وارئيساه..!

حكت لي صديقتي مرّةً عن إحدى تغطياتها الصحافيّة. أخبرتني كيف ذهبت في الـ 2005 مع زميلٍ لها إلى "الرابية" لمقابلة العماد ميشال عون بُعيد عودته من منفاه الفرنسي. بعد سلسلةٍ من الأسئلة والأجوبة، سألت صديقتي عون فجأةً: "جنرال.. ماذا فعلتَ بالحلي والمجوهرات التي وهبك إيّاها الأهالي لمقاومة الاحتلال السوري"؟

صمت الجنرال برهةً ثمّ أجابها بنبرة المُستفَزّ: “ما تخافي.. موجودين بالحفظ والصوْن عند رياض سلامة (حاكم المصرف المركزي)”! “ما قصّة هذه الحلي؟!”، سألتُها بتعجّب. فقصّت عليّ كيف كانت بعض النسوة في مناطق نفوذ عون تَهِبْنَ مصاغهنّ كُرمى لعيون الجنرال. تضعْنَ الأساور والخواتم والعقود والليرات الذهبيّة على شرشفٍ مُدِّد في إحدى حدائق “قصر الشعب” لـ”جني التبرّعات” دعماً لمجهود “حرب التحرير”. تلك الحرب التي أطلق عون نداءها في 14 آذار/مارس 1989 ضدّ “الاحتلال السوري” ومؤتمر الطائف (الذي أسفر عن الاتفاق الشهير). ودفاعاً عن السيادة والحقوق. أتغلو، على مَن هندس مساراً كهذا لحياته، إسوارة عروس؟ وطوق حمام؟ وأقراطٌ ماسيّة برّاقة كالشهب في ليلةٍ عاصفة؟

“الدماء وحدها هي التي تُحرّك عجلات التاريخ”، يقول موسوليني إحدى الشخصيّات التي تأثّر بها الجنرال عون كثيراً. كونها تعتبر ما تقوم به “مهمّةً رسوليّة مقدّسة”. تماماً مثل دونكيشوت المسكين. ذاك الذي تقمّصه هوسُ استعادة أمجاد الفرسان الجوّالين. ومحاكاة سِيَرهم في نشر العدل ومساعدة المستضعفين والدفاع عنهم. “لقد وُلِدتُ في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصرَ الذهبي”، يقول دونكيشوت عمّا كان ينوي تحقيقه. ميشال عون هو صاحب شخصيّةٍ دونكيشوتيّة بامتياز. فَلَكَمْ دغدغ أسماع مناصريه وهو يهدّد بالثبور وعظائم الأمور، نصرةً للحقّ! ولَكَمْ صرخت الجماهير وهتفت بحياته وبموت أعدائه، بينما هو يتوعّد ويعد بـ”تكسير رأس حافظ الأسد”. و”بخلخلة المسمار السوري حتّى ولو اقتضى الأمر أن يستعمل سكّين المطبخ”! لماذا العودة إلى ذاك الزمن؟

استحضار الماضي لا يمكنه إنقاذ المستقبل، هذا صحيح. لكنّ الجراح التي لم تلتئم جيّداً، سرعان ما تعاود النزف وكأنّها جراحُ الأمس. فتاريخ كلّ شعبٍ يا أصدقاء، هو خطٌّ متّصل. قد يصعد هذا الخطّ أو يهبط. قد يدور حول نفسه أو ينحني. لكنّه لا ينقطع أبداً. ومن المهامّ الموكلة للتاريخ، هي تعليم الإنسان الدروس. الجيّد منها والسيّئ، على حدٍّ سواء. وجعْله (أو هكذا يجب أن يكون) أكثر وعياً. وأقدر على اتّخاذ الخطوات المناسبة. وهنا يكمن أجمل وصفٍ للتاريخ. ذاك الذي وصّفه المستشار الألماني (الأوّل) كونراد أديناور الذي قاد بلاده من أنقاض الحرب العالميّة الثانية إلى دولةٍ منتجةٍ مزدهرة. قال: “التاريخ هو الحصيلة الإجماليّة لأشياء كان من الممكن تفاديها”!

