سهى امرأة أربعينية، تعاني من اكتئاب حاد، تحرص على أخذ دوائها ومتابعة علاجها النفسي، لكنّها اليوم أعادت بناء جدرانها المدمرة، ووطدّت أعمدة تستند عليها اذا اشتدت الرياح. بدأت من جديد، وفي كل مرة سقطت كانت تنهض، هي اليوم تعيش مع أطفالها وزوجها، برغم كل الجراح والإحباطات، تنعم بمنحة الحياة التي كادت تفلت منها مرات عديدة.
بصوت مرتجف أجابت على سؤالي ودموعٍ أبت أن تسقط قالت: “أكتر شي جرحني بحياتي لمّا ابني (خمس سنوات) كان يلّح عليّ طلباً لشيء لم أعد أذكره، وكانت إجابة زوجي له: بابا، ماما عم تروح عند حكيم نفساني، اتركها بحالها”.
أسلوب الزوج المتهكّم جعل سهى تعيش حالة نكران قوية، تُوقف الدواء وتعود اليه، تميل كيفما الريح مالت، مرة تذهب الى المعالجة ومرات لا تذهب، تقول “فقدت ثقتي بنفسي ككيان انساني، شعرت أني كنبة أو طاولة أو صورة على حائط، شعرت أنّي لست أمّاً، لماذا؟ لأنني لم أعد صالحة لتلبية احتياجات أولادي”.
كما تقول: “آسف لا أستطيع أن آكل قطعة الحلوى، أنا مصاب بالسكري”، حان الوقت لأن تقول “آسف لا أستطيع فعل هذا، أنا أعاني من اضطراب المزاج”
تعود سهى للحاضر مبتسمة وتقول :”في ذلك الوقت لم أرد الانفصال عن زوجي ولا فكّرت للحظة واحدة أن الحلّ سيكون بتدمير كل شيء، كانت نزعتي التدميرية داخلية، حاولت الانتحار برغم كل صلابتي، وهذا لم يكن قراري أنا، التفكير بالانتحار كان نتيجة تركي الدواء بشكل مفاجئ، كنت أشعر أنّ الله ينزع روحي ببطء، يسحبها على مهل، ولذلك حاولت الاسراع بهذا الانتقام حتى لا أتألم أكثر. لم أعرف في ذلك الوقت ماذا حصل، الاّ أني ملقاة على سرير ابيض بغرفة غريبة جداً، لا يوجد فيها ستارة ولا تلفاز، حتى الحمام كان مختلفاً، بعدها عرفت انّي في مستشفى للأمراض النفسية”.
خضعت سهى لعلاج دوائي مكثف، ولم تخرج من المستشفى الاّ بعد اسبوعين، عَرِفتْ أنّها ليست تلك الشابة الجامعية التي درست الأدب العربي، وتزوجت وأنجبت أطفالها وكانت زوجة صالحة وجميلة ومحبّة وصادقة تؤكّد ونبرة صوتها ترتفع :”يا مايا، انا لم أتصنّع الودّ، ولم أجامل أحداً ولم أستغل أحداً، بل شعرت أني بعد انجاب طفلي الأول عرضة للاستغلال. أحببت زوجي ولكنّه كان نرجسياً سادياً. كان يستمتع بتحطيمي بطريقة محترمة وبكلمات جميلة وراقية أمام الناس، ولأني بنت بيت لم أطالبه يوماً لا سرّاً ولا جهراً بهذه الإساءات، كنت أضعها في دفاتر وأُحكم عليها الأقفال في ذاكرتي، وفي كل مرحلة أفتح ملفاً جديداً”.
طالت السنوات وخبرة سهى في الحياة ازدادت وبدأت تقارن بين أمهات أصدقاء أولادها وأزواجهن ومعارفهن وأخواتها ولكن حرجها من المطالبة بحقوقها كان أقوى من الافصاح عنها. حاولت أن تكمل دراسة الماجيستير في الجامعة اللبنانية لأنها لا تعمل ولديها الوقت الكافي قبل عودة أولادها إلى البيت وزوجها من سهراته مع الأصدقاء، وتسجلّت بعد نصائح الاخصائية النفسية بإشغال وقتها بما هو مفيد لها، ونجحت في سنتها الأولى مع كل الضغوط التي كانت تمارس عليها، تقول: “كأني كنت أفعل شيئاً سيئاً، كان زوجي مستاءً، كثير المطالب، اصبح يعود للبيت باكراً حتى لا استطيع التفرّغ للدراسة، وأطفالي في الكفة الأخرى، احتياجات وطلبات ومتابعات، حتى شعرت بضغط كبير وتخلّيت عن دراستي لأني عدت من جديد إلى دوامة الإكتئاب، نعم الاكتئاب هو دوامة، تشعرين يا مايا.. انّك داخل هاوية تسحبك إلى الأسفل، وتدور بك مسرعة وانت كورقة خريف تطيرين معها، لا تستطيعين المواجهة ولا حتى ادراك ما يحصل، الاكتئاب هو عجزي عن فهم نفسي”.
كانت ملامح سهى تتغير بسرعة، وكأنها طفلة تطير بين ستائر معلقة في مرجة خضراء وتختبىء وراء واحدة وتظهر من أمام أخرى، تقول سهى: “حافظت على زواجي لأنها وصية أمي، وبذلت جهودي لأنجح في كل شيء، في الجامعة، في الأسرة، في المجتمع، وبذلت كل ما بوسعي، فقدت الأنا، نسيت من أكون، لم أعد أكترث لحذائي او شعري، أو لأحمر الشفاه، لم تعد تهمني الأغاني القديمة أو الصديقات واذا صادفت إحداهن كنت أسلك مساراً مختلفاً حتى لا أراها، وبرغم كل هذا لم أذق طعم النجاح، زوجي زرع في نفسي عقدة الفشل واحساسي بالنقص، وكنت دائماً في صراع من أنا وحياة من أعيش؟ سهى الفتاة الطموحة المُحبة أو سهى التي تجتر آلامها ليتوقّف تأنيب الضمير”.
الاضطرابات النفسية هي في صلب كل المجتمعات فكيف ببلد مثل لبنان تُزنّره الأزمات من كل حدب وصوب، لذلك يجب أن تندرج حملات التوعية ضمن خطة رسمية تعيد للإنسان ما فقده في هذا البلد: الأمل بيوم جديد
حال سهى حال صامتات كثيرات، الافصاح عن المسائل العائلية خيانة بالنسبة إليهن، الكلام عن المشكلات لا يجدي، والحديث عن التفاصيل أصبح أمراً لا جدوى منه، بعضهن تلجأ لمؤسسات انسانية كالتي تواكب سهى في عملية شفائها بعدما طار الدعم الرسمي لمعظم الأدوية النفسية وبات مُتعذّراً الحصول عليها بسبب انقطاعها او ارتفاع اسعارها بالإضافة إلى أنّ تكلفة الجلسة العلاجية النفسية تفوق العشرين دولاراً كمعدل وسطي، والكثيرات من النساء اللبنانيات فقدن أعمالهنّ كمعلمات أو ممرضات أو محاسبات أو بائعات وغيرها من الأعمال والمهن.. ولم تعدّ مروحة الخيارات أمامهن مفتوحة إلاّ بإزالة الوصمة الاجتماعية حول الاضطرابات النفسية، وتعزيز التوعية حول أهمية الصحة النفسية، وكيفية الوصول إلى المؤسسات الإنسانية التي تعمل في هذا المجال سواء عبر وسائل الاعلام أو البلديات أو الجامعات أو المدارس، فقد حان الوقت لهذا التخلّف الجماعي أن ينتهي، فكما تقول: “آسف لا أستطيع أن آكل قطعة الحلوى، أنا مصاب بالسكري”، حان الوقت لأن تقول “آسف لا أستطيع فعل هذا، أنا أعاني من اضطراب المزاج”.
الاضطرابات النفسية هي في صلب كل المجتمعات فكيف ببلد مثل لبنان تُزنّره الأزمات من كل حدب وصوب، لذلك يجب أن تندرج حملات التوعية ضمن خطة رسمية تعيد للإنسان ما فقده في هذا البلد: الأمل بيوم جديد.
“جعل الصحة النفسية أولوية للجميع” هو عنوان اليوم العالمي للصحة النفسية في 10 تشرين الأول/أكتوبر من كل عام. “نحو مليار شخص يعاني من مشكلة على صعيد الصحة النفسية، إلا أنها تظل أحد جوانب الرعاية الصحية الأكثر تعرّضا للإهمال”، يقول موقع الأمم المتحدة بنسخته العربية.