ليس ثمة شيء مما قاله الراحل العظيم بدر شاكر السيّاب مما قد يشغل الخائنين حين يقرّرون الخيانة كموقف إزاء الوطن “ففي لحظة الخيانة لا ينشغل الخائنون حقاً بالتفكير. إنهم يدخلون حالة من الفصام وينفصلون عن الظروف المحيطة ونتائج فعلتهم، وهم على قناعة بأنهم يرضون رغبة ما.. وإنهم سيشعرون بالسعادة”. هكذا تكلم إيلان ديامانت الطبيب النفسي والضابط السابق في جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي لصحيفة “هآرتس”، ومن أفضل من ضابط في “الموساد” للحديث عن “الخيانة الوطنية”.
فيما عدا العرب، المنشغلون بالخيانة الزوجية، فإن العلماء اهتموا بقضية الخيانة الوطنية ودوافعها والظروف التي تصنع الخونة.. وها هي مكتبات علم النفس والجاسوسية الغربية والروسية وغيرها عامرة بأدبيات كاشفة عن الظاهرة.
***
اهتمت الأديان السماوية والمعتقدات البشرية بقضية الخيانة وجعلتها إحدى المحرمات وقد وردت مفردة الخيانة في القرآن الكريم ست عشرة مرة بألفاظ متنوعة وفي أنساق متعددة، وفي الديانة المسيحية تقع قصة خيانة الحواري يهوذا الأسخريوطي في موضع لا يمكن اغفاله في الإيمان المسيحي حيث إن تلك الخيانة والتي يختلط فيها المال بالتجسس والخيبة والندم اللاحق هي التي أفضت بالمسيح، عليه السلام، إلى خاتمة حياته على الأرض.
الخيانة ليست لعبة والخونة قتلة قساة ينبغي حماية المجتمعات الآمنة منهم، ومن ضررهم، والمطلوب مساعدتهم هم أنفسهم كي يتحولوا إلى أشخاص نافعين لمجتمعاتهم
الخيانة ليست لعبة والخونة قتلة قساة ينبغي حماية المجتمعات الآمنة منهم، ومن ضررهم، والمطلوب مساعدتهم هم أنفسهم كي يتحولوا إلى أشخاص نافعين لمجتمعاتهم. كم من الأفراد والجماعات راحوا ضحية لخيانات؟ ربما كانت أكثر عمليات الموت والدمار التي عاشها الجنس البشري مؤسسة على درجات متفاوتة من الخيانة، وفي حالات الحرب فإن العمليات العسكرية تبنى على استطلاعات ومعلومات استخبارية تم الحصول عليها بوسائل مختلفة من خلف خطوط العدو، لكن الجامع المشترك في أغلب عمليات الاستطلاع تلك هو.. الخيانات.
كم قتلت إسرائيل من القادة العرب والعلماء المسلمين والثوار الفلسطينيين، وأعني هنا عمليات القتل المباشر، والقتل المعنوي أي استبعاد الخصم من المعركة تماماً والتخلص من وجوده، وهي حالة نراها بشكل أوسع في قصور الحكام العرب وفي غرف تحرير أخبار الفضائيات وفي مقالات الصحف؟
كيف يتم تحويل الأفراد من أبطال إلى خونة ومن لا شيء كذلك إلى خونة؟
هناك سير لخونة (عظام) إن صحّ الوصف في التاريخ الإنساني من أخوة يوسف في القرآن الكريم، وحتى الخونة الذين يحاربون إخوتهم في الجيش الوطني السوداني هذه الأيام بالسلاح وبالكلمة المسمومة وبالشعارات البرّاقة. مثلهم كثير على امتداد الوطن العربي، وهؤلاء لا يخونون أوطانهم فحسب، ولكنهم يخونون أجيالاً من البشر شاءت المصادفة العاثرة أن يعيشوا معهم في الزمان أو المكان نفسه. لقد كان مؤلفو إحدى السير المثيرة للخائن البريطاني وربما الغربي الأشهر خلال فترة الحرب الباردة، كيم فيلبي، على حق حين وصفوه بأنه رجل خان جيلاً بأكمله.
هل كان كيم فيلبي يشعر بالخيانة؟ ربما في الظاهر لا فقد نال التكريم في الإتحاد السوفييتي ووضعت صورته على طوابع البريد، وتمت تسمية الميادين الفسيحة بإسمه، لكنه على الصعيد الخاص كما حدّثتنا مجموعة من الكتابات، فإنه لم يكن رجلاً سعيداً بخيانته. ليس ثمة خائن سعيد وواجب الأسوياء والأفضل حظاً في المجتمع انقاذ الخونة من التعاسة التي يصنعونها لأنفسهم ولأوطانهم وللأجيال البشرية التي عاصرتهم بسبب من سوء الحظ.
