مع ظهور المجتمع البرجوازي، نتاج النظام الرأسمالي في أوروبا، وظهور الدّول القوميَّة الأوروبيَّة المتصارعة فيما بينها، ظهرت بوادر النظام الاستعماري العالمي. هناك رابطٌ قويٌّ بين النظام الرأسمالي والاستعمار. فاقم النظام الرأسمالي اللامساواة في المجتمع البرجوازي، وعمل على توتير علاقاته الداخلية. يقول هيغل في كتابه، “أصول فلسفة الحق”، إن المجتمع البرجوازي يبدو غير قادرٍ على حلّ مشاكل التفاوت الاجتماعي وعدم الاستقرار الذي تعزّزه اتجاهات التراكم الفائض للثروات في جهة، والعوز في الجهة المقابلة، عبر الآليات الداخلية (الدولة). وبالتالي، يندفع المجتمع البرجوازي الناضج للبحث عن حلولٍ في الخارج عبر التجارة الخارجيَّة “والسيطرة الاستعمارية أو الإمبرياليَّة”. ويقول أريجي (Arrighi): “مثل علاقة الحرب بالدبلوماسية، فإن تدخُّل رأس المال التوظيفي المدعوم بقوَّة الدولة (الاستعماريَّة) تقود عادةً إلى تراكم رؤوس الأموال بطرقٍ أُخرى (غير فائض القيمة في الإنتاج الرأسمالي الصناعي الخاص). ويشكّل الحلف غير المقدَّس بين قوَّة الدولة ورؤوس الأموال الباحثة عن ضحايا القوَّة المميتة للرأسماليَّة الكاسرة (Vulture Capitalism)، والتي تقوم بإدارة أكل لحوم البشر”.
ربما كانت “شركة الهند الشرقيَّة” تُمثّل هذا الدور الاستعماري في سياساتها في الهند ثم في الصين، حين زرعت الأفيون في الهند وفرضته على الصين عبر حروب الأفيون التي شنّتها على الأخيرة، بالشراكة مع دولٍ غربيةٍ أخرى. ويُقدّر المؤرّخون أن ما نهبته بريطانيا بالقوّة من الهند يزيد على كل التوظيفات الاستثماريَّة للثروة الصناعيَّة فيها.
توسع الفروقات الإجتماعية
قبل القرن التاسع عشر، كانت مستويات المعيشة بين الجماهير في معظم أنحاء العالم متقاربة؛ وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن الفروقات الكبيرة بين الأمم في مستويات حياة الجماهير معروفة: “حتى الهوَّة القصوى، مثل تلك التي بين الصين والمملكة المتَّحدة، كانت فقط ثلاثة أضعاف. يُقارَن هذا الفارق بذاك الذي وصل إلى عشرة أضعاف في بداية عام 1950،” بحسب إريك بوسنر وغلون وايل.
قبل القرن الثامن عشر، كانت الديموغرافيا تُحدّد ثروات الشعوب، وكان نصيب آسيا من الناتج العالمي يبلغ 60%، مقارنةً مع ناتج أوروبا الذي بلغ 20%. وبفضل الثورة الصناعيَّة التي أدّت إلى احتكار المعرفة التقنيَّة، كما بسبب النهب الاستعماري، انقلبت هذه النِسب، فأصبح لأوروبا 60% من الناتج العالمي ولآسيا 20%، برغم الفروقات الديمغرافيَّة الشاسعة بين الطرفين.
طوَّر النظام الرأسمالي الاستعماري وسائل نهب ثروات شعوب العالم، فتوسّعت الفروقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بين مراكز هذا النظام وأطرافه. عملت مراكز هذا النظام على حجب الثقافة والعلوم الحديثة عن دول الأطراف الفقيرة بشكل خاص، لمنع تطورها واللحاق بها على طريق النمو الاقتصادي، وابتكر في هذا المجال وسائل جديدة. في المراحل الأولى من الاستعمار الأوروبي، كانت القدرات العسكريَّة الأوروبيَّة المتطوّرة هي وسيلة السيطرة على دول المستعمرات وسلب ثرواتها وفرض احتكار التجارة معها، كما شروط هذا التبادل التجاري، وتسخير قواها الشَّاملة لخدمة مصالحها الاقتصاديَّة بشكل مباشر. وتطوّر هذا النظام الرأسمالي وتطوَّرت وسائل سيطرته ونهبه لشعوب دول الأطراف، بعد أن أصبح هذا النظام الرأسمالي نظاماً عالمياً مسيطراً.
تطور أدوات الإستعمار القديم ـ الجديد
يقول جوزف ستيغلتس في كتابه، “خيبات العولمة”: “لا تُفتَح الأسواق الناشئة اليوم عبر التهديد بالقوة العسكريَّة، بل بالقوَّة الاقتصاديَّة، عبر التهديد بالمقاطعة وحجب المساعدات في أوقات الصعوبات”. هذا القول ليس صحيحاً، إذ أن مراكز النظام الرأسمالي العالمي لم تتوانَ عن استعمال القوَّة العسكريَّة في نهبها لثروات الشعوب وإخضاعها لمصالحها. للولايات المتَّحدة، التي مثَّلت وتُمثّل مركز هذا النظام منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، حوالى 800 قاعدة عسكريَّة حول العالم، وتمتلك أساطيل بحريَّة وحاملات طائراتٍ تسيطر بها على معظم معابر الطرق البحريَّة، والتي تمرّ عبرها حوالى 90% من بضائع التجارة العالميَّة. وخاضت الولايات المتَّحدة وبعض أتباعها، مثل بريطانيا، حروباً كثيرة، مباشرةً أو بالواسطة، للسيطرة على الدول والشعوب، وغيَّرت بالقوَّة العسكريَّة العديد من الأنظمة غير الموالية لها في العالم، وأجهضت تقدّم العديد من الشعوب بوسائل شتَّى، من ضمنها العدوان العسكري. أما على الصعيد العربي، فقد تعرّضت معظم الدول العربيَّة لاعتداءاتٍ عسكريَّةٍ أجهضت تقدّمها وغيَّرت أنظمتها وأخضعتها للسيطرة الاستعماريَّة الجديدة. أذكر في هذا المجال مصر والصومال والسودان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا والأردن، وقبل ذلك كلّه فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني كقلعةٍ استعماريَّةٍ في قلب المشرق العربي. وقد وصف نعوم تشومسكي الكيان الصهيوني بأنه ولايةٌ أميركية ذات امتيازاتٍ خاصَّة.
إن نمو الفروقات في مستوى المعيشة بين شعوب العالم، وفي مركز النظام الرأسمالي وأطرافه، لا يعود إلى الفروقات بين القدرات الانتاجيَّة الحقيقيَّة للسلع والخدمات الضروريَّة للشعوب فقط، بل يعود إلى النهب المنظَّم والمتنامي من طرف النظام الرأسمالي العالمي للدول الناشئة
بناء النظام الرأسمالي الجديد
تربَّعت الولايات المتَّحدة على عرش النظام الرأسمالي العالمي منذ الحرب العالميَّة الثانية، وصنعت النظام الرأسمالي الاستعماري الجديد لخدمة مصالحها وسيطرتها على دول العالم. بَنَت إبَّان الحرب قدراتٍ صناعيَّةