ!
اليوم، يجري استذكار وإحياء رؤية غينزبورغ ، وقد وجدت طريقها للتطبيق مع الحكومة الإسرائيلية الحالية (اليمينية المتطرفة)، والتي يؤمن غالبية أعضائها بأفكاره. حيث يتم تعبئة الجنود الإسرائيليين وطمأنتهم بأنهم على حق، وإيهامهم بأنهم لم يرتكبوا جرائم بحق الفلسطينيين لأن الدين اليهودي يُجيز لهم ذلك.
اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم يؤمن بأن معركة “هرمجدون” ستجري بين اليهود والمسلمين على أرض الضفة الغربية ليتحقق في نهايتها حلمهم المدفون… ويخرج “المسيح الحقيقي”.. ليبارك دولتهم “إسرائيل الكبرى”
ويستعين أطباء علم النفس بكتاب غينزبورغ في معالجتهم للجنود الذين أصيبوا بأزمات نفسية من جراء الحرب القائمة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. ويبررون لهم قتلهم للنساء والأطفال وللأسرى والمرضى وهم في أسرة المستشفيات. ويستشهد الأطباء أيضاً بمقال للحاخام الحسيدي نفسه، الذي بارك فيه بباروخ غولدشتاين، مُرتكب مذبحة الحرم الإيراهيمي، في عام 1994، والتي أدَّت إلى مقتل 29 فلسطينياً.
عِظَّة غينزبورغ!
في خضم حركة الاحتجاج ضد خطة أرييل شارون، “فك الإرتباط عن غزة في عام 2005″، ألقى غينزبورغ، وكان يومها رئيسا المدرسة الدينية “يوسف لا يزال حيا”، في يتسهار، عظَّة في حديقة الورود القريبة من الكنيست. العِظَّة المعروفة اليوم باسم “حان الوقت لكسر الجوزة” سعت لترسيخ فكرة التفوق اليهودي في أرض إسرائيل، وإعداد الأجواء للقتل الجماعي للفلسطينيين، والتطهير العرقي الكامل في المناطق الفلسطينية. واليوم، على مشارف استكمال نجاح خطة الحاخام، وقد شبّهت العِظَّة “إسرائيل” بجوزة مؤلفة من 4 قشور: الثمرة، وترمز إلى شعب إسرائيل، أمّا القشور، فهي دولة إسرائيل العلمانية ومؤسساتها.
وعليه، فإن الصراع الداخلي في الكيان الإسرائيلي، الدائر منذ العام 2022، حول صلاحيات المحكمة العُليا، لم يأتِ من فراغ، إنما من فكر يمزج بين “الحسيدي الحبادي” و”المسيحاني” الذي يقف حاجزاً أمام أي مبادرة للحلول. فبذريعة إجراء “إصلاحات قضائية”، يسعى اليمين المتطرف إلى تضييق صلاحيات المحكمة العُليا، وسنّ تشريعات، وتغيير قوانين بما يصبُّ في صالح الحكومة اليمينة المتطرفة الحالية. وأصحاب هذا الفكر هم أنفسهم من يعارض ويُعرقل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، والتي تقضي بأن تكون الضفة الغربية والقدس الشرقية الجزء الأكبر منها.
فالضفة الغربية، في فكر هؤلاء المتطرفين، هي ما يُعرف، توراتياً، بـ”يهودا والسامرة”. وإمكانية الاستغناء عنها غير وارد. هذا فضلاً عن إيمانهم المُطلق بأن معركة “هرمجدون” سوف تجري بين اليهود والمسلمين على أرضها، وتحديداً في منطقة تقع شمال مدينة جنين، في محلة تُعرف بـ”تل مجدو”، ليتحقق في نهايتها حلمهم المدفون في أعماق قلوبهم ووجدانهم، ويخرج “المسيح الحقيقي”، حسب اعتقادهم ليبارك دولتهم “إسرائيل الكبرى”.
هذا هو حالنا مع هذا العدو التوراتي، الإحتلالي، الإحلالي، التوسعي. وعلى الرغم من ذلك، تنتصر السردية الإبراهيمية في عالمنا العربي؛ هؤلاء لا يكتفون بما حققوا من “انجازات”، إنما يعودون بالتاريخ إلى الوراء نصف قرن من الزمن، وتحديداً إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، مستعينين بتسجيل مُجتزأ للأخير مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، لإثبات أن الزعيم المصري لم يكن ضدَّ التسوية والتطبيع مع إسرائيل (راجع مقالي السابق ما لناصر.. لناصر وما لكم لكم)، حتى بات يُقال عن من يقف ضدَّ التطبيع، اليوم، بأنه “منفصل عن الواقع”!..
أمام هذا الإزدراء الذي نعيشه اليوم، لا يسعنا إلَّا أن نُردد مقولة السيّد المسيح “يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”.
(*) جماعة من اليهود المتدينين الأصوليين، يطبقون الطقوس الدينية، ويعيشون حياتهم اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية. ويحاول “الحريديم” تطبيق التوراة في إسرائيل. والحريديم جمع لكلمة “حريدي” وتعني بالعبرية “التقي”. وقد تكون مأخوذة من الفعل حرَدَ، بمعنى غضب وبخل واعتزل الناس.
(**) المسيانية أو المسيحانية، وهو الإيمان بقدوم المسيح. وفي اليهودية، سيكون المسيج ملكاً يهودياً من سلالة داوود، ومخلصاً للشعب اليهودي.