لم يُطفئ جلوسُه على كرسي الجمهوريّة جذوة الجموح والجنوح فيه. بل ظلّ ذلك الانقلابي المتخفّي بزيّه العسكري تحت بذلته الرئاسيّة. وبقي ذلك الضابط المُحتقِر للمدنيّين و”أَكَلَة الجبنة”. ودام رئيس حزبٍ يحاصص في الصغيرة والكبيرة. واستمرّ غير مُدركٍ لماهيّة السلطة والحُكم

قد يكون الشعب اللبناني في طليعة الشعوب التي لم تعرف أن تتفادى ما يؤذيها. وأكثر. لم تستطع أن تتعلّم أيّ درسٍ من دروس التاريخ. لا من تاريخها ولا من تاريخ غيرها. لا من ماضيها ولا من ماضي غيرها. و”أولئك الذين لا يتذكّرون الماضي محكومٌ عليهم بإعادته”، بحسب فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير، والذي كان سيهزأ من حالنا بسخريّته الظريفة المعروفة! فهل يُعقَل أن يخرج “رجلٌ مسؤول” إلى الناس ويخاطبهم بنفس الروح والذهنيّة والتعابير والنبرة التي خاطب بها أمّهاتهم وآباءهم وأجدادهم قبل أكثر من ثلاثة عقود؟

ليست هذه السطور لتقييم خطبة وداع الرئيس ميشال عون البارحة. ولا لتكرار ما قيل وكُتِب عن عهده الآفل. ولا عن شخصيّته الإشكاليّة والمثيرة للانقسام الحادّ بين اللبنانيّين. هي مجرّد محاولة لجوجلة ما تكرّس في قاموسنا السياسي من خلال ما اختطّه الرجل في نهجه للحُكم. حُكم، أصرّ وألحّ على تسميته بـ”العهد”. وأصرّ وألحّ مؤيّدوه على نعته بـ”القوي”. وقد يكون هذا الشعار، “المُورِّطَ” الأساسي لجنرال بعبدا (كما كان يُنادى في الثمانينيّات). ليس لأنّ الرئيس عون غير “قوي”. بل لأنّ مفهوم “قوّته” كان بحاجةٍ إلى تفسير وتوضيح!

أوّلاً، بالنظر إلى عدم فهمنا للمقصود من القوّة (قوّة العضلات؟ قوّة النضال؟ قوّة العقيدة؟ قوّة المبادئ؟ قوّة التأثير في الناس؟ قوّة المبادرة والقرار؟ قوّة المواجهة؟ قوّة المحاججة والإقناع؟ قوّة التمثيل النيابي؟ قوّة الصلاحيّات؟…إلخ). وثانياً، هي قوّة على مَن؟ وبوجه مَن؟ ومن أجل ماذا؟ وثالثاً، لكون نعت عهد عون بالقوّة قد ساهم في رفع منسوب “الأمل” في توقّع الإنجازات والإصلاحات النوعيّة منه. وأسوأ المآسي، كما تعرفون، تولد من خيبة التوقّعات. حتّى ولو إنّ البعض يعتبر أنّ الخيبة هي “مطيّة التاريخ”، وأن لا تقدّم من دونها!

لقد دخلت شخصيّات لبنانيّة كثيرة التاريخ من أبوابٍ عديدة. لكن لم يعرف لبنان، قبل ميشال عون، شخصيّةً دخلته من باب الفشل! وهي لَمفارقة أن تكون قابليّة الفشل الشخصي للرجل مقرونةً بقدرته الموصوفة على تعميم هذا الفشل ونقل عدواه إلى الآخرين (ومعظمهم فاشلون أصلاً). لكنّ المذهل أيضاً، أن تشكّل هذه الموهبة، في التعطيل وخلق الفراغ وملء الفراغات بالفراغ وإفشال الغير والمناكفة والكيديّة والميل الاستثنائي للسلوك الانتقامي، تذكرةَ المرور لميشال عون إلى قلوب محبّيه! إنّها فعلاً ظاهرة سياسيّة غير مسبوقة. نعم. تنطبق على “الحالة العونيّة” كلّ المواصفات والشروط والمتطلّبات التي وضعها علم الاجتماع السياسي لتعريف هذا النوع من الظواهر. وإذا ذهبنا أبعد من ذلك (مع هذا العلم)، لصنّفناها بالظاهرة الثابتة. التي تلفت الانتباه. وتدعو للقلق و..الحذر. و”فضلُ” الظهور والتجلّي لهذه الظاهرة يعود إلى شخصيّة مؤسّسها ومحرّكها وراعيها. وعبر كلّ الأدوار التي تقمّصها!

