عن “الإمبراطورية” و”الفيروس” ورئيس لبنان!

كل إمبراطورية تُشكّل نظاماً عالمياً، وإن لم يشمل كل الكرة الأرضية. تسقط الإمبراطورية بعوامل داخلية وإن أثقلتها الأعباء الخارجية. هي في الأصل صارت إمبراطورية لأن بلداً ما يحكم البلاد الأخرى، ويفرض نفسه بالقوة. هو يحكم غيره لأنه أقوى من غيره.

تتسع رقعة الإمبراطورية فيعتقد حكامها أن “حقها” في حكم الشعوب الأخرى ضرورة طبيعية أو معطى إلهي. حتى في البلدان التي ينتخب الحاكم دورياً كل بضع سنوات، يعتقد الحاكم المنتخب أن التفويض أتاه لأسباب خاصة به، وإلا لما كان انتخابه. تختلف الديمقراطية عن غيرها في أن “فوقية” الحكم هي لمدة محدودة وليست مدى الحياة. في البلدان غير ذات “العراقة” الديمقراطية، يحاول كثير من الحكام إدامة وضعهم، ولو طال مدى الحياة. لا يُحسِن الحكام التواضع. إذا فعلوا ذلك استغرب الناس وربما اعتبروا الأمر نقصاً. الحاكم في كل بلد يقيم مكانة فوق الناس في بلده. وفي الإمبراطورية يقيم بلده مكانة فوق الشعوب الأخرى والمحكومة. يصاب الحاكم بداء الكبر والاستكبار لأسباب مضاعفة. استعلاء فوق الناس مستمد من وظيفة الحاكم. قليلون هم الحكام الذين يعتبرون مهمتهم تجعلهم أدنى من الجمهور، لا فوقه، ولا سادته.

في الديمقراطية، يستجدي المرشح السلطة من الناس. لكن في البلدان العالمثالثية، يستلم المرشح السلطة ويتصرف كأن الشعب يستمد حياته منه أو على الأقل ينبع وجود الشعب من كونه حاكماً. قال المتنبي في رثاء والدته:
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ/ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا

ما كان الترسيم ليحدث لولا أن النظام اللبناني برمته جزء لا يتجزأ من النظام العالمي. إنتاج الأزمة المالية، بما فيها المصارف، كان أمراً مفتعلاً، إمبراطوري الهيبة، لتدجين من ادعى أنه لم يتدجّن سابقاً. هؤلاء مضطرون لإعلان دجانتهم الآن بحجة الأزمة أو الأزمات أو ما يسمى “الظروف القاهرة”

اعتاد العرب على حكام يجرون انتخابات نيابية أو رئاسية، حتى بعد انقلاب عسكري. ويفوز قائد الانقلاب ديمقراطياً بنسبة تفوق الـ99% من الأصوات. لا ننسى أن أعتى طغاة القرن العشرين، هتلر وموسوليني، وصلا الى السلطة بانتخابات ديمقراطية، ثم تأبّد حكمهما.

***

في العالم إمبراطوريات “عظمى”، و”عظيمى”، و”معظومة”، كل بحسب المنطقة التي تسيطر عليها والشعوب التي تقع تحت سيطرتها. نادراً ما تحكم العالم إمبراطوريتان أو كان هناك نظامان عالميان. الرأسمالية لا تدع المجال إلا لقطب واحد، بعكس فيزياء الأرض التي تتطلّب قطبين لدورتها. قطب الرأسمالية واحد حتى يدور النظام الاجتماعي حوله. تنشأ الحروب العالمية لأن القطب الواحد يرفض منافسيه. هذه حال روسيا مع الولايات المتحدة. سقط الاتحاد السوفياتي فاعتقدت الولايات المتحدة أنها تخلصت من القطب المنافس. ولما صعدت روسيا، أنابت الولايات المتحدة دولة متوسطة الحجم (أوكرانيا) لمنع ذلك. وبالطبع الأمر تطلّب كثيراً من دعم أوروبا والولايات المتحدة؛ لم يؤدِ الأمر الى استفادة الشعب الأوكراني أو الروسي، بل استفادة الطبقة الرأسمالية من غنائم الحرب.

مع القطبية الواحدة تستفيد الامبراطورية من انعدام المنافسة. هناك حرب لكل من تسول له نفسه الارتقاء لأي قطب منافس: حرب بالإنابة عن طريق دولة متوسطة الحجم، ذات قومية متأججة، وعداء سافر للعظيمى. لا مانع لدى “العظمى” من نصب الأفخاخ لـ”العظيمى”. دائماً “خدعوها بقولهم حسناء”. تتغنى “العظمى” بقوة “العظيمى”، وتنصب لها فخ الحرب مع دولة متوسطة بالوكالة، أو مباشرة ان اقتضى الأمر كما في العراق. هناك اقتضى الأمر تدخل “العظمى” مباشرة بسبب أهمية النفط الذي يقتضي وضع اليد عليه، وتدمير البلد الذي يُهدّد به، كما فعل العراق.

في أوكرانيا، تجري الحرب بالإنابة. دعمتها الإمبراطورية وأتباعها في أوروبا الغربية بما يكفي من مال وسلاح. بمناسبة ذلك تتأجج القومية الأوكرانية، وتستفيد الطبقة الأوكرانية الحاكمة من قسم من المساعدات المتدفقة. المال عصب الحرب. لكن القتال مهمة يقوم بها الفقراء من الجهتين. والرواتب أحياناً مغرية. من لم تعجبه من المقاتلين الرواتب التي تدفعها الجيوش الرسمية، يستطيع الانضمام الى الجيوش غير الرسمية، التي لا تعمل على هواها بل حسب ارشادات الدول التي تخوض لأجلها الحرب.

