هذا النوع من المقاربة الذي أضحكنا به “غوار” أيام كان الضحك مُتاحاً، أصبح اليوم من الحقائق القاسية التي لا يملك ضحاياها حبل نجاة. فالمرض العُضال يمضي فتكاً بالشعبين هنا وهناك، تحت نير قوىً تتماثل في العديد من الأوجه والوسائل والأدوات. قراءة ما يُعانيه اللبناني تماثل ما يعيشه العراقي. شعب هناك وهنا جعلوه “فحم مشاوي” للأجندة التي سخّروا الجيوستراتيحيا لتصنيع ديناميات انهياراتها.
ماذا يجري في العراق؟
تحت رماد الهدوء الظاهر في بلاد الرافدين يتفاعل قدر مكتوم من الغضب والتوتر. ليس في الوسط الشيعي ضد السنة هذه المرة، ولا في الوسط العروبي ضد “الأمريكان”، بل داخل البيئة الشيعية نفسها. جماعة “الإطار التنسيقي” من جهة والأغلبية البرلمانية (التي طارت في غفلة من الإستقالة) ومعها التيار الصدري من الجهة المقابلة. البلاد على كف شيطان الأطماع وشهوة الهيمنة وخنق المصائر والمصالح الوطنية بمشنقة الأمر الواقع. هكذا جعلوا المواجهة تتواصل بلا هوادة بين “الإطار” و”التيار”، وباتت اليوم البديل الأسوأ عن صراع الأمس المذهبي بين الشيعة والسنة، إلا أنها قد تكون أشدّ أذى وأكثر خطورة على وحدة العراق.
بدايات الانقسام ظهرت بُعيد الاجتياح الأميركي في العام 2003 وبفضل هذا الاجتياح وبتدبير منه. بعض العراق اتجه يومها إلى المراهنة على العملية السياسية الناشئة، وآثر بعضه الآخر التشكيك بجدواها وصولاً إلى مقاطعتها وبالتالي السعي لمواجهتها برفع السلاح ضد أطرافها، ودائما تحت الرعاية الأميركية المتسترة بألف قناع. تضمّن الحشدان المتكارهان ما يكفي من السنة ومن الشيعة سواء بسواء، ما وضع البلاد على صفيح ساخن شهد العديد من انفجارات العنف التي بقيت محدودة. ولا بد من ملاحظة أساسية هنا لا يرغب البعض في الاعتراف بها، وهي أن الأكثرية داخل العملية السياسية، وكانت أكثرية شيعية، نجحت حينها في تحويل الخلاف بشأن العملية السياسية بين طرفيها إلى نزاع مذهبي بين طائفتين. وبعدما تفاقمت الأمور داخلياً واشتعلت الشوارع بالتظاهرات الغاضبة المناهضة للحكومة التي كانت تحت القبضة الشيعية، استطاعت القوى الحكومية المهيمنة تصوير ما يجري من “شبه ثورة” على واقع الإستباحة، على أنه مؤامرة طائفية الغاية منها القضاء على حكم الشيعة في البلد، فجرى تغييب السياسة تحت غبار التطييف، الأمر الذي فضح دور الحكومة في إدارة الأزمة والتقصير الكبير للقوى الشيعية المهيمنة في ممارسة الحرب بقفازات.
مع تغوّل القوى الحكومية ومعها الأحزاب الشيعية المساندة والمهزومة أمام “داعش” في تلك الآونة، نجحت “الدولة”… مرّة أخرى أيضاً، في تصوير كل توجه ضدّها، ولو بانتقادها على تقصيرها المُشين أمام الإرهاب الداعشي، على أنه مؤامرة على الشيعة كطائفة، وسط أجواء شحن مذهبية برعت في اختلاقها وإذكائها بتدبير ورعاية أميركية، ما أدى إلى تحصين الحكومة بالطائفية وتثبيت سلطانها على ما تبقى من البلاد خارج قبضة “داعش”. وبهذا اضطر الشيعة المعارضون للحكومة، ورأس حربتهم جماعة مقتدى الصدر، إلى الإنكفاء وابتلاع معارضتهم والكف عن محاولاتهم لتغيير الأوضاع من الداخل بانتظار فرصة جديدة. وبالتالي فالصراع المتواصل اليوم بين “التيار” (الصدري) و”الإطار” ما هو إلا امتداد لذلك الصراع القديم الشيعي ــ السنّي، والذي هو البديل الذي ابتكرته الحكومة لانتزاع عناصر التفجير من الوسط الشيعي ورميها في الشارع.