يمكن اعتبار ميشال عون حالة فريدة في التاريخ السياسي اللبناني. فهو لا يشبه أيّاً من السياسيّين اللبنانيّين، الحاليّين والسابقين. لا يمكن اعتباره مافياويّاً كمعظمهم. ولا يمكن إدراجه ضمن القادة المناضلين من ذوي العقائد الصلبة والمبادئ الراسخة والنهج الذي لا يساوم. كحال قلّةٍ قليلة من هؤلاء القادة الذين عرفهم تاريخنا (القديم والحديث). خلال ولايته المنصرمة، ركّز عون في الأذهان مجموعة مفاهيم في السياسة. أو بتعبيرٍ أدقّ، في الحياة السياسيّة. مفاهيم تُدار، لسخريّة القدر، بالتكتيك الذي اتّبعه حُكّام إسرائيل ليسيدوا ويميدوا. فيقول سفيرٌ إسرائيلي في شهادةٍ له عن حياته المهنيّة، خلال خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، الآتي: “كانت مهمّتنا حسّاسة جداً. بحيث كان يتوجّب علينا أن نُقْنِع العرب بأنّ إسرائيل لا تُهزَم؛ وأن نُقْنِع الغرب، في الوقت ذاته، بأنّ إسرائيل مُهدَّدة بالموت”!

إقرأ على موقع 180  عام 2011.. المستحيل السوري!

فعلُ الشيء ونقيضه، كان أهمّ سلاحٍ امتشقه ميشال عون عبر تاريخه العسكري والسياسي الطويل. وليس التناقض هو المقصود، تحديداً، في هذا الكلام على أهميّة دلالاته. بل انقلابه، وفي رفّة عين، من تبنّي الشيء إلى تبنّي نقيضه. كأن يقول قبل الظهر، مثلاً، إنّ لون هذا الكتاب أبيض. ويقول بعد الظهر إنّه أسود. لا أعتقد أنّه يعاني من عمى الألوان. فالأمر أشدّ خطورة. هو تلك المقدرة الرهيبة لديه على إقناع ناسه وجمهوره، بأنّ الأبيض لم يكن أبيض في الأصل. وهو، بالتالي، لم يتحوّل إلى أسود. إنّه أحد المفاهيم التي كرّسها عون خلال ولايتيْه في قصر بعبدا (1988 – 1990 و 2016 – 2022). أعني، ممارسة سياسة الهويّات المضلِّلة والخادعة وبيع الأوهام لتسويغ التقلّبات والانعطافات الجذريّة وتبريرها. “فالماء لو أُطيل تسخينه لا يمنعه ذلك من إطفائه النار إذا صُبّ عليها”، يقول ابن المقفّع (في كليلة ودمنة).

أمّا المفهوم الآخر، فيقول بأنّ الوطنيّة هي شيءٌ نسبي. شعور يتغيّر وفق الظروف وتبعاً للأحداث. وموقف يحضر ويغيب غبّ الطلب. أي إنّ الوطنيّة، كما يفترض الكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، “ليست سوى اختراعٍ اخترعته السلطة لكي يحارب الجنود مجّاناً”. وهكذا، ما كان يُعتقَد أنّه مُحرَّم يغدو حلالاً. ويصبح العدوّ صديقاً والصديق عدوّاً. بمجرّد أن يكون للسياسي مصلحة من وراء هذه الصداقة أو تلك العداوة. وإذا تأمّلنا في مسار العلاقات بين الرئيس العماد ميشال عون وبين كلٍّ من سوريا وأميركا وحزب الله والقوّات اللبنانيّة وتيّار المستقبل و.. لَوجدنا كم إنّه يرتكز إلى هذه “القاعدة” (مع اختلاف أحجام وأدوار هذه الأطراف بالطبع).

المفهوم الثالث الذي ثبّته عون يعتبر أنّ الحاكم (ومطلق شخص مسؤول في الدولة) يجب أن يكون سعيداً بما قدّر له الله أن يصنع من أفعال خير. أمّا إذا أفضى الخير إلى الشرّ، كما يحصل غالباً، فيجب ألاّ يظنّ أنّ ذلك قد يكون بسببه. فالإنسان المتعقّل يجب ألاّ يشعر بنفسه مسؤولاً عن أفعاله وعواقبها الوخيمة، بل مسؤولاً عن نيّاته فقط. وهكذا تصبح أعمالٌ لم يرسم أهدافَها ولم يخطّط مراميها أيٌّ كان، منتظمةً تتحكّم فيها نيّةٌ لم تعد نيّةَ خالقٍ يُتصوّر كشخص. إنّما نيّة جماعيّة أو مؤسّسة تعمل كعلّةٍ غائيّة قادرة على تبرير كلّ شيء. بأقلّ جهد. ومن دون أن تفسّر شيئاً.

