حسن علي الخنسا “ذو الشأن العظيم”.. ضيفاً عند “السيد”!

في الدقائق الأولى من يوم 3 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، شنّت إسرائيل غارة على مركز الهيئة الصحية الإسلامية في محلة الباشورة في بيروت. العملية التي وصفها جيش الاحتلال بـ"الدقيقة"، أدّت إلى استشهاد سبعة من عناصر الهيئة ومسعفيها هم: رجا رامز زريق، مهدي عدنان حلباوي، وسام محمود سلهب، أحمد محمد حايك، مصطفى علي الموسوي، ساجد شوقي شري، وحسن علي الخنسا. الأخير مسعف متطوّع، أنهى للتوّ دراسته الثانوية وكان ينتظر ردّاً من الجامعات التي راسلها لدراسة طب الأسنان. صواريخ الاحتلال كان لها رأي آخر.

لم يعد حسن يتحمّل الانتظار. مرّت ساعات وهو يروح ويجيء في أرجاء المنزل. يتحدّث مع أقاربه النازحين من الجنوب، يعتذر منهم عن عدم قدرته على البقاء معهم بسبب انشغاله، ثم يذهب لتفقد بنطاله المنشور على حبل الغسيل، يتلمّسه، ويعود إلى والدته فاطمة مكرّراً سؤاله لها: كم يحتاج هذه البنطال من الوقت بعد لكي ينشف؟ عندما قالت له آخر مرة: انتظر خمس دقائق أخيرة، حسم أمره. حمل هاتفه ووضع منبّهاً لساعة الهاتف لكي يرنّ مع انتهاء هذه الدقائق الخمس.

منذ أسبوع وحسن يرتدي البنطال نفسه. أعطوه إياه في الهيئة الصحية الإسلامية، حيث تطوّع في المركز الملاصق لبيتهم في الباشورة، منذ بدء العطلة الصيفية. هو الأمر الوحيد، في حياة حسن، الذي لم تختره له والدته. لطالما كانت شريكة في قراراته، حتى عند شراء الثياب، كانت تضعه أمام خيارين، هذا أو ذاك. لكنه عندما اختار التطوّع صيفاً في الإسعاف الصحي، لم تناقشه. كان يبحث عن أيّ شيء يُقرّبه من تحقيق حلمه في دراسة طب الأسنان. ولأنه مسعف متطوّع لم يكن يخرج في مهمات الإنقاذ. يبقى في المركز ويساعد في تلبية طلبات الناس الذي يقصدون المركز بحثاً عن دواء، أو عن تضميد جرح، أو غيرها من الخدمات البسيطة التي يستطيع القيام بها.

في الأسبوع الأخير، كان عمله كثيراً لأن المنطقة ازدحمت بالنازحين. وعلى الرغم من أن بيته قريب جداً، إلا أنّه لم يكن يزوره إلا نادراً، وبقي مرتدياً بنطال الإسعاف حتى يوم الأربعاء 2 تشرين الأول/أكتوبر. عاد إلى البيت وطلب من أمه أن تغسله مباشرة ليرتديه مجدداً ويعود إلى المركز. و”على شرف” بنطال حسن، صارت الوالدة تسأل الموجودين في المنزل عمن لديه ثياباً متسخة، لكي تُشغّل الغسّالة.

ما إن رنّ الهاتف معلناً انتهاء الدقائق الخمس، حتى سارع حسن إلى تناول البنطال، وارتدائه برغم رطوبته. كانت والدته جالسة على الكنبة في غرفة الجلوس، سمعته يسألها عند الباب “أنا رايح، بدّك شي”، فدعت له بالتوفيق. غادر حسن المنزل عند الرابعة والنصف من بعد الظهر، من دون أن توافيه إلى الباب، مودّعة كعادتها.

دوّن حسن أهدافه في الحياة على ورقة ورتبها حسب الأولويات ومنها النجاح في الشهادة الثانوية

حسن يغادر المنزل

هنا فقط، تنحسر البسمة الخجولة عن وجه فاطمة دقماق. كانت تحكي عن ساعاتها الأخيرة معه وكأنه ما يزال موجوداً، وعندما وصلت إلى اللحظة التي غادر فيها المنزل عدّلت من جلستها وبدأت حكاية أخرى. حكاية أعادت تشكيلها بما يتيح لها أن تعطي معنى لسنوات حسن الثمانية عشرة إلا شهراً. لم تنزوِ في ثياب الحداد، ارتدتها، وانطلقت في مهمة جديدة: منح الشهيد ما يستحق. إخبار الناس عنه. فهذا حقه، تقول. إلى جانبها يجلس الوالد علي، حزنه لا يخفى، كما استئناسه برواية زوجته التي لا بدّ أنّها تواسيهما.

قبل دقائق من الغارة الإسرائيلية في الباشورة، كانت الطائرات الإسرائيلية تغير على منطقة معوض في الضاحية الجنوبية. تلقى والد حسن رسالة من ابنه لآثار الغارة في الضاحية عند الثانية عشرة و17 دقيقة بعد منتصف الليل. وبعدها، اهتزّ المنزل بسبب دويّ انفجار قريب، وبدأت رحلة البحث عن حسن.

