البير مخيبر.. طبيب المتن وسائر الفقراء (1)

"ألبير مخيبر". إكتفى ملحم الرياشي بالإسم بلا أية إضافات. سيرة رجل متواضع في كتاب متواضع. عقدان من الزمن على رحيل هذا الوطني اللبناني العنيد، فكان لا بد من مبادرة ما ومن أجدر من ملحم الرياشي بالكتابة عن "حكيم المتن والفقراء". كتاب لا يتناول علاقة الكاتب بمخيبر. هذه المهمة "متروكة بسردياتها لمكانٍ آخر"، يقول الرياشي. أما هذا الكتاب ـ التحية فيتحدث عن مخيبر الإنسان النبيل، عاشق الحرية والسيادة والديموقراطية والنيابة. ينشر موقع 180post أجزاء من كتاب رياشي.. هذا أولها:

مطلع سبعينيات القرن الماضي، شاهد مراسلٌ أجنبي سيارة دودج فستقية اللون مهلهلة الأطراف تُسمع جلبة أبوابها على بعد عشرين مترًا، تترنح وهي تقف أمام فندق السان جورج ثم يترجّل منها رجلٌ مربوع القامة ينحني قليلًا إلى الأمام ضامر الخصر تكاد سيكارة الـ«لاكي سترايك» تنطفئ بين شفتَيه ورأى الناس يصافحونه باحترامٍ ومحبّة.

سأل: من يكون؟ فأجابوه أنه ألبير مخيبر، نائب في البرلمان اللبناني، فعلّق على الفور بقوله، «هذا أول نائب لبناني ينتقل بمثل هذه السيارة «الأنتيكا» ولا شك أنه نظيف الجيب ونظيف القلب واللسان». إنـها صفات إنسانية نادرة في مجتمعٍ زبائني بامتياز، كالمجتمع اللبناني المركّب والمتنوّع. لم يكن مخيبر يجيد القيادة، ومرّة اضطر للتوجّه إلى البرلمان فقاد سيارته بنفسه فـقطعته في شارع رياض الصلح تركها في وسط الطريق وتوجّه إلى مجلس النواب سيرًا على قدمَيه.

في كهولته، كما في شبابه، كما في أواخر العمر، لم يتغيّر. مهنيًا ظلّ الطبيب الذي يحنو على مرضاه، ويخدمهم بالمجان وفي السياسة وفي ممارسة الشأن العام حافظ على ثوابته الوطنية والأخلاقية والمبدئية وما جرفته وحول السياسة ولا إغراءات السلطة، فظلّ النقي الواضح المتواضع.. الحكيم.

فلنعد إلى بدايات القرن العشرين.

هناك في واحدٍ من أحياء «بيت مري» الشاهد على فصلٍ مروع من فصول مجازر العام 1860، وفي بيتٍ عمره أكثر من مائتَي عام، وُلد للأستاذ سليم شعيا مخيبر وللسيّدة كاترين الحدّاد طفلٌ انضمّ إلى أخوته التسعة، توفيق، ملكة، عبد النور، عفيفة، فايق، فيليب، إميل أديب، ألبير وبعده اكتمل العقد العائلي بـ«جورج». بحسب بطاقة الهوية ألبير مخيبر من مواليد العام 1912 لكن في الحقيقة تكشف أوراق معموديته أنه من مواليد العام 1907 ولطالما تجنّب البوح بعمره وإن حاول أحد حشره كان يجيب «أزغر من ريمون»، أي العميد ريمون إدّه، المولود في الإسكندرية في العام 1913. إنها الكذبة الوحيدة في حياة ألبير مخيبر. وما يؤكّد «الكذبة» رواية غسّان مخيبر، نقلًا عن العم ألبير، أنه في طفولته حمل على ظهره أكياس القمح ورافق المتّجهين إلى بيروت لطحنه. عاش الفقر والعوز والجوع وعاش مجاعة الحرب العالمية الأولى. «كان ممنوعًا علينا رمي الخبز. يجب أن نقبّل الخبز إن وقع خطأ على الأرض. ذاكرة الحرب بقيت في ذهنه» أما الأمين العام السابق لحزب الكتلة الوطنية جان حوّاط فيكشف أن العميد ريمون إدّه قال له ذات يوم إن ألبير أكبر منه بثمانية أعوام، فيما كان «الحكيم» يقول «أنا والعميد من نفس العمر». ربما قصد نحن من الجيل نفسه!