فعلُ الشيء ونقيضه، كان أهمّ سلاحٍ امتشقه ميشال عون عبر تاريخه العسكري والسياسي الطويل. وليس التناقض هو المقصود، تحديداً، في هذا الكلام على أهميّة دلالاته. بل انقلابه، وفي رفّة عين، من تبنّي الشيء إلى تبنّي نقيضه. كأن يقول قبل الظهر، مثلاً، إنّ لون هذا الكتاب أبيض. ويقول بعد الظهر إنّه أسود

مفهوم رابع سعى العهد القوي لترسيخه. مفاده أنّ كلّ هزيمةٍ يجب أن يُنظَر إليها كانتصار. إذْ لا يمكن أن يُزَجّ اسم رجلٍ من وزن ميشال عون في خانة الانكسارات. انهزم في أقلّ من ساعة أمام العمليّة العسكريّة السوريّة-اللبنانيّة “لاستئصاله” من قصر بعبدا. فهرب إلى السفارة الفرنسيّة تاركاً أفراد عائلته وجنوده وضبّاطه للموت والأَسْر، لكنّه جعل من 13 تشرين يوماً تاريخيّاً للاحتفال. وبعد عودته التسوناميّة في الـ 2005، دخل إلى البرلمان مع أكبر كتلةٍ نيابيّة فاحتفل. وعندما عاد وخسر الكثير من نوابه احتفل أيضاً. عاد رئيساً مزهوّاً إلى القصر الذي غادره تحت جنح الظلام فاحتفل. وخرج بالأمس خفيض الجناح فزفّوا نهايته كالبدايات. فالزمن الذي يوجد فيه عون لا يمكن أن يكون إلاّ زمن احتفالات. وانتصارات. وتبريكات وتبجيلات. أيذكّركم هذا بأحدهم؟ ماذا بعد؟

لقد انتهى عهد ميشال عون رسميّاً في منتصف ليل يومنا هذا. وبقي لديه، كما لدى الكثيرين من محبّيه وكارهيه حتّى، ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كنّاسي المسرح بعد خروج آخر الممثّلين. فمع انتخابه رئيساً، توقّع لبنانيّون كُثُر (وأنا منهم) أن تسلك شعاراته الرنّانة طريقها إلى التنفيذ. لكنّ هذا لم يحدث، للأسف. إذْ لم يُطفئ جلوسُه على كرسي الجمهوريّة جذوة الجموح والجنوح فيه. بل ظلّ ذلك الانقلابي المتخفّي بزيّه العسكري تحت بذلته الرئاسيّة. وبقي ذلك الضابط المُحتقِر للمدنيّين و”أَكَلَة الجبنة”. ودام رئيس حزبٍ يحاصص في الصغيرة والكبيرة. واستمرّ غير مُدركٍ لماهيّة السلطة والحُكم. فلا رؤية للتغيير. ولا إرادة حقيقيّة للإصلاح. ولا خيال يخترق تخوم الغيب. ولا جسارة لمحاسبة مَن ثَبُتَ على اتّهامهم بتدمير البلاد وإذلال العباد. ماذا سيكتب التاريخ عنّي؟ يقضّ هذا السؤال مضجع ميشال عون على الرغم من ادّعائه اللامبالاة.

كلمة أخيرة. أذكر كم كنّا نمازح زميلنا الصحافي الراحل نبيل هادي (حاوي)، عندما كان “يُصدِر” حُكمه المبرم على رئيسٍ فاسد أو ملكٍ ظالم أو أيّ شخصيّةٍ سياسيّة لا تروق له: “هذا مصيره مزبلة التاريخ”. كنّا نضحك ونسأل عندما يصلنا نصّه بالفاكس من جريدة “النداء” إلى إذاعة “صوت الشعب”: “مَن زَبَل نبيل اليوم يا ترى”؟. لو كان لا يزال بيننا، لَفَتح مزبلة التاريخ، بلا ريب، لاستقبال أوّل الوافدين من أركان الطغمة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة. إقتضى الشكّ.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط غير صالح للسكن.. لأسباب مناخية!