غادرتُ عرض الفيلم الوثائقي “الشاطىء الآخر” للمخرج اللبناني ماهر أبي سمرا وأنا أشعر بضيق في التنفس وهبات ساخنة وتعرق شديد. عزوت ذلك إلى سوء التهوئة في صالة “غالاكسي” في بيروت.. وإلى تأثير الفيلم الذي لن تخرج منه بجرعة فرح بل يتركك أسير مشاعر غامضة ومربكة ومرتبكة ومشوشة، تماماً مثل شخص فاقد لحاسة أو عضو أو وظيفة ما من وظائفه الإدراكية.
مضى أكثر من أسبوعين على عرض فيلم “الشاطىء الآخر” بدعوة من “متروبوليس” ضمن مهرجان “شاشات الواقع”، في دورته الثامنة عشرة في بيروت. يُسجل لماهر أنه نجح، أولاً، في تركنا حيرى أمام أسئلة كثيرة معظمها بلا أجوبة وهذه وظيفة يتعمدها ماهر الذي يشتغل في الفن السينمائي ليس لأجل الفن أو السينما، إنما من موقع إلتزامه مع ذاته. ثانياً؛ ماهر إبن جيل هُزِم في عز شبابه ولكنه قرر ألا يستسلم بل أن يجعل إلتزامه الإنساني والإجتماعي مدعاة أسئلة.. وأجوبة مفتوحة.
صوتان يتحدثان بطلاقة وغصة ويُعبّران عن شريحة تتعرض منذ قيامة لبنان الكبير للعزل والتهميش. صوت المخرج ماهر أبي سمرا يدخل من وقت لآخر مؤكداً حضوره الذي يحث على البوح. ولكن القسوة المتكررة تكسرها “قفشات” محمد لطفي وعباراته اللمّاحة، قبل أن تستريح الفكرة في أحضان سيلفانا اللقيس التي ترفض أن تغادر وقارها الأبدي!
مضى أسبوعان، وكلما أُفكّر بمشاهد الفيلم العالقة في ذهني، أحاول انتزاع الشعور بالضيق الذي أصابني، إلى حد يجعلني أسال في سري هل أن ماهر أحبطني بفيلمه الجديد وهل أن فيلمه لم يكن بمستوى توقعاتي لأكتشف أنه لهذا السبب بالذات كنا أمام فيلم نجح نجاحاً كبيراً في نقل مشاعر سيلفانا اللقيس ومحمد لطفي إلى عقول وقلوب ووجدان معظم الحاضرين. مشاعر جعلتني أسيرة فكرة العزل والكفر بالمؤسسات الرعائية التي تريد أن تكون قضية ذوي الحاجات الخاصة، مجرد قضية رعائية. أليس التحريض أحد وظائف الأفلام الوثائقية، لا سيما إذا كانت تقارب هكذا قضايا حساسة في مجتمعاتنا؟
لا يشذ المخرج اليساري المنبت عن إختياره موضوعات إنسانية موغلة في عمق إجتماعي وإقتصادي وبيئي وحقوقي. يؤكد ماهر أبي سمرا، فيلماً بعد الآخر، حضوره القوي في الفضاء السينمائي اللبناني والعربي. ولمن لا يعرف، فإن أبي سمرا (مواليد 1965، شبعا) درس مادة التمثيل في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، قبل أن يُطوّر دراساته وأبحاثه ومهاراته في المعهد الوطني للصورة والصوت في باريس. علاقته بالكاميرا بدأت في زمن الحرب الأهلية، حيث عمل في مؤسسات صحفية لبنانية ووكالات أجنبية عديدة، وكانت صوره بالأسود والأبيض تحاكي الواقع الذي عاشه اللبنانيون، لا سيما في العاصمة، وهو واقع كان يزداد سواداً يوماً بعد يوم إلى أن إنتهت الحرب في العام 1990، وإنتهت معها “الصورة” التي أدمن عليها ماهر.
لم يجد ماهر أبي سمرا الفسحة التي يبحث عنها في لبنان السلم الأهلي. إنجذب إلى باريس في بداية رحلة أخذته إلى عوالم مختلفة، لكنه لم يغادر الميدان اللبناني الأحب إلى قلبه، ومن يستعرض أفلامه بدءاً من “عوارض عودة” (1995) و”إعمار على الموج” (1996) مروراً بـ«شيوعيين كنّا» الذي فاز بـ«جائزة اللؤلؤة السوداء» لأفضل فيلم وثائقي عربي في «مهرجان أبو ظبي السينمائي» (2010)، و”نساء من حزب الله” (2000) و”دوّار شاتيلا” (2004) و”مجرد رائحة” (2007) و”مخدومين” (2016) وصولاً إلى “الشاطىء الآخر” (2023)، يجد أن معظمها عبارة عن تورطات أو ورطات، يتداخل فيها الشخصي بالعام وأسئلة الذات مع أسئلة الموضوع المطروحة في الفضاء الإنساني.
وعلى عادته، يحاول ماهر كسر “التابوهات” ولا يُعدّل كثيراً في طريقة عمله التي تضعه في معظم الأحيان في خانة الباحث والسينمائي في آن معاً، وهي التجربة التي جعلته يُحوّل فيلم “مخدومين” إلى منصة إلكترونية عرض عبرها كل الأبحاث التي رافقت الفيلم أو تلت عرضه. يسري ذلك على فيلم “الشاطىء الآخر” الذي احتاج إلى حوالي الست سنوات، بينها سنوات كورونا الصعبة.
ومن يُدقّق في علاقة المخرج ماهر أبي سمرا بسيلفانا اللقيس، يجد أنها تعود إلى منتصف الثمانينيات الماضية، أي أنهما تعارفا منذ حوالي الأربعين سنة. فلماذا قرر ماهر الدخول متأخراً إلى عالم بطليه سيلفانا اللقيس ومحمد لطفي؟
يقول ماهر إنه عندما كان يتردّد على بيروت سنوياً، كان يلتقي سيلفانا اللقيس ومحمد لطفي، بحكم الصداقة من جهة ومحاولة تقديم الدعم لهما ولزملائهما في الإتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً من جهة أخرى. في البداية، كانت الفكرة بسيطة ولا تتعدى إنجاز فيلم وثائقي قصير، لكنها تطورت مع الوقت وصارت فيلماً وثائقياً من ستين دقيقة.
وعلى جاري عادة ماهر، مارس باتقان عادة “تعذيب” أبطاله. هذا ما حصل في معظم أفلامه ولا سيما “شيوعيين كنا”. بهذا المعنى، نجح مع مرور الوقت في استدراج سيلفانا ومحمد إلى حيث لم يستدرجهما أحد من قبل. إلى عوالمهما الشخصية. إلى أسئلتهما مع جسدهما ومع مشاعرهما. مع الأهل والجيران ورفاق المدرسة والشارع والمؤسسات الرعائية التي احتضنتهما صغاراً وشباباً. ما اعتقدته سيلفانا في أول مقاطع في الفيلم بأنه أمر تافه لا يستحق الحديث عنه صار هو الأساس. هو “الشاطىء الآخر”. علاقتها بالآخر. كيف كانت ترقص سيلفانا في أحد المخيمات الصيفية بكرسيها المتحرك. كيف تقود سيارتها وكيف تحب وتعشق وتسافر.. الأسئلة نفسها تسري على محمد الذي عاد إلى المركز الرعائي الذي إحتضنه طفلاً ليجد رفاقه أنفسهم هناك. قال له رفيقه المحامي المكفوف إنه أنجز دراساته العليا في الحقوق ولكنه قرّر أن يمارس الوظيفة نفسها التي أتقنها في المدرسة ـ المركز (التقشيش). وعندما دخل إلى مكتبة المركز، وجد محمد نفسه يضع يده أولاً على كتاب طه حسين “على الشاطىء الآخر” الذي إختاره ماهر أبي سمرا عنواناً لفيلمه، وهو المستوحى أيضاً من كلمات شاعر يوناني اختارها أغنية للفيلم بصوت الفنانة كاميليا جبران.
ولا بأس في تقديم ملخص سريع عن الفيلم الذي أنتجته المنتجة اللبنانية ديالا قشمر. ففي أول مشاهده المصورة في المتحف اللبناني، نتعرف على محمد لطفي الكفيف يجر سيلفانا اللقيس على كرسيها المتحرك في أروقة مكان غير مجهز لإستقبال ذوي الحاجات الخاصة. هي تشاهد وهو يسمع ما تعذر عليه مشاهدته. المرشدة السياحية تشرح لهما عن مفهوم الجمال عند الرومان والفينيقيين والفرق بينهما بحرفية عالية، ثم ينزلق لسانها بعبارة “مونغولي”. ولا أحد يُعلّق على الأمر. ثمة هوة سحيقة بين المعرفة والثقافة والحس الإنساني الرفيع. توظيف هذا المشهد الإستهلالي يصب في خانة أن لا شيء يعيق هؤلاء الناس عن ممارسة حياتهم الطبيعية فيما لو توفرت لهم الظروف المؤاتية في بيئتهم ومحيطهم.. وهذه هي رسالة الفيلم الرئيسية.
