مشاهدات أولية من رحلتي اليابانية (1)

أنهيت الأسبوع الماضى مهمة عمل استمرت لمدة شهر تقريبا فى اليابان، وهى الزيارة الأولى التى أقوم بها إلى وجهتى المفضلة عالميا منذ عام ٢٠١٩ حيث توقفت زياراتى إلى هناك بسبب انتشار وباء كورونا لمدة أربع سنوات متتالية، لكن هذه الزيارة كانت مختلفة فهى الأطول فى اليابان منذ أن تركت العيش بها عام ٢٠١١ بعد ثورة يناير وكارثة مفاعل فوكوشيما الشهيرة فى مطلع ذلك العام.

كانت الزيارة إلى طوكيو هذه المرة باعتبارى مسئولا عن إدارة برنامج ديبلوماسى أكاديمى متواضع يسعى لتعميق الفهم المتبادل بين اليابان والولايات المتحدة بالتركيز على الجوانب الأكاديمية والثقافية والسياسية. اشتملت الزيارة على تنظيمى لبرنامج دراسى لمدة أسبوعين لمجموعة من طلابى فى جامعة دنفر لدراسة السياسة والثقافة فى اليابان، وعلى تنظيم زيارة أخرى لعميد كلية الدراسات الدولية بالجامعة لتوقيع عدد من اتفاقيات التبادل الطلابى والأكاديمى مع بعض الجامعات اليابانية، وأخيرا على زيارة عدد من الوزارات اليابانية للتعرف على أحدث سياسات اليابان فى مجالات التجارة الدولية والاقتصاد والسياسة الخارجية والدفاع والأمن القومى، بالإضافة إلى مناقشة عدد من القضايا الدولية ولا سيما قضية التنمية والمساعدات الخارجية!

وبرغم حرارة الجو فى طوكيو والرطوبة المرتفعة، إلا أن الزيارة كانت بمثابة تجديد لرؤيتى ومعرفتى باليابان خلال السنوات الأخيرة والتعرف عن قرب على أهم المعوقات والأزمات الداخلية والخارجية سواء فى اليابان أو فى الصين وكوريا الجنوبية اللتين كانتا على جدول أعمال الزيارة أيضا، وبرغم أننى لم أقابل مسئولين رسميين من كلتا الدولتين، إلا أن لقائى بعدد من الأكاديميين الصينيين والكوريين المقيمين فى اليابان أو الزائرين لها قد ساعدنى على فهم أعمق للكثير من السياسات والتوترات فى منطقة شرق آسيا والمحيط الهادى.

في سلسلة من المقالات المتصلة أو المنفصلة سأحاول أن أشارك القارئة/ القارئ ببعض المشاهدات والتأملات والتحليلات حول حاضر ومستقبل العلاقات الدولية من خلال التركيز على العديد من الجوانب المجتمعية والسياسية والأمنية لإقليم شرق آسيا والمحيط الهادى، وربطه بأحداث السياسة الدولية المعاصرة فى محاولة لوضع تصور لشكل السياسة الدولية خلال السنوات القليلة القادمة! لكن ليسمح لى القراء أولا بمشاركة بعض المشاعر والمشاهدات الشخصية بخصوص هذه الزيارة من الناحية اللوجستية والسياحية قبل البدء فى رصد المشاهدات السياسية والأمنية والثقافية وتحليلها بدءا من الأسبوع القادم!

***

ملاحظتى الأولى، تتعلق بعالم المطارات والطائرات الذى تغير بشدة فى السنوات الماضية بسبب أزمات الطاقة المستمرة التى قضت على جانب كبير من متعة السفر وهى متعة يعرف قيمتها من يهوى السفر والترحال! كانت واحدة من أهم هوياتى الشخصية حتى وقت قريب هى التجول فى المطارات والحرص على الوصول مبكرا للاستمتاع بحركة السفر والأشخاص المسافرين، فضلا عن الاستمتاع بركوب الطائرات مهما كانت مدة الطيران أو درجة السفر والتى هى فى معظم الأحوال الدرجة الاقتصادية!

لاحظت أيضا سواء فى الولايات المتحدة أو فى اليابان أن الأشخاص المسافرين الذين يتحدثون اللغة الروسية أو ما يشبهها، يتعرضون لبعض النظرات الفاحصة المتمحصة من بعض المسافرين الآخرين! لا أستطيع أن أقول إنها نظرات عنصرية، لكنها بكل تأكيد نظرات تحمل الكثير من الشك، أو الدهشة، أو الاستبعاد، أو الوصم، أو حتى مجرد التصنيف

خلال السفرة الأخيرة لم أعد أشعر بنفس المتعة فى السفر! قد يكون أحد الأسباب قطعا التقدم فى العمر فحينما تسافر فى العشرينيات من عمرك يكون لديك بعض الطاقة لتحمل السفر الطويل أو الانتظار الطويل أو ضيق المقاعد، بينما لا يكون لدى جسمك نفس الدرجة من المرونة لتحمل الأمر نفسه فى الأربعينيات! لكن بالإضافة إلى عامل العمر فإن أحد أسباب قلة متعة السفر أصبح التدهور الكبير الذى أصاب عالم السفر بالطائرات وخصوصا للأشخاص المسافرين فى الدرجات الاقتصادية! فبالإضافة إلى المشكلات التقليدية التى أصابت عالم الطيران فى السنوات القليلة الماضية مثل صغر حجم المقعد وتدهور بعض الخدمات الأخرى مثل الطعام، فالملاحظ هذا العام أيضا هو زيادة الأسعار بشكل كبير مقارنة بأربعة أعوام سابقة! فمن خبرتى، سعر تذكرة الطيران الاقتصادى من ولايات وسط غرب الولايات المتحدة إلى طوكيو ارتفع بنسبة ٢٥٪ تقريبا عن عام ٢٠١٩، بينما سعر تذكرة المقعد الاقتصادى المميز وصل إلى نسبة تزيد على ٣٠٪ تقريبا عن عام ٢٠١٩! ولا حاجة قطعا للحديث عن الزيادات المماثلة لدرجتى رجال الأعمال والدرجة الأولى، ولكنها زيادات تخطت الـ ٥٠٪ تقريبا! نلاحظ هنا أنى أقارن نفس خطوط الطيران ونفس التوقيت فى السفر وكذلك نفس الوجهات! محاولة تحسين ظروف السفر عن طريق حجز المقعد الاقتصادى المميز وهو الذى يوفر بضع سنتيمترات زائدة وكذلك بعض التحسن الطفيف فى نوع الوجبات والخدمة المقدمة على الطائرة يكلفك ما يقرب من ٤٠٪ تقريبا من سعر تذكرة الدرجة الاقتصادية وهذه الدرجة المميزة لا تقدم الكثير، فقط توفر نفس ما كانت توفره الدرجة الاقتصادية العادية قبل نحو ١٠ سنوات فقط!

لاحظت أيضا ارتفاعا كبيرا فى أسعار المقاهى والمطاعم بنسبة تراوحت بين ٢٠ و٣٠٪ عن الأسعار التى اعتدت عليها قبل بضع سنوات، مع تدهور كبير فى الخدمة أو انعدامها تماما، مثل حرص عدد كبير من المطاعم والمقاهى على تقديم الخدمات on the go أو كما نسميه بالعربية خدمة الـ«تيك أواى»، حيث لا تتوافر مقاعد للجلوس واحتساء الشراب وتناول الطعام فى عدد كبير منها، ورغم أن هكذا كانت الحال فى المطارات الأمريكية منذ سنوات إلا أن بعض مطارات اليابان وأوروبا تحول إلى هذا النمط أيضا بينما تضاعفت الأسعار فى المطاعم والمقاهى التقليدية!

إقرأ على موقع 180  لماذا تختلف هذه الحرب عن حروب غزة الأخرى؟

***

من الملاحظات التى أقلقتنى أيضا هى انعدام الخصوصية فى السفر بسبب هذا الجمهور الغفير من صغار السن الذى لا يبارح هاتفه الشخصى فى المطارات والطائرات ما بين أخذ صور «سلفى»، أو تسجيل مقاطع الفيديو القصيرة أو الطويلة! لا يمكنك أن تعرف ماذا يفعلون وهل تخترق الهواتف خصوصيتك أم لا؟! كما لا يمكنك الحديث مع كل هذا العدد لمعرفة ما إذا كانت صورتك على مقاطع فيديو هاتفهم، أنت تلاحظ فقط عندما يتحدثون إلى الكاميرات أو حينما يثبتونها على أرضية المطارات أو بعض زوايا مقاعد الطائرات ثم يبتعدون عنها ويتركونها ثم يعاودون الاقتراب بينما يتحدثون فى «ميكروفونات» مثبتة على أجسادهم وربما حتى غير ظاهرة إلا لمن يدقق النظر، لكن كم المضايقات وغياب الاحترام للخصوصية فى السفر ارتفع بشكل مقلق وظنى أنه لابد من وضع قواعد ما لتنظيم هذا الأمر، لا يجب منعه قطعا، لكن يجب تنظيمه بشكل لا يسبب إزعاجا أو انتهاكا لخصوصية باقى المسافرين والمسافرات!

كما لاحظت أيضا سواء فى الولايات المتحدة أو فى اليابان أن الأشخاص المسافرين الذين يتحدثون اللغة الروسية أو ما يشبهها، يتعرضون لبعض النظرات الفاحصة المتمحصة من بعض المسافرين الآخرين! لا أستطيع أن أقول إنها نظرات عنصرية، لكنها بكل تأكيد نظرات تحمل الكثير من الشك، أو الدهشة، أو الاستبعاد، أو الوصم، أو حتى مجرد التصنيف! لا أعلم إن كانت هذه ظاهرة عالمية كتلك التى اجتاحت بعض الدول الغربية أعقاب أحداث ١١ سبتمبر/أيلول تجاه المتحدثين باللغة العربية أو من يحملون مظهرا عربيا، أم أنها مجرد صدفة! لكن بكل تأكيد صادفت هذا أكثر من مرة فى المطارات أو التجمعات السياحية فى الولايات المتحدة واليابان وبعض المطارات الأوروبية بشكل لم أتوقعه! لكن فى مقابل هذه المضايقات التى قلّلت من متعة السفر، تظل أجواء السفر ورؤية الناس فى أزيائهم وعاداتهم وأنشطتهم أثناء السفر، وتظل لحظات الاشتياق والحب والأحضان فى صالات الوصول مصدر بهجة وإلهام!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  فيلم "أوبنهايمر".. نقاش الملف النووي