هناك من ينحاز إلى هذه، مثلما هناك من ينحاز إلى تلك. والسؤال دائماً يتوجّه إلى دُعاة اللّاعنف، خصوصاً حين تعجز بعض وسائل اللّاعنف عن تحقيق أهدافها على نحو ملحوظ وسريع وحاسم. فحتى ما أُطلق عليه “الربيع العربي”، الذي تبلور بسلسلة احتجاجات وحركات اعتصام وتمرّد سلمي ومدني ولاعنفي، تحوّل في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف منفلتة من عقالها وفوضى عارمة، وقاد إلى صدامات واحترابات أهلية مسلحة، دمّرت الكثير من عناصر التعايش السلمي في مجتمعاتها، ولم تخلق شرعيات جديدة في مواجهة الشرعيات القديمة.
عندما تنتعش الهويّات الفرعية
ولعلّ ذلك ما يثير قلقاً وجودياً إزاء الخشية من التغيير الذي قد يسبّب عنفاً وانفلاتاً وتفتتاً وتشتتاً واحتراباً في مجتمعات بدت مستقرة وآمنة ومتعايشة لفترة من الزمن، وإن كانت أقرب إلى السكون، حيث انتعشت فيها الهويّات الفرعية؛ الإثنية والدينية واللغوية والسلالية والجهويّة؛ على نحو سافر، بسبب الكبت المُزمن من جهة، ومحاولة التعبير عن نفسها وخصوصيتها من جهة ثانية، لدرجة أخذت تهدّد الكيانات القائمة.
العنف يستولد عنفاً مضاداً ويعيق التنمية المُستدامة.. ومعه تصبح عملية التغيير والإصلاح المنشودة بعيدة المنال أكثر من السابق
بين عشية وضحاها، تفكّكت دول وانقسمت واحتربت وتعادت. هكذا تشظّى الاتحاد السوفيتي السابق ليصبح 15 كياناً. وهكذا تفتّتت يوغوسلافيا وتجزّأت إلى 6 كيانات، وانقسمت جمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى قسمين (جمهوريتي تشيكيا وسلوفاكيا). وهكذا ايضاً انبعثت موجة تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب في العديد من البلدان العربية التي طالتها عملية التغيير؛ وخصوصاً بالوسائل العنفية؛ فكانت ردود الأفعال والكوابح لمنع عملية التغيير وحرفها عن مسارها مؤثّرة وكبيرة لدرجة انشغلت بعض المجتمعات بنزاعات وحروب أهلية أثّرت على وحدتها. أضف إلى ذلك أن عملية التغيير والإصلاح المنشودة أصبحت بعيدة المنال أكثر من السابق، وإزدادت تعقيداً بسبب العنف وانقسام المجتمع، لاسيّما بتعويم مرجعية الدولة وصعود قوى وجماعات دينية وطائفية وعشائرية وهي ما دون الدولة إلى ما فوقها.
كل ذلك شكّل عائقاً كبيراً أمام عملية التنمية المُستدامة، وصارت عملية إعادة البناء تحتاج إلى جهود مضنية وإمكانات كبيرة. فالتجربة تؤكد أن التغيير بالعنف يفتح الأبواب على مصراعيها أمام عنف مُضاد، وهو ما يعزّز استشراء الفوضى، خصوصاً في المجتمعات المتخلّفة، حيث الفقر والجهل والتعصّب ووليده التطرّف الذي حين يتحوّل إلى سلوك أو ممارسة يصبح عنفاً وحين يكون عابراً للحدود ويضرب عشوائياً يصير إرهاباً دولياً.
هل يمكن تبرير العنف؟
قد يجد الفكر العنفي ذرائع مختلفة لتبرير استخدام العنف، حتّى أن فلاسفة ومفكرين كانوا يعمدون إلى تقديم حُجج نظرية تُجيز استخدام العنف، طالما “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، بحسب تعبير توماس هوبز، الذي يعتبر العنف سمة أساسية وفطرية عند الإنسان تدفع كل واحد لاستخدام العنف سبيلاً للتقدم. ويرى هوبز أن العنف حلّاً منطقياً وضرورياً للبقاء بالنسبة للأفراد المفيدين للتخلّص من أولئك الطفيلين الذين يستنزفون الموارد باستمرار.
أما توماس مالتوس فيرى في الحروب “حل منطقي للتخفيف من التزايد السكاني”. فالفرد الذي لا يستطيع أن يجد له عملاً في المجتمع لا يجب أن يكون له نصيب من الغذاء. فهو عضو زائد، بحسب ما ورد في كتاب مالتوس “بحث في نظرية السُكان”. وذهب هتلر إلى أبعد من ذلك عندما دعا إلى قتل المرضى، وذوي الإحتياجات الخاصة، على اعتبار أن التخلّص منهم ضرورة تفسح المجال لتطور المجتمع.
العمل اللّاعنفي ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفاعلية في مجال السياسة
اللاعنف عمل كفاحي
لكن أصحاب اللّاعنف يردّون على تلك الدعوات العنفية ويفنّدون أسسها الفكرية. فالفيلسوف الألماني إدموند هوسرل يعتبر أن تطوير الـ”أنا” ضرورة لوعي العالم، وفي ذلك إعادة الإعتبار للذات وتحريرها من عزلتها، والـ”أنا” ليست وحيدة. فهناك “أنيات” أخرى تشاركها العيش في هذا العالم.
أما الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس فيطرح سؤال الوجود الفلسفي. وهذا الوجود هو مصدر البهجة والسعادة في الحياة. وأن التقليل منه يخلق الحزن، الأمر الذي يستوجب الإنتقال من الذات إلى تحقيق الفكرة الإنسانية من خلال اللقاء بالآخر، والآخر هو شرط لهويّة الذات.
وقد تأثر ليفيناس بالمسيحية والبوذية وبالمهاتما غاندي. فحسب غاندي “اللّاعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية. إنه أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان”، وهو يعني رفض إستخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير إجتماعي أو سياسي. إنه شكل جديد من أشكال الكفاح الإجتماعي.
ووفقاً لجين شارب، اللّاعنف أسلوب يستطيع به الناس الذين يرفضون السلبية أو الخضوع، والذين يرون الكفاح ضرورياً، أن يخوضوا صراعاتهم من دون عنف. والعمل اللّاعنفي ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفاعلية في مجال السياسة، لاسيّما كيفية استخدام القدرات بفاعلية.
وكان هنري ديفد ثورو قد استخلص من تجربة مقاومة الرق ورحلة ما بعد الإستقلال الأميركي الكثير من الدروس لبلورة شكل جديد وفريد من الكفاح يقوم على تمجيد اللّاعنف والقيم العليا في السلام والتسامح واحترام الإنسان.