***
ربما توجب علينا قبل تعريف الخونة أن نعيد قراءة تعريف الخيانة نفسها، فهي في العربية من جذر خون، وخون الشيء خوناً وخيانة ومخانة نقصه، وتقول العرب خان الحق والعهد ويقول القرآن خائنة الأعين وهي النظر المختلَسة، ويقال للرجل خائن وخوان وخؤون (للرجل والمرأة) وفق عدد من المعاجم.
وفي الإنجليزية يُعرّف قاموس كامبريدج مفردتي (Betrayal) و(Treachery) بشكل متقارب على إنهما تعنيان السلوك المعبر عن عدم الولاء للوطن أو لشخص آخر أودعه ثقته، وذلك بمساعدة الأعداء، أو فعل أشياء تسهم في تسبيب الضرر والأذى فيما تضيف قواميس أخرى عملية مساعدة العدو في أوقات الحرب بإعتبارها عملاً من أعمال الخيانة الوطنية.
***
ليس ثمة خائن سعيد وواجب الأسوياء والأفضل حظاً في المجتمع انقاذ الخونة من التعاسة التي يصنعونها لأنفسهم ولأوطانهم وللأجيال البشرية التي عاصرتهم بسبب من سوء الحظ
لم يعد صعباً الحصول على إجابة وافية عن سؤال بدر شاكر السيّاب التأسيسي: كيف يمكن أن يخون الخائنون، وهل يمكن أن يخون إنسان بلاده؟
في الكتب والتجربة الإنسانية والذاكرة السينمائية والتخييلية عموماً ما يملأ الكثير من الفراغات ـ الأسئلة..
يتحدث الخبراء عن أربعة عوامل تشكل الدوافع الأساسية للخيانة ويشار إليها اختصاراً باسم الفئران (MICE) وهي الأحرف الأولى من مفردات (مال، أيديولوجيا، مساومة، أنا) وكذا يمكننا أن نصنع اختصاراً بذات البريق وهو (ماما).
للخائن مواصفات خاصة في مجتمع خبراء التجسس وهو أن يكون بحاجة إلى المال لينفق على حياة مرفهة، وأن يكون صاحب أفكار عقائدية معينة لتعينه على مواجهة الذات والضمير والعالم من حوله، وأن يكون قابلاً للمساومة، وأن يكون ممتلئاً بذاته مفعماً بها ربما إلى حد الغرور.
كم من الخونة الذين نشك في خيانتهم ممن تنطبق عليهم هذه الصفات في حياة السودانيين اليوم؟ وهل السودانيون بفقرهم وميلهم للمجاملة ومديح الذات (البوبار) قابلين للخيانة بشكل سهل إذا ما تم تصنيع العامل الرابع لهم وهو الأيديولوجيا؟ ربما نحتاج على قراءات مفصلة من علماء النفس وخبراء التجسس في هذا الجانب، فقد صار الخونة المحتملون تياراً كاملاً في المجتمع السياسي بحيث لم يعد الواحد منهم مهتماً بإخفاء رغبته في الخيانة.
***
في كتابه المشحون بالمعرفة والدعاية والحزن والذكريات، والمعنون (على الجانب الخطأ: حياتي في الـ”كي جي بي”)، يرسم الجاسوس السوفييتي ستانيسلاف ليفشينكو صورة مكبرة لكيفية قيام أجهزة المخابرات بإختبار العناصر المرشحة لخيانة أوطانها عبر اختبار (ماما) الذي اشرنا إليه ويكشف عن قيامه بتجنيد العديد من اليابانيين لخيانة وطنهم لصالح الإتحاد السوفييتي قبل أن يقوم هو نفسه بخيانتهم وكشف أسمائهم للمخابرات الأمريكية بمن فيهم زعيم الحزب الاشتراكي الياباني سيشي كاتسوماتا الذي كان ملقباً بـ(جافر) ومجموعة أخرى من الصحفيين والساسة. هل أدرك السيّاب أن اليابانيين أيضاً يخونون أوطانهم؟
كتب ليفشينكو عن اختبار (ماما) وكيف أن من لم تتوفر فيه الصفات الأربع المطلوبة كان يتم تصنيع الصفات الناقصة فيه بحيث تزداد حاجته إلى المال مثلاً.
***
قبل أيام كنت في حوار مشحون بالتوتر على أحد تطبيقات التراسل السريع حيث نفى أحد الزملاء تهمة العمالة عن أفراد ينتمون إلى جماعات سياسية بعينها، وكان ردي وحجتي عليه أن العمالة ليست أمراً سهلاً، وأن الاستعداد للعمالة لا يعني أن الطرف الآخر سيوافق على تجنيد العميل وتقبل خيانته لجماعته فالمسألة أعقد من ذلك بكثير، المشتغلون بالسياسة في السودان يلاقون العشرات من المستعدين للعمالة لكنهم لا يجدون القبول من التنظيمات السياسية المعادية لهم لأنهم لم يستوفوا الشروط اللازمة للعمالة!