في البداية، خرج الوالد وبقيت فاطمة في البيت. ومع مرور الوقت، وبدء انتشار الخبر عن المكان المستهدف، سارعت فاطمة إلى مركز الهيئة. كان المشهد قاسياً، وكلّ الذين كانوا موجودين استشهدوا. رأت غالبيتهم في مشاهد قاسية لا تحتمل، لكنها تماسكت ووضعت أسوأ الاحتمالات في بالها. لا يمكن أن يخرج أحد حياً من هذا المكان قالت لنفسها، لكنها بقيت متمسّكة بالأمل خصوصاً أنّ حسن لم يكن من بين الشهداء. قال لها أحد الأقارب: حسن نقل إلى المستشفى. أجابت: فلنذهب إلى المستشفى، وفي بالها أنها تستطيع ببساطة أن تجد سيارة تقلّها “نسيت الوقت ونسيت الظرف واعتقدت أنه يمكنني أن أوقف تاكسي بشكل عادي”. أقلّها قريبها، وعند مدخل المستشفى وجدت شقيق زوجها جالساً في الخارج. سألته عن حسن، قال: ما يزال في الداخل. لم يخبرها شيئاً عن مصيره. دخلت إلى قسم الطوارئ، حيث وقع نظرها على سرير سجيّ عليه جثمان أحدهم، وقد غطي بالكامل. أكملت سيرها تسأل عن ابنها، حاول البعض التهرّب من الإجابة، لكنها أبدت تماسكاً وقالت للجميع إنها تتقبّل الخبر أياً يكن. أخبرها الطبيب أن الشاب على السرير الذي رأته هو حسن. في هذا الوقت، كان هناك من يحاول الذهاب بالسرير الذي يحمل الجثمان بعيداً عنها حرصاً عليها، لكنها نادتهم أن أعيدوه. كشفت عن وجه ابنها فوجدته سليماً. طلبت القرآن وجلست إلى جانبه تقرأ له من آياته. قراءة القرآن كانت ضمن لائحة الأهداف التي وضعها حسن لنفسه، ودوّنها على ورقة مرتباً إيّاها حسب الأولويات، وأهمّها النجاح في شهادة الثانوية العامة.

إقرأ على موقع 180  بايدن وترامب.. صورة أمريكا الفاشلة!

رؤيا حسن في المنام

عندما جاءها الناس مواسين، ردّدوا أمامها العبارة المعروفة: هنيئاً له، توفي شهيداً وضمن الجنة. تقبّلت الكلام خصوصاً أن الحديث عن شهيد اختاره الله إلى جواره، لكنها أضمرت في نفسها رأيها الخاص: ابني لم يكن يحتاج إلى الاستشهاد لكي يضمن الجنة. ابني كان سيذهب إليها بثيابه. مؤمن، لم يفوّت فرضاً. مهذّب، خلوق، مجتهد. لم يكن شخصاً عادياً.

ولد حسن الخنسا بعد انتهاء حرب تموز 2006 بأربعة أشهر. وعندما كان في شهره السادس من العمر، جاءت الرسالة التي خطّت له قدره. رأته خالته زينب في المنام، رضيعاً يحمله أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله. احتارت الخالة، بين أن تاخذ الطفل من بين يدَيْ السيّد أو أن تبقيه معه لكي تحظى بفرصة أطول تتأمل فيها صاحب انتصار تموز. وعندما ناولها سيّد المقاومة الطفل حسن، أوصاها به قائلاً: سيكون ذو شأن عظيم.

أعادت فاطمة دقماق تشكيل روايتها مع ابنها حسن بما يعطي معنى لحياته التي لم تصل إلى 18 عاماً

كان يمكن لهذا المنام أن يمرّ عابراً. كلّ الأمهات والخالات والعمّات يحلمن بمقامات عالية لأطفالهنّ، ويستبشرن برؤى تحدّد لهنّ مصائرهم، منها مثلاً الاسم الذي سيحمله الطفل القادم إلى الحياة. وهذا ما اعتقدته فاطمة لوقت طويل، تعاملت فيه مع منام شقيقتها بمزاح. كلّما كانت توجه ملاحظة لابنها حسن، أو تلومه على أمر ما، كانت شقيقتها تتدخل مدافعة عنه وتقول لها: لا يجوز أن تتكلمي معه هكذا. إنه ذو شأن عظيم. هكذا، حفظت فاطمة العبارة وبقيت في بالها. وكان لنجاح حسن الدراسي، وإيمانه، وتهذيبه، دور في تعزيز اقتناعها بأن ابنها لن يكون شخصاً عادياً “هو المتفوق الذي حصل على تقدير جيد جداً في الامتحانات الرسمية برغم أننا كنا نمرّ بظروف مرض ووفاة في العائلة”.

في الليلة التي استشهد فيها حسن، طلبت صديقتها المقيمة في كربلاء من زوّار مقام الإمام الحسين ابن علي أن يُصلوا صلاة الوحشة عن روح شاب استشهد في لبنان. كان عدد المصلين لافتاً للنظر تلك الليلة، حتى أن أحدهم قال: من هو هذا الشهيد ليحظى بهذه الصلاة؟ لا شك أنه ذو شأن عظيم. وصل الخبر إلى فاطمة، وكان وقع العبارة عليها مثل انهمار المياه على نار مشتعلة. برد قلبها بعض الشيء، من دون أن تتوقف رسائل الصبر التي تتلقفها بإيمان ويقين كبيرين. “ذو شأن عظيم” ستتكرّر للمرة الثالثة في منام رآه شخص لا يعرف الشهيد شخصياً بل سمع عن الغارة التي استهدفت فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي عناصر الهيئة الصحية الإسلامية. رأى وجه حسن في المنام، وعندما شاهد صوره لاحقاً، روى أن هاتفاً جاءه في المنام وأخبره أن هذا الشهيد “ذو شأن عظيم”. كان هناك من نقل هذه الرؤية إلى أم حسن، فابتسمت وقالت: ليس صدفة أن يستشهد بعد السيّد حسن نصرالله، بالتأكيد هو من استقبله هناك.

Print Friendly, PDF & Email
مهى زراقط

كاتبة وصحافية وأكاديمية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  البلطجة السياسية.. عون والحريري نموذجاً!