لم يحل شيئ دون إتمام «الحكيم» رسالته الإنسانية التي بدأها في ثلاثينيات القرن العشرين فقبل شهرَين من وفاته (العام 2002) زارته امرأة للكشف على ابنتها. فحصها. بعد يومَين جاءته المرأة مولولة وقالت له: أأنت الله؟ وما فعله مخيبر في خلال الفحص أنه رسم دائرة بقلم “بيك” على جسم الصبيّة الجميلة وقال لها: اعملي فحوصات هنا. فظهرت المشكلة في منتصف الدائرة التي رسمها»

مارس الوالد سليم مخيبر السياسة بحدودها الاعتراضية، وفي واحدٍ من مواقفه أن في خلال عهد المتصرّفية، وتحديدًا في العام 1875 نزل مع وفد شعبي من المتن إلى جسر الباشا، حيث كان المتصرّف رستم باشا مارًا في عربةٍ في طريقه إلى سرايا بعبدا، فأوقفه ورفع إليه عريضة يحتجّ فيها على ضريبةٍ فرضتها الدولة العثمانية على المكلّف اللبناني، وأبلغ إليه قبوله بدفع هذه الضريبة بشرط أن تكون هناك موازنة خطّية توضح وجهة صرفها.» عرف الابن بما فعل والده بعد سنوات طويلة من خلال مجلّةٍ كان يصدرها جرجي شاهين عطيه ووصلت إليه في رمقها الورقي الأخير.

في السادسة من عمره دخل الولد إلى مدرسة أبيه، مدرّس اللغة الأنكليزية، الـfriends، وكم من مرّة اعتلى الصغير ألبير طاولةً وتمرّن على خطابٍ مدرسي أمام الوالد أو ألقى قصائد، مكتسبًا جرأة مبكرة وثقة بالنفس.

بعد الـfriends نزل الشاب الصغير إلى بيروت، وتسجّل في الليسيه الفرنسية وبقي فيها حتى تخرّجه في العام 1926. أثّرت الليسيه في تكوين شخصيته العلمانية، وبعد الدراسة الثانوية انتقل إلى الجامعة الفرنسية، فـ«الأميركية» ثمّ توجّه الى سويسرا وتخرّج من جامعة لوزان طبيبًا «درستُ الطبّ لأنه أولًا علم، وثانيًا لأنه يلامس الإنسان في صلب إنسانيته. فالطبيب الصالح يعي تمامًا الأحوال البيئية والنفسية التي يعيشها مريضه، وهو يعالج الجسم والنفس في آن ولا مجال للفصل بينهما. أشفقتُ على البؤساء والفقراء وأردتُ مساعدتهم. أثّرت بي ملامح البؤس التي عاينتها آنذاك وقرّرت ممارسة الطبّ كرسالة». لم يبالغ مخيبر في توصيف نظرته إلى الطبّ، لا بل قَرَن قوله بالفعل الإنساني، وقد أمضى من عمره، كلّ العمر، يعاين جميع قاصديه من دون مقابل، وأحيانًا يحظى مريضه بالدواء إن توافر في خزائنه».

في مدينة لوزان تعرّف إلى أمير البيان شكيب إرسلان وشارك في تحرّكات طالبية داعيةً إلى استقلال الدول العربية، وفي تلك المرحلة بدأت علامات النضج السياسي تتبلور في شخصية الطالب الشاب وتشكّلت في ذهنه مفاهيم متقدّمة ومعاصرة وهناك أيضًا تفتّح وعيه على قضايا حقوق الإنسان والحرّيات والقيم الديمقراطية، فصار هاجسه الأول، كسياسي وحزبي ونائب ووزير، الدفاع عن المظلومين وعمّن لا صوت لهم.

في العام 1934 عاد الطبيب الشاب إلى لبنان وافتتح عيادة في التباريس، على مقربةٍ من بيته في شارع لبنان (الأشرفية)، وكانت أقرب إلى مستوصف، والبيت كما العيادة، يمتلئ بالمرضى ما أن يفتح «الحكيم» عينَيه على فجرٍ جديد، وطوال حياته اعتاد النهوض باكرًا، في الخامسة فجرًا، وحوالى السادسة يبدأ توافد الزوّار إلى عيادته في الجمّيزة، ولم يتلكّأ الطبيب الشاب يومًا في معالجة أشد الناس فقرًا وبؤسًا والاهتمام بشؤونهم. ففي بداية حياته كطبيب، التقى مخيبر بشيخٍ ثمانيني يلبس شروالًا ويمشي بخطًى متثاقلة حاملًا فرشته على ظهره، وكان أحد مرضاه: سأله: «إلى أين أنت ذاهب مع فرشتك؟ أجاب بأنه يأخذ فرشته معه لأنه ذاهب إلى السجن، إذ صدر بحقّه حكمٌ بعدما استصدر أحد النافذين حكمًا لانتزاع قطعة أرض يملكها، ولا يريد أن ينام على الأرض».