نافذة الأمل الباقية تتمثّل بما يغالي بارتكابه الجانب اللبناني المعادي للحلف بين كلٌ من رأسي “ورقة مار مخايل”. فإما أن تدفعهما ارتكابات الخصم الداخلي إلى “الصلاة على النبي”، وأخذ نَفَسٍ عميق، والانطلاق مجدداً، ليس من العناد والتجبّر، بل من الوقائع بشجاعة، لإعادة ترميم الزجاج الذي حطّماه بأيديهما، وإما الدخول في متاهة سبق أن خبِرها البلد وناسه الضحايا
في الماضي وخلال المواجهة الدموية الطائفية في العراق، جاءت الغلبة للأقوى، أي للطرف الشيعي الذي نجح في تشكيل الحكومة. واليوم ما تزال عصا القوة الغالبة في يده، من جيش وحشد وأمن ومدد وخلافها.. إلا أن القوة الشيعية الأخرى المناهضة من داخل الطائفة، لم تعد ضعيفة بعد أن عززت عناصر قوتها سلاحاً ورجالاً وتعبئة. وأيّ مبادرة تقوم بها الجهات الحاكمة للقضاء عليها أو محاولة استئصالها، على الطريقة التي استخدمتها الحكومة مع السنة من قبل، لن تكون نتيجتها أقل من عودة الحرب الأهلية، وهذه المرة داخل البيئة الشيعية نفسها. ولعل هذا ما ألقي بالماء البارد على رأس الحكومة كما على رأس الصدريين. إلا أنه لم يكن كافياً لصنع السلام وإشاعة الاطمئنان في عراق تتراقص أطرافه الفاعلة على حافة الهاوية.
فجماعة “الإطار” أصحاب اليد العليا في الدولة اليوم، يفضلون، إن تسنّى لهم الأمر، إعادة توحيد الشيعة بديلاً عن استعادة الصراع داخل الطائفة. وهذا يمكن أن يدفعهم، كما في أمس العراق القريب، إلى إخراج فأس الحرب الشيعية السنية مرة أخرى، بحيث يعيدون توحيد الشيعة بتخويفهم من السنة، على زعم أن السنة يتحضرون للقضاء على حكم الشيعة.
هذا هو الحال الراهن للصراع الدائر بين نوري المالكي المتصدر للطرف المساند للعملية السياسية والمتمسك بها، ومقتدى الصدر الداعي إلى تغيير هذه العملية برمتها. وصراع الطرفين ليس شخصياً كما يروّج بعض جماعة “الإطار” بل يتمحوّر حول التساؤل الكبير: أي عراق نريد؟ وهذا هو السؤال ذاته الذي يُطرح في لبنان حيث الصراع الجاري فيه منذ الانتهاء المزعوم للحرب الأهلية، خلف تسميات المقاومة والأمركة والتغريب والتعريب، وكل ما يعتمل في فلك التأزم الرئاسي المحتدم حول الهوية التي يريدون فرضها على بلد نال استقلاله منذ ما يزيد على 79 سنة، وما تزال هويته تحت التشكيل.
في لبنان الواقع اليوم بين “شاقوفين”، ليست المشكلة، كما يحاولون تصويرها، بسبب تعنّت جبران باسيل. الموقف المقتضب الذي أعلن عنوانه الرئيس السابق ميشال عون إثر زيارته للبطريرك الماروني بشارة الراعي، أوضح ما لا يحتاج إلى توضيح. ولا مكان لأي حديث تسووي بين طرفيه، لأنه لا يزيد عن كونه تمنيات ينسجها الوهم من جهة والقفز من فوق الطوفان المعتمل داخل هيكل العلاقة الودية التي انقلبت إلى مواجهة مستقبلها المظلم ما يزال أمامها من جهة ثانية. هذا ما يفتح الباب واسعاً أمام اليد الأميركية التي لن تعمل لصالح البلد، ويُطلق بالتالي دماً جديداً في سواعد الأدوات الداخلية المعادية لمشروع الصيغة اللبنانية.
الواقع الواقف بيأس اليوم على شفا العرقنة، يتطلّب تضحيات جِسام لا قِبّل للحليفين (التيار الوطني الحر وحزب الله) بتقديمها، من دون تغيير عميق في أسلوب تعاطي كلٍ منهما مع مجريات الأمور. فإلى أين من كل هذا؟
الجواب منوط بما سوف يستجد.. مع الأخذ بالاعتبار أن التراشق الإعلامي بالبيانات ليس هو الحل ولا يمكن أن يكون.
نافذة الأمل الباقية تتمثّل بما يغالي بارتكابه الجانب اللبناني المعادي للحلف بين كلٌ من رأسي “ورقة مار مخايل”. فإما أن تدفعهما ارتكابات الخصم الداخلي إلى “الصلاة على النبي”، وأخذ نَفَسٍ عميق، والانطلاق مجدداً، ليس من العناد والتجبّر، بل من الوقائع والحيثيات بشجاعة، لإعادة ترميم الزجاج الذي حطّماه بأيديهما، وإما الدخول في متاهة سبق أن خبِرها البلد وناسه الضحايا.
جرس الإنذار بات واضحاً ومسموعاً يصمّ الآذان. والملسوع من حرارة الدم ينفخ في صقيع الأزمة.