يتم تعميد الخائن خائناً وفق شروط معقدة للغاية وإلا فإنه يبقى خائناً متطوعاً دون أن يقبض ثمن خيانته سواء كان ذلك مالاً أو اشباعاً للذات المتضخمة أو غير ذلك، والساحة السياسية والإعلامية السودانية متخمة بالخونة المتطوعين والمستعدين للمساومة بشكل دائم ممن أطلقنا عليهم جماعة (اليوتيرن). المتحولون ليسوا بطبيعة الحال خونة لكنهم في بداية كسر حاجز الثقة.
***
لنعد إلى كيم فيلبي الخائن المثالي فيما أتيح لي من أدبيات حتى كتابة هذا المقال. تمت عملية البدء في استقطاب فيلبي للتجسس ضد بلاده (بريطانيا) لصالح الإتحاد السوفييتي وهو بعد طالب بالجامعة. كان طالباً لامعاً مأخوذاً بذاته من اسرة غير متوازنة حيث كان والده مغروراً مصاباً بداء العظمة وكان متعدد العلاقات النسائية وبالتالي بحاجة إلى المال وكان متقلباً في حياته الفكرية حتى أنه اعتنق الإسلام في إحدى تقلباته وجاء الابن صورة أكثر تفصيلاً من الأب لكن نجاحه الأكاديمي كان يؤهله أيضاً للحصول على وظيفة مرموقة لاحقاً وهو ما حدث حيث صار ضابطاً رفيعاً في جهاز المخابرات الخارجية البريطاني (إم آي 6).
إذن لا يقتصر تجنيد الخونة على اختبار (ماما) فقط، بل إن عناصر ذلك الاختبار توفر الشروط الرئيسية فقط بيد أن هناك المزيد من الشروط النفسية التي ينبغي أن تتوفر في الخائن حتى يصلح لفعل الخيانة المفيد من وجهة نظر الأعداء. في التشخيص الطبي لا يمكن الجزم بإصابة مريض بمرض ما من توفر عارض واحد او عارضين أو حتى أكثر في بعض الأمراض، وفي بعض الأحيان فإن الأمر يلزم الحصول على فحوصات أكثر تفصيلاً بحثاً عن أعراض ثانوية أو أخرى للمضي في التشخيص أم ترك ذلك الخط ومتابعة خيط آخر، وهكذا الحال في تشخيص الخائن المحتمل.
يتم تعميد الخائن خائناً وفق شروط معقدة للغاية وإلا فإنه يبقى خائناً متطوعاً دون أن يقبض ثمن خيانته سواء كان ذلك مالاً أو اشباعاً للذات المتضخمة أو غير ذلك، والساحة السياسية والإعلامية السودانية متخمة بالخونة المتطوعين والمستعدين للمساومة بشكل دائم
في إحدى أوراقه المهمة، يكتب، أومبيرتو ناخيرا، المحلل النفسي الكوبي الأشهر، وتلميذ ابنة فرويد العالمة البريطانية آنا فرويد عن العلاقة اللازمة بين ما يسميه علماء النفس “الجرح النرجسي” و”عقدة أوديب” وبين الطفل الذي سيكون خائناً.
يقول ناخيرا إن الطفل الذي يعاني من صغر دور الأب (تحديداً) في حياته لأسباب متعلقة بأخطاء الأب، أو عدم قدرته على توفير الثناء العاطفي لهذا الطفل خصوصاً في السن ما بين عامين ونصف على خمس سنوات، فإن الطفل قد ينشأ وهو بحاجة متصلة للمديح وفي نفس الوقت فهو يمكن أن يحمل مشاعر سالبة تجاه الأب (الأبوة) مما قد يدفعه لاحقاً إلى الانتقام.
بالطبع فإن السلطة نفسها يمكن أن تدخل في نطاق الأبوة حيث أن الخائن غالباً ما ينظر إليها على أنها لم تكن عادلة معه (المحاباة على أساس سياسي) أو أنها لم تُقدّر مواهبه ومقدراته، أو لم تساعده على تجاوز بعض متاعبه، أو تقدم له ما يحتاج إليه ليعيش حياة الرضا على النحو الذي يعيش فيه إخوانه (مواطنيه). تبدأ الخيانة بدرجات متفاوتة كما عند الطفل الذي يعجب بأب الأطفال الجيران سراً (والمثال من الدكتور ناخيرا) ثم يتطور حتى يصل إلى الرغبة في تحطيم الأبوة ذاتها/ الوطن.
(*) في الجزء الثاني والأخير غداً: حرب الخرطوم خونة في كل الجبهات