أدرك مخيبر أن الحكم جائر، فوضع فرشة مريضه في السيارة وأقلّه إلى بعبدا وقابل المدّعي العام وشرح له الظلم اللاحق بمريضه، ونجح في إبطال الحكم. كان يومها في السابعة والعشرين، ومرارًا تذكّر مخيبر تلك الواقعة كمحطّةٍ أساسية في حياته الوطنية والعامة.

إقرأ على موقع 180  الشيعية السياسية: الخميني وصدّام.. كليشيه وأطماع ودم (2)

«طُلبتُ مرّةً لمعالجة راعٍ في مشيخا تحت بلدة المتين فاضطررت إلى السير في الوادي حيث يقيم الرجل في مراح إلى جانب الماعز مع عائلته، ولما فحصته وجدتُ أن حاله خطرة تحتاج إلى المراقبة، فأسعفته بما أحمل من الأمصال والأدوية وسهرتُ عليه حتى الصباح ولما تحسّن غادرت المراح.»[1]

كان وجه الطبيب يشعّ فرحًا كلّما أنقذ مريضًا من خطرٍ أو موت. ويخبر ضاحكًا أن ذات يوم قرعت سيّدةٌ على الباب في الرابعة والنصف فجرًا سائلةً «وينو الحكيم؟» فأجابتها العاملة في المنزل «راح يوزّع حليب».

في العام 1951، وبعد خوض مخيبر أولى معاركه الانتخابية على لائحة «الكتلة الوطنية». قال له أحد أصدقائه : إنا أحبّك وأفتخر بك لكنني أفضّل أن تبقى في الطبّ لأننا سنخسرك إن دخلت معترك السياسة. فكان تعليق مخيبر على غيرة الصديق: «أحبّ أن أكون طبيب النفوس كما أنني طبيب الأجساد. لا أريد أن أنقذ الناس من المرض الجسدي فحسب، بل يجب معالجتهم نفسيًا أيضًا في هذا البلد.» والحال اليوم أن الأصحّاء نفسيًا أقلية الأقليّة!

يوم وفاة أديب مخيبر (شقيق ألبير)، حضر الشيخ بيار الجميّل إلى دارة العائلة، وشارك آل مخيبر في تقبّل العزاء بفقيدهم، فالخصومة السياسية لا تتعارض واللياقات الاجتماعية، وفوجئ رئيس حزب الكتائب بالـ«حكيم» يلتفت بنظرة فاحصة أتبعها بثلاث كلمات، «بيار روح عالمستشفى»، وبعد 15 يومًا توفي رئيس حزب الكتائب عن عمرٍ ناهز التاسعة والسبعين

في سنوات الحرب اللبنانية، عاد سعادة النائب إلى المنزل الأول في بيت مري. واستحدث العيادة ملاصقة لغرفة نومه! أو بالأحرى فتح البيت عيادة وكانت المعاينات تبدأ حوالى السادسة صباحًا، وفي اليوم القصير لا تقل المعاينات على خمسين، وقد تصل إلى 100 معاينة يوميًا. وليس هذا فقط فإن قصده مريضٌ يطبّبه، ثم يزوره في اليوم التالي كي يسأله: كيف صرت؟

ونقلًا عن المحامي ريمون عازار فقد طلبه ذات يوم مكاري على عجل وكان وضعه الصحّي يستلزم عناية خاصة، فقصده في حظيرة الماعز وبقي معه حتى أنزله إلى المستشفى. مجالسة الناس المتواضعين والفقراء محبّبة لديه. «القعدة مع المكاري أحسن من القعدة مع الرؤساء» هذا ما كان يردّده.

إنها علاقةٌ استثنائية بين «الحكيم» ومرضاه، يحنو عليهم، يساعدهم على مواجهة أوجاعهم، يمنحهم جرعة إنسانية. وربما جرعة زائدة حبًّا. «كان طبيبنا وطبيب كلّ المتن.. سرّه غريب يقول جورج أشقر. كان يزور القرى ويطبّب من دون أي مقابل. تعلّق الناس به كثيرًا وكان من أفضل النواب».