صوتان يتحدثان بطلاقة وغصة ويُعبّران عن شريحة تتعرض منذ قيامة لبنان الكبير للعزل والتهميش. صوت المخرج يدخل من وقت لآخر مؤكداً حضوره الذي يحث على البوح. ولكن القسوة المتكررة تكسرها “قفشات” محمد لطفي وعباراته اللمّاحة، قبل أن تستريح الفكرة في أحضان سيلفانا اللقيس التي ترفض أن تغادر وقارها الأبدي!
بهذا المعنى، يغدو الفيلم جلسة علاج نفسي، فيه بوح كثير ووجع دفين من سنوات الطفولة حتى يومنا هذا. التحّدث عن الأشياء التي تزعجك يمنحك مساحةً آمنة للتحدّث بحرّية عن مشاعرك وأفكارك وتجاربك ومخاوفك وصدماتك ومشاكلك.
كان إختيار الموضوع فكرة ذكية ورابحة سلفاً، يلعب دور البطولة فيه رجل وإمرأة غير عاديين في مجتمع غير عادي. وبرغم أن سيلفانا اللقيس هي رئيسة إتحاد المعوقين حركياً إلا أن الفيلم لم يتناول الشق المطلبي لعالم المعوقين بل ركّز على الجانب الإنساني وعلاقة هذا “المجتمع” بالآخر، وبالمقابل، نظرة الآخر إلى مجتمع المعوقين وهي نظرة إقصائية عموماً. تصوّروا ما أفدح الفكرة التي أشار إليها الفيلم عندما كان يعرض نظرة البعض إلى محمد وسيلفانا عندما كانوا أطفالاً وكان البعض من أهل رفاقهم يخشى إنتقال “حالتهم المُعدية” إلى أولادهم؟ زدْ على ذلك موروثات علاقتهم بأهلهم وصولاً إلى دور مراكز الرعاية التي تتسول على حساب كرامة هذه الفئة المجتمعية المهمشة.
ليس إنسانياً أن تعيش منبوذاً بين إخوتك وأفراد عائلتك، ولا أن تُبعَد إلى مدارس عزل كالغيتوات. تورطنا في حياة هذين الشابين حُزناً وألماً وضحكاً، ولقد أسهبت سيلفانا في تعداد خيباتها منذ الطفولة وصولاً إلى الحب الأخير وأسئلته الساذجة، ولكننا مثلك يا سيلفانا حياتنا سلسلة من الخيبات.
لقد أثقلت قلوبنا يا ماهر وأفرجت عما كنا نجهله أو نتجاهله.. أخذتنا مع الكاميرا إلى الكورنيش البيروتي الذي يحضر في معظم أفلامك، حتى أنك نقلت العدوى إلى رفيقة حياتك مايا عبد الملك في فيلم “قلب ضائع وأحلام أخرى لبيروت”، فكان اللقاء جميلاً بين شخصيات فيلميكما في الكورنيش البحري الجميل. لقاء الموج والأسئلة القلقة وهل يأتي الإبداع إلا نتاج قلق هؤلاء المبدعين والمبدعات؟
أختم بسؤال طرحته علينا الدكتورة وفاء أبو شقرا في جلسة النقاش التي تلت عرض الفيلم وأدارها الأستاذ بول الأشقر، عندما سألت عن سر هدوء المعوقين برغم الصخب الكبير الذي أحدثه الفيلم في نفوسنا؟
كان الجواب: ثمة صخب يومي كبير بعكس ما يوحي به هدوء هؤلاء. بهذا المعنى، نجح الفيلم في التركيز على القضية. كان صادماً بواقعيته، بشخصياته، بالكادرات المنتقاة ولو أنني لم أفهم “سر” هذه النقلة من بيروت إلى باريس أبداً.
هناك دائماً في الحياة ما هو أصعب من وضعنا، لذلك علينا أن نبتسم دائماً.. ولننتظر من ماهر أبي سمرا فيلماً جديداً لا يحتاج إلى ست سنوات جديدة. العمر غفلة. العمر يُداهمنا يا صديقي.