المهم أن لا تخوض الإمبراطورية الحرب مباشرة. يفصلها المحيط الأطلسي وبحار أخرى عن ساحة المعركة. على بلدان أوروبا الغربية والوسطى أن تعاني النتائج المباشرة للحرب كونها متاخمة لساحتها، وكون حقوق “الإنسان”، و”الطفل”، و”المرأة”، شعارات إنسانية تستحق الدفاع عنها، مع محاولة إقحام حرب الإرهاب التي لا تجد لها مكاناً في منطقة اعتبرت لفترة طويلة قد طُهّرت من الإرهاب.

مسكينة روسيا وحلفاؤها، يتحدثون عن الإرهاب الفاشي في أوكرانيا، ولا يجد الأمر صدى لدى شبكات الإعلام الغربية. تعودنا على وسائل الإعلام الغربية عندما كان الأمر يتعلّق بالحروب في بلادنا. على أساس أن أجهزة أنظمتنا أكثر كذباً من المحطات الغربية. أما الآن فلا نعرف من نصدق حول الحرب الجارية في أوكرانيا، ويكاد معظم العالم ينغمس فيها بشكل أو بآخر.

***

قرأنا بعض شرائط أخبار التلفزيونات العالمية أن الكورونا جرى تطويرها في مختبر ما، وهذا يعني أن الفيروس مفتعل بشرياً، وأن النتائج كانت متوقعة أو غير متوقعة. لكننا عانينا من سياسات الأفواه المكممة، والتباعد الاجتماعي، والتطهّر عند ملامسة الغير أو كل سطح من الجوامد التي لا نطمئن إليها. في حالة من هذا النوع يكثر النقاش حول “الافتعال”. هل هو مقصود أو أن الانتشار جاء نتيجة مجرد إهمال؟ ولم نسمع كلاماً كالذي اعتدناه في مناسبة مشابهة عن مؤامرة دولية لإفناء قسم من البشرية ممن لم يعودوا يلزمون للنظام العالمي. أو أن “المؤامرة” لم تحقق أهدافها بسبب الهبة “الإنسانية”، وازدهار شركات الأدوية من ورائها.

هل استعيض بحرب أوكرانيا (التي في الأساس حضّرت الإمبراطورية أسباب نشوبها) عن حرب الكورونا؟ سؤال يستدعي البحث ولو بدا غريباً وخارج سياق الإعلام العالمي

في مثل هذه المناسبة تعودنا سماع أصوات ترتفع بالضجيج حول “حرب إبادة” ضد الإنسانية، خاصة ضد المسنين الذين صاروا يشكلون عبئاً على صناديق التقاعد وموازنات الدول التي سرقت هذه الصناديق، وتركت المسنين الذين باتوا جزءاً كبيراً من البشرية دون “شبكة أمان”، كما يقال عادة في الدوائر الرسمية.

إقرأ على موقع 180  المنازلة الإيرانية الإسرائيلية.. غير مسبوقة في التاريخ العسكري!

والسؤال هو هل استعيض بحرب أوكرانيا (التي في الأساس حضّرت الإمبراطورية أسباب نشوبها) عن حرب الكورونا؟ سؤال يستدعي البحث ولو بدا غريباً وخارج سياق الإعلام العالمي.

***

وفي لبنان، نمرُ بمرحلة يصح فيها قول الأعشى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل/ وهل تطيق وداعا أيها الرجل

يعتري الذين حكموا خلال السنوات الست الماضية شعور عميق بالفشل؛ فشل أغرق اللبنانيين في بحر من الذل والاستلاب والإفقار؛ حتى مدخراتهم صودرت، أو سرقت في المصارف، ولا ندري إذا كنا نستطيع فصل تحكم المصارف عن حكم الطبقة السياسية. المصارف تدعي في إعلاناتها المدفوعة الأجر لمحطات البث التلفزيوني تنصلها من المسؤولية، وتحميلها للطبقة السياسية. وهذه الأخيرة نقلت البلد من الولاء الطائفي الى ما هو أشد وأدهى. صار في لبنان من يهتف جماعياً لأكباش الطوائف. “بالدم بالروح نفديك يا زعيم”. واضح من خلال تلكؤ الطبقة السياسية في تنفيذ الاصلاحات أو تلك التي يحاول صندوق النقد الدولي فرضها، أنها سعيدة جداً بالوضع الراهن الذي حوّل حياة اللبنانيين إلى جحيم. وعلى رأس الطبقة السياسية مَنْ ما فتئ يُردّد “ماخلونا”. فكأن المعيقات كانت من الناس وليست من العفن السياسي الذي يعشعش في أدمغتهم. ليس أن الآخرين “ما خلونا”، بل هي أن الطبقة السياسية، بالأحرى المافيا السياسية-المالية التي تسيطر على لبنان، هم جزء منها. ليس أن النظام اللبناني يعتريه فساد ما، بل هو بكامل أعضائه عدة شغل للفساد. وما كان الترسيم ليحدث لولا أن النظام اللبناني برمته جزء لا يتجزأ من النظام العالمي. إنتاج الأزمة المالية، بما فيها المصارف، كان أمراً مفتعلاً، إمبراطوري الهيبة، لتدجين من ادعى أنه لم يتدجّن سابقاً. هؤلاء مضطرون لإعلان دجانتهم الآن بحجة الأزمة أو الأزمات أو ما يسمى “الظروف القاهرة”.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الانتخابات النيابية اللبنانية.. معركة تقطيع الوقت