ويروي النائب سليم سلهب أن «في العام 1978 كنتُ عائدًا لتوي من كندا حيث أمضيت ستة أعوام، كان الدكتور ألبير يحيل إلي من يحتاج إلى جراحة. وإن علم مثلًا أن موعد «العملية» في السابعة صباحًا يسبقني إلى غرفة العمليات ويكون حاضرًا في السادسة. علاقة «الحكيم» بمرضاه لا توصف، فمريضه لا ينام قبل أن يراه. ولا يقبل إبرة التخدير قبل وصول «الحكيم». تنتهي العملية فينتظر الدكتور مخيبر أن يفيق مريضه. يطمئن عليه. ويمشي. مزج نفسه بالناس وأصبح وإياهم شخصًا واحدًا.

أسرّ يومًا لمقرّبين منه بعدما بَلَغَ مِنَ العُمْرِ عِتِيًّا، أشعر أحيانًا أن في أصابعي سكانر، أستطيع أن أشخّص الحالة بمجّرد لمس المريض. باللمس وبنظرة سريعة أيضًا. ذات يوم دخلت عليه امرأة محنية الرأس فيما كان يتناول فطوره فقال لها ما إن لمحها تدخل: «ما في لزوم أفحصك روحي غيري المخدة»!

«مع تطوّر التكنولوجيا تقدّم الطبّ كثيرًا إلاّ أنه أصبح أقل إنسانية من الماضي» قال مخيبر في حديثٍ إلى الزميلة مي ضاهر يعقوب مضيفًا «ما عدنا نقول إن الطبيب أجرى فحصًا سريريًا بل أن الآلة شخّصت كذا وكذا. في الماضي كان الطبيب يجري فحصًا سريريًا دقيقًا، يلملم العوارض التي تنتاب المريض ويسحب من فكره ما اختزن من معلومات ويعطي تشخيصًا دقيقًا للمرض، اليوم (1992) بطّل هالأسلوب، وأصبح الطبيب في تصرّف الآلة وليست الآلة في تصرّف الطبيب، وما عاد يمرّن عقله في التشخيص أو يدرس ظروف المريض الاجتماعية والصحّية، وبالتالي بطّل يكون الطبّ إنسانيًا كم يفترض فيه أن يكون».[2]

يوم وفاة أديب مخيبر (شقيق ألبير)، حضر الشيخ بيار الجميّل إلى دارة العائلة، وشارك آل مخيبر في تقبّل العزاء بفقيدهم، فالخصومة السياسية لا تتعارض واللياقات الاجتماعية، وفوجئ رئيس حزب الكتائب بالـ«حكيم» يلتفت بنظرة فاحصة أتبعها بثلاث كلمات، «بيار روح عالمستشفى»، وبعد 15 يومًا توفي رئيس حزب الكتائب عن عمرٍ ناهز التاسعة والسبعين. ومخيبر هو «من اكتشف مرض ابنة غسّان تويني نايلة وزوجته ناديا لم يكن تشخيصه يخطىء وقد حرص، على الرغم من كلّ انشغالاته، على متابعة آخر الأبحاث الطبّية حول العالم».[3]

لم يحل شيئ دون إتمام «الحكيم» رسالته الإنسانية التي بدأها في ثلاثينيات القرن العشرين فقبل شهرَين من وفاته (العام 2002) زارته امرأة للكشف على ابنتها. فحصها. بعد يومَين جاءته المرأة مولولة وقالت له: أأنت الله؟ وما فعله مخيبر في خلال الفحص أنه رسم دائرة بقلم “بيك” على جسم الصبيّة الجميلة وقال لها: اعملي فحوصات هنا. فظهرت المشكلة في منتصف الدائرة التي رسمها».[4]

عاش «حكيم الفقراء» مع الناس 24/24، اهتمّ بصحّتهم، استمع إلى أوجاعهم، حلّ مشاكلهم. أعطاهم وقته، كلّ الوقت. ذهب إلى صغيرهم وكبيرهم في كلّ مكان: في الأقبية المعتمة، في الحظائر، في البيوت المتواضعة، في غرف المستشفيات. وجاؤوا إلى بيته المفتوح لهم، فالحكيم مع سمّاعته، ما كان يومًا، رغم انشغالاته، خارج السمع إلّا مرة واحدة في نيسانٍ أخير اتّشح بأزهار الحزن.

[1]– من حديثٍ إلى مارلين خليفة في «نهار الشباب» 22 أيار/مايو 2001.

[2]– المصدر نفسه.

[3]– من لقاءٍ مع سليم مخيبر.

[4]– المصدر نفسه.

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لستُ شيوعياً.. لكن متى تنفجرُ الثّورةُ الماركسيّةُ العالميّةُ؟ (1)