اليوم، وعلى وقْع تفشّي وباء الكورونا، نسمع الكثير من الانتقادات الشابلنيّة إيّاها، لآليات عمل هذا النظام، ولاستغلال المصانع والشركات الكبرى للعمّال؛ هؤلاء الذين نراهم بكاميرا شارلي شابلن، في مصنعٍ أميركي عملاق يكابدون الوقت، بشقّ النفس، لشدّ الصامولات وهي تعبر فوق رؤوسهم في شريطٍ متحرّك تفوق سرعته سرعة شارلي وزملائه. مشهدٌ مضحكٌ مبكي، في فيلم “أزمنة حديثة” الذي صُنِّف كأحد أهمّ الأفلام التي مرّت في التاريخ.
***
قبل نحو السنتيْن، رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ “حرباً عالمية جديدة قد تصبح نهاية الحضارة.. لكنّ الوعي (السياسي) سيمنع حدوث أزمةٍ عالمية”. بوتين، الذي كان يتكلّم خلال برنامج “الخط المباشر” السنوي الخاصّ، استحضر مقولة ألبرت آينشتاين ليردّ على سؤالٍ إشكاليٍّ كبير، يقضّ مضجع البشرية: هل ستقع حربٌ عالميةٌ ثالثة؟ “لا أعرف ما إذا كانت ستقع الحرب العالمية الثالثة، لكن ما أعرفه، يقول آينشتاين، أنّ الحرب العالمية الرابعة سيكون سلاحها الحجارة والعصي”! وفي جوابه، يُلْمح العالم الفيزيائي، الذي كشفت أبحاثه ونظرياته العديد من أسرار الكون، إلى حربٍ نووية افتراضية ستقع على نطاقٍ عالمي، مع تكهّنات (كما نفهم) بأن تدمّر هذه الحرب كوكب الأرض، وتعيد الإنسان إلى العصر الحجري حيث كان يصنع أدواته من عظام الحيوانات والحجارة.
أقلّ من مئة يومٍ، كانت كفيلة لتهاوي دولٍ كبرى، تحت وطأة وباءٍ فتّاك بطش بشعوبٍ لطالما حسدناها، نحن مواطني العالم الثالث
إذن، إنّها العودة إلى حقبة ما قبل التاريخ (بحسب آينشتاين)، في حال حدث وانتهت الحضارة الإنسانية (كما يستبطن بوتين)، بفعْل صراعٍ عالمي يتواجه فيه الأقطاب الذين يستأثرون ويؤثّرون بكلّ ما له صلة، بالسِلم والحرب والإنتاج والاختراعات والتطوّر والتأخّر والبيئة والصحّة والحياة و….الموت. لماذا هذا الكلام الآن؟
لأنّ الكارثة الكورونيّة الكونيّة دفعت البشر، كلّ البشر، إلى التأمّل والتفكير مليّاً بواقعهم وأحوالهم، وبطبيعة ونوعية حياتهم، والدَرْك الذي وصلت إليه مجتمعاتهم، والمستقبل الحتمي المنتَظَر لبلدانهم. على مدى أربعين عاماً، تولّى خطابٌ تبشيريٌ معولم، إعادة الترويج لما سُمّي بـ”النيوليبرالية” كنموذجٍ اقتصادي – سياسي لإدارة العالم؛ لقد شكّل هذا النموذج، ولا يزال، قاعدة نظامٍ شمولي ساد دولاً وأباد بشراً، عبر تحريرٍ متنامٍ للأسواق والفضاءات الاقتصادية والتبادلات التجارية والمالية والخدماتية، واختراقٍ متواتر للخصوصيّات والحدود الثقافية والقيميّة والجغرافيّة والاجتماعية للشعوب.
بات العالم، و”بفضل” هذا النظام، شوارع وأنفاقاً ومدناً ودولاً وقارات، يركض قاطنوها، بالطول والعرض، كي يُحصِّلوا أموراً، كانوا افترضوا أنّها خدماتٌ بديهية، باعتبارها حقوقاً أساسيّة للكائن البشري، وتجسيداً أوّليّاً لمتطلّبات العدالة الاجتماعية، ونعني الحقّ في الغذاء والكساء والسكن والطبابة والتعليم والنقل و…الراحة. أخطأ الناس في تقديراتهم. إذْ أيقنوا (متأخِّرين) أنّ كلّ شيء مضبوطٌ إيقاعه، بالمطلق، في لحنٍ توزِّعُ نوتاته سلطةُ “رأس المال”. هي أو لا أحد، مَن يحقّ له أن يحلّ ويربط ويأمر ويحاسب ويقتل ويدمِّر، متى وكيفما وأينما احتاج وأراد ذلك، تحت شعار رهيب: “إعمل ثمّ إعمل فلا حدود لإنتاجيّتك… وإربح ثمّ إربح فلا سقوف لربحك”.
في التاسع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2019 حلّت الكورونا في الديار، فيروساً فوباءً فجائحةً، ففعلتْ فِعْلها في النفوس “فِعْل الغيث في الأرض العطشى”، على حدِّ تعبير الجاحظ (أديب البيان والتبيين). لقد أيقظ الهلع المنطلِق من الصين، نيام الأرض في كلّ مكان، ليروا ويكتشفوا في أيّ عالمٍ كانوا يغفون، وعن ماذا كانوا يغفلون!
***
أقلّ من مئة يومٍ، كانت كفيلة لتهاوي دولٍ كبرى، تحت وطأة وباءٍ فتّاك بطش بشعوبٍ لطالما حسدناها، نحن مواطني العالم الثالث، على رغد حياتها المتحضّرة والمريحة والآمنة، فإذا بنا نراها، وكما لم نعهدها يوماً، تعيش أسوأ ساعاتٍ في تاريخها:
ها هي أميركا الجبّارة، التي لا تكفي أشعّة الشمس لتغطّي أراضيها، يموت أبناؤها في بيوتهم، بعدما عجزوا عن إيجاد أَسِرّة للعناية بهم في المستشفيات؛ وها هي بريطانيا العظمى، التي غادرت الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي (بعد نصف قرن على عضويتها فيه) مهجوسةً بتحرير تجارتها، يتضارب مواطنوها و”على عينك يا تاجر”، وهم يتناتشون ما تبقّى من أكياس الرزّ والطحين والݒاستا في المخازن التجارية الفخمة؛ أمّا فرنسا الأنيقة، التي انشغلت لسنواتٍ بغزو واجهات العالم بأزيائها وطيب عطورها، تعجز مصانعها اليوم عن إنتاج كمّامات تكفي أنوف مواطنيها، وسوائل تنظِّف وتعقِّم ما مَلكَت أيديهم؛ وها هي ألمانيا الماردة، التي خرجت من القمقم دولةً بأهمّ اقتصادٍ وطني في أوروبا، تُدخِلها الكورونا في أكبر تحدٍّ منذ الحرب العالمية الثانية؛ وإسبانيا الملوكيّة، أحد أضخم اقتصاديات أوروبا الغربية ورابع أكبر دولة في القارة القديمة، تعيش أحلك أيامها وأكثرها دراماتيكيةً بعدما راكمت الأخطاء تلو الأخطاء، في التصدّي للوباء واحتوائه؛ أمّا إيطاليا الجميلة، التي تدفع راتب مليون يورو للاعب كرة قدم وآخر بألفٍ وثلاثمئة يورو، فقط، لباحثٍ في البيولوجيا والكيمياء، تفيض مقابرها بالجثث فلم يجد الجيش بُدّاً من نقل التوابيت إلى خارج أقاليمها المنكوبة بالوباء لحرقها.
ما بعد الكورونا، ستكون مجتمعات المعمورة أمام مصير حتمي لتغييرٍ في الأدوار والوظائف، بين ما شاخ منها وترهّل وفَقَد صلاحيته وفشل (بالمختصر)، وبين الآتي والمنتَظَر من أدوارٍ ووظائف
***
أمّا بعد، فلقد فضحت جائحة الكورونا حضارةً بأكملها، كانت حتى الأمس القريب تتبدّى مثالاً فريداً للعيش الكريم؛ إذْ ثَبُت، وبالدليل القاطع، زيْف المنظومات الحاكمة وعجْز السلطات القائمة في الغرب، عن ردع عدوّ غاصب لا يُرى بالعين المجرّدة، وتبيّن، بالشواهد الحسّية، أنّ حجم قوة هذه الحضارة أوهن بكثير من حجم هذا الكائن المجهري. وتأكّد، ما كان يدلّل إليه كثيرون، أنّ كلّ تلك الأبنية الشامخة وناطحات السحاب والمؤسسات العملاقة والشركات المتعدّدة الجنسيات والجيوش الجرّارة (التي تعبر المحيطات لتعبيد مسالك الدول “الضعيفة” أمام هذه الشركات) والإمبراطوريات المالية والتكنولوجيات المذهلة وشبكات المعلوماتية الفذّة… إنّما هي مجرّد هياكل شُيّدَت بالملح. أذابت حمّى الكورونا هذه الهياكل بلمحة بصر؛ ولم يتبقَّ شيءٌ وراء الجدران العازلة، إلاّ هذه العيون المتلصلصة عبر فُتحاتٍ صغيرة، على ما تنجزه العلوم الطبية والتقنيات المتطوّرة في بضعة مختبراتٍ مشهودٍ لها، والأنظار المتضرِّعة للربّ كي تخرج التجارب بالترياق، وتكتشف العلاج واللقاح.
***
وبعد… أَمَا آن الأوان لهذا النظام المتوحّش أن يترجّل عن أنفاسنا؟ بلى. وبدأ الكلام يكبر عن الحاجة الملحّة لزواله. فبعدما وضعت الجائحة حياتنا في مهبّ الريح، عاد “خطاب النهايات” (أو بالأحرى “أسطورة النهايات”) إلى الواجهة، واضعاً معادلة “ما قبل وما بعد” الشهيرة، في التداول: ما قبل الكورونا ليس كما بعدها. توقّعاتٌ من هنا وهناك وهنالك، تعرض لتحوّلاتٍ عميقة من المرجّح أن يشهدها العالم بأسره؛ تبدأ بمراجعةٍ جذرية لأسس النظام الأحادي المهيمن، وتمرّ بإعادة تشكيل ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى، ولا تنتهي بتغييراتٍ ستطال بُنى العولمة التقليدية التي قامت على إدارة العالم بواسطة المعلومة وبسرعة الضوء.
في شهر تفشّيها الرابع، أدخلت الكورونا العالم مجدّداً في “زمن النهايات” الذي وجد فيه المفكّرون الغربيون، مع نهاية الألفيّة الثانية، جاذبيةً خاصّة وتحوّلت مقولة النهايات عندهم إلى مقولة مفضّلة تواترت في كتاباتهم ومؤلّفاتهم، على اختلاف موضوعاتها ومجالاتها. فبعد “نهاية الحرب الباردة”، و”نهاية التاريخ”، و”نهاية الجغرافيا”، و”نهاية الإيديولوجيا”، و”نهاية الثقافة”، و”نهاية الإعلام”…إلخ، طرحت أزمة الكورونا رزمةً جديدة من “النهايات”: “نهاية العولمة”، و”نهاية الأحادية”، و”نهاية الولايات المتحدة”، و”نهاية الاتحاد الأوروبي”، و”نهاية المنظّمات الدولية”، و”نهاية الرأسمالية”، و”نهاية النيوليبرالية”، و….”نهاية الكون”.
قد يقول قائل، وهو محقّ، إنّ مفهوم النهايات لا ينبغي أن يُقرَأ بهذا المنطق التبسيطي للنهاية، بوصفها أفولاً واندثاراً لنشاط الطبيعة وناسها. بل من الأفضل لنا (والمحكوم يستحقّ فرصةً ثانية)، أن نحيل هذا المفهوم “النهاوي” إلى مفهوم “القطيعة”، بين ما كان سائداً وما يجب أن يسود. أي، ما بعد الكورونا، ستكون مجتمعات المعمورة أمام مصير حتمي لتغييرٍ في الأدوار والوظائف، بين ما شاخ منها وترهّل وفَقَد صلاحيته وفشل (بالمختصر)، وبين الآتي والمنتَظَر من أدوارٍ ووظائف، من المأمول أن تحوّل النهايات المغلقة إلى نهايات مفتوحة على أفقٍ إنسانيٍّ رحب، يُعلي قيمة الإنسان، بذاته، كغايةٍ في الوجود.
كتب فريدريش هيغل، أعظم فلاسفة العصر الحديث، عن لحظةٍ ينتصر فيها شكلٌ من المجتمع والدولة يكون عقلانياً تماماً. فهل من انتصارٍ سيُكتَب للبشر بعد هزيمة الجائحة؟ وكيف سيُكتب؟
يُجمِع أكثر من رأي على استنباط الآتي: المنتصر في الحرب ضدّ الكورونا هو الذي سيكتب التاريخ، وهو الذي سيحدِّد المستقبل، بشكلٍ كبير. لكنّنا سنشهد على ولادة عالمٍ، يكون أقلّ انفتاحاً وأقلّ حرية وأكثر فقراً. أمّا خطر العزلة، فسيكون عظيماً، ولا سيّما على الدول النامية. هل نحن أمام “مئة عامٍ جديدة من العزلة”؟ إقتضى التساؤل والهلع.