

كل ما هنالك أن هذه المخططات تقاطعت الآن مع خطط قوى العولمة في المرحلة التاريخية الراهنة، فبات كلً منها يتغذى من الآخر ويتعزز بقدراته وامكاناته. وهذا ما جعل المشرق مفتوحاً على التفكيك دون التركيب، في إطار حروب دائمة، متجاوزاً بذلك حتى محصلات حرب الثلاثين عاماً الطاحنة في أوروبا.
ثم تساءلنا: كيف؟
***
هل تذكرون هنا السير مايكل سايكس؟
بالتأكيد. هو ذلك الديبلوماسي البريطاني الأشهر الذي دمغ مائة سنة من تاريخ الشرق العربي-الإسلامي بختمه الخاص، أو بالأحرى بقلمه الخاص، الذي قسَّم به المنطقة وزيّنها باللونين الأحمر (حصة بريطانيا) والأزرق (حصة فرنسا) بُعيد الحرب العالمية الأولى.
ذكرى سايكس هذا تنبش هذه الأيام على عجل في الغرب، جنباً إلى جنب مع فتوحات العولمة، وتحاط بهالة تكاد تقترب من القدسية. فهو (كما يقول الغربيون الآن) “الديبلوماسي العبقري” الذي “بنى عالماً جديداً” في المشرق المتوسطي. وهو الشاب الذي لو لم تقضِ الأنفلونزا الإسبانية عليه سنة 1919 وهو في ريعان الشباب (39 عاماً)، لكان أصبح أشهر وأهم وزير خارجية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية. ثم أنه ذلك السياسي الذي “أدخل الرؤى العميقة والخيال الرحب” إلى علم السياسة الذي أسّسه ماكيافيلي قبله بأربعة قرون.
هذه الصحوة المفاجئة على “عبقرية” سايكس، والتي ينغمس بها بنشاط الإعلام الأنغلوساكسوني والإسرائيلي، ليست بريئة. إنها كانت على الأرجح تمهيداً لإستيلاد طبعة جديدة من السير سايكس، تكون هي العنوان الجديد للتاريخ في الشرق العربي-الإسلامي الأوسط الجديد.
***
من سايكس إلى بيترز، من هم المرشحون لهذا الموقع الخطير؟
هناك مرشح أبرز: الكولونيل الأميركي المتقاعد رالف بيترز، الذي كان نائب رئيس الأركان لشؤون الإستخبارات في البنتاغون، وأحد أهم الباحثين العسكريين في الدوريات الإستراتيجية والأمنية الأميركية.
هذا الكولونيل قفز فجأة من غياهب التقاعد إلى قلب الفعل، حين نشر في 10 تموز/يوليو العام 2006 كتابه “لا تتوقفوا أبداً عن القتال”، والذي تضمن خريطة “الشرق الأوسط الجديد”، كما فصَّلها وشكَّلها ولوَّنها هو( تماماً كما فعل سايكس).
كان يُمكن أن تبقى هذه الخريطة، ومعها الكتاب، مجرد خيال رحب لو أن مجلة القوات المسلحة الاميركية لم تنشرها، أو لو أن البنتاغون لم يقم بعرضها على اجتماع رفيع لحلف الاطلسي (الناتو) في بروكسيل. بيد أن هذين الحدثين، مضافاً إليهما الضجة الإعلامية الكبرى التي رافقتهما، أوحيتا بأن المسألة ليست البتة اجتهادات أكاديمية، وان وراء أكمة الكتاب ما وراءها.
وللتذكير، استندت دراسة بيترز إلى المحاور الآتية:
– حدود الدول الراهنة في الشرق الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الإفريقية التي رسمها أيضاً الأوروبيون لمصلحتهم الخاصة.
– الحدود الجديدة المُقترحة ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة إلى الخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيون والبهائيون والإسماعيليون والنقشبنديون، وغيرهم من الأقليات التي تلم شملهم رابطة “الدم والإيمان”.
– إعادة رسم الحدود يتطلب تقسيم وإعادة تركيب كل دول الشرق الأوسط تقريباً: من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران. وهكذا سيتم، على سبيل المثال، تقسيم إيران إلى أربع دول. وتركيا ستفقد أراض شاسعة في الأناضول. والسعودية ستصبح ثلاث أو أربع دول، وسوريا سيتم تقاسمها بين دول مذهبية عراقية جديدة وبين “لبنان الكبير” الذي سيضم كل “ساحل فينيقيا” القديم. كما ستمنح معظم الأقليات الدينية والعرقية إما الاستقلال أو الحكم الذاتي.
أخطر ما قالته دراسة وخريطة بيترز يكمن في ما لم تقله: حصة “إسرائيل” الجغرافية في الخريطة الجديدة. وهي حصة واجبة الوجود، لأن الشرق الأوسط الجديد الذي يفترض أن يرث شرق أوسط بريطانيا وفرنسا في حال نجاحه، سيكون في الدرجة الأولى أميركياً-إسرائيلياً مع تلاوين أطلسية وأوروبية، ومع الحرص على طرد روسيا والصين منه.
المجزرة الجغرافية
بيد أن الوثائق الصهيونية المُبكّرة منذ مؤتمر السلام بُعيد الحرب العالمية الأولى، سبق أن أوضحت أن حدود “إسرائيل” الطبيعية تشمل إلى كل فلسطين، وجنوب لبنان ومعه بالطبع نهر الليطاني وروافد نهر الاردن، وسيناء في مصر، وأجزاء واسعة من سوريا والأردن والعراق. وأي تغيير في الخرائط لا يشمل حدود “إسرائيل الكبرى” هذه، لا تقبل به الصهيونية لن يرى النور، بسبب نفوذها الكبير في النظام المالي العالمي الراهن.
حين نشرت مجلة البحرية الأمريكية هذه الخريطة، سارعت وزارة الخارجية الامريكية إلى التنصّل منها. لكن مراقبة نشاطات السياسات الأميركية في السنوات الأخيرة تشير إلى أن واشنطن ربما ترقص بالفعل على إيقاع موسيقى خرائط بيترز. إذ أنها كانت وراء تدمير الدول الموحّدة العراقية والليبية والسورية واليمنية. وهي التي تحاول الآن بشتى الوسائل النفخ في إوار الصراعات المذهبية الإسلامية في المنطقة (تحت شعار ممارسة التوازن بين السنّة والشيعة أو تبادل الانحياز بين الطرفين). كما أنها الراعي الأول للجماعات الأصولية القبطية المتطرفة في الغرب التي تتبنى شعار “الأمة القبطية” في مصر. هذا ناهيك عن أنها كانت القوة الدولية الرئيس الدافعة باتجاه تقسيم السودان.
رالف بيترز، إذاً، ليس صوتاً صادحاً في البرّية. إنه مارك سايكس الجديد ولكن بجموح أكبر بما لا يقاس. لكنه جموح له مرتكزات إيديولوجية وجيو- استراتيجية قوية.
فـ”المجزرة الجغرافية” الكبرى، إذا ما جاز التعبير، لها بالنسبة إلى الكولونيل بيترز مبرر “اخلاقي “. يقول في كتابه: “الحدود الدولية لا تستطيع أبداً أن تكون عادلة. بيد أن درجة الظلم التي تُنزلها بأولئك الذين يفصلون أو يضمون إلى حدود جديدة، تخلق فرقاً كبيراً هو نفسه الفرق بين الحرية والقمع؛ بين التسامح والفظائع؛ بين حكم القانون والإرهاب، أو حتى بين السلام والحرب”.
السير سايكس أيضاً أضفى مسحة إنسانية على مجرزته الجغرافية، حين قال أن تفتيته للمنطقة العربية هدفه “إدخال هؤلاء الفقراء العرب المتأخرين إلى الحداثة والعالم الحديث”. (توم برّاك يفضّل تعبير “الحيوانات” و”الفوضويين”، وكذلك قادة الصهيونية الجدد).
حصيلة خريطة سايكس كانت مائة عام من الحروب والنزاعات والجروح التي لمّا تندمل بعد، لأنها (الخريطة) كانت منقطعة الصلة كلياً بالواقع. ومع ذلك، يعاد الاعتبار في الغرب الآن إلى سايكس بوصفه “بطل الرؤى الإبداعية”.
المحصلة نفسها ستحدث في الغالب مع خريطة رالف بيترز: ثلاثون عاماً من الحروب والنزاعات والجروح التي لن تندمل، لكن هذه المرة على نطاق جغرافي أوسع بكثير يمتد من سواحل قزوين إلى شواطئ سوريا، مبتلعاً في طريقه كل مناطق المشرق، وآسيا الوسطى، وتركيا وإيران، وآسيا الجنوبية وأفغانستان. إنها “لعبة الشطرنج الكبرى” الجديدة التي تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي، والتي ستجد في “رؤى” بيترز أولى تطبيقاتها العملية.
بيد أن مشاريع الدويلات المذهبية والطائفية التي بدأت رويداً رويدا تشق طريقها نحو التنفيذ، لن تنجح حيث فشل ما هو أكثر تجذراً منها في التاريخ والاجتماع الإسلاميين. فلا هي ستكون قادرة، مهما فعلت، على تجنُّب الحروب الدائمة بين بعضها البعض، ولا على إقامة طبعتها الخاصة من الدولة-الأمة، ولا على توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني والاستراتيجي.
وحتى لو نجحت هذه الدويلات في البقاء، في ظل إعادة انتاج صيغ الحماية الدولية والإسرائيلية على الأرجح، ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى البحث عن صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة لها، سواء في شكل نظام إقليمي مشرقي جديد، أو حتى في شكل تكتلات إقليمية.
في مرحلة ما أيضاً، حين ستوغل الهويات الطائفية والمذهبية في المشرق في تغوّلها وتوحشها وحروبها وفي اسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة بفعل استتباعها لإرادة وأوامر السيِّد الدولي-الاسرائيلي الجديد، ستبرز من جديد، وبقوة، الحاجة الماسة إلى أنموذج فكري-استراتيجي جديد، يستند إلى القيم الروحانية في الأديان المشرقية وإلى التعاون والتضامن الإقليمي المشرقي، بوصفه المنقذ الوحيد من جهنم حروب الدمار الشامل، وبكونه الجامع المشترك الأول بين مكونات مجتمعات المشرق، والقوة الوحيدة القادرة على مجابهة مشروع “إسرائيل الكبرى”؟
فحين تتكشف أمام أفراد “الهويات القاتلة” ما قبل الوطنية والقومية أي أتون جهنمي دخلوا فيه؛ وحين يشعرون بالتعب من الحروب العبثية والقتل والدمار الشامل، وحين يبدأون بتلمّس الأثمان الباهظة للغاية للصفقة الفاوستية مع القوى الخارجية (بمن فيها “إسرائيل)؛ وحين تتقطع بهم سبل الأمن والعيش، سيجدون أن المنقذ الوحيد من الضلال هو هذا الانموذج الفكري-الاستراتيجي الجديد في الشرق.
هذه اللحظة ستأتي أيضاً حين تصل الأطراف الإقليمية إلى حالة الانهاك، أو حين تصل ألسنة اللهب التقسيمية الطائفية والإثنية إلى عقر دارها (وهي ستصل حتما)، فتتوقّف عن استخدام الورقة المذهبية في المنطقة كعنصر في سياستها الخارجية، سواء الثورية أو المحافظة، وتبدأ البحث عن القواسم المشتركة لأمن مشترك، واقتصاد مشترك، ونظام إقليمي مشترك في الإقليم، ونزعة روحانية-تقافية مشتركة.
ثم أن هذه اللحظة ستأتي بفعل التغيرات الكبرى المرتقبة في النظام الدولي.
إذ يبدو واضحاً الآن أن العولمة، وبرغم كونها ذات طبعة نيوليبرالية أميركية، لا تهتم حتى بوجود “القومية الأميركية” على عرش هذه الامبراطورية، ولا يهمها لون قطة النظام العالمي طالما أنها تصيد فئران الأرباح والأسواق المفتوحة أمام شركاتها العملاقة.
الدول الكبرى الأخرى، التي تعرف ذلك، والتي بدأت تشم روائح الانحدار الأميركي حتى في ذروة صعود العولمة الجديدة وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، بدأت بالفعل تعيد النظر بأجنداتها وتخطيطاتها في السياسة الخارجية. لا بل بدأ بعضها ينتقل في هذا المجال من التخطيط إلى التنفيذ:
– اليابانيون، على سبيل المثال، بدأوا يفكرون بإقامة روابط أوثق مع أوروبا وربما مع الصين.
– الهند واليابان تدرسان بلورة تعاون استراتيجي عسكري بينهما.
– روسيا تحرّكت لإعادة الهيمنة على مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وربما أيضاً على بعض دول أوروبا الوسطى والشرق الأوسط.
– الصين، وبرغم أنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم في العام 2030 (في حال استمرت وتائر نموها الراهن)، فهي لا تزال حتى الآن تمارس سياسة “الصبر التاريخي”، بانتظار أن تسقط ثمرة الزعامة الأميركية في حضنها.
ما سيتحكَّم بكل هذه التطورات، برأي بريجنسكي، ليس “التناغم الدولي” الذي تطرحه الصين الآن كإيديولوجيا لسياستها الخارجية (إنطلاقاً من الفلسفات الطاوية والبوذية والكونفوشيوسية)، بل الصراعات العنيفة بين كل هذه الدول الصاعدة، على الموارد الطبيعية (النفط والماء أساساً)، والهيمنة الإقليمية، والدور العالمي (وإن في الإطار العام للعولمة).
هذه اللوحة الدولية الجديدة قد تقلّص إلى حد كبير من قوة القبضة الأميركية-الإسرائيلية الخانقة، والمتواصلة منذ حرب 1967، على المشرق المتوسطي (وبخاصة على مصر وإيران وتركيا والسعودية)، وستوفّر ذلك النوع من الفرصة الدولية التي وضعها د. جلال أمين كشرط لأي فرصة نهضوية جديدة للحضارة المشرقية-الإسلامية المسيحية.
***
هل اتضحت الصورة الآن؟
يفترض ذلك. فالجغرافيا الجيو-سياسية الغربية (والآن الصهيونية) قد تحاول إعادة رسم الخرائط و”حدود الدم” في إقليمنا، لكن التاريخ الحضاري لإقليمنا المشرقي المتوسطي ومعه تجارب ستة آلاف سنة من الوحدة الجيو-ثقافية والجيو-استراتيجية المتصلة سيكون لها بالمرصاد.
وحين نضع هذه الحقيقة الحضارية-التاريخية جنباً إلى جنب مع واقع المتغيرات الدولية الساحقة والعميقة، سنكون على ثقة بأن مصير خطط رالف بيترز وبنيامين نتنياهو لن تكون أفضل حظاً من خرائط مايكل سايكس. على العكس: ستؤدي هذه التوجهات التدميرية القديمة-الحديثة حتماً إلى استفاقة الفينيق المشرقي من غفوته وإلى نهوضه من كبوته. ولا ننسى هنا على أي حال خلاصة فرنان برودل المجلجلة: التاريخ ليس تلك الأحداث الآنية والحروب والصراعات، بل “التحولات الكبرى والآماد الطويلة”.
ومشرقنا، كما الشرق الآسيوي الحضاري، اشتهر على مدار الزمن بانتصاراته المتواصلة حين يتعلق الأمر بالتحولات الكبرى.
وهو حتماً سينتصر الآن.
(*) راجع الجزء الأول للكاتب سعد محيو: فرضية سقوط مقولة “الشعب الواحد”.. عولمة وصهيونية وحرب الـ30 سنة (1)
(**) راجع مقالة الكاتب مالك أبو حمدان: هل سقطت مقولة.. “نحن شعب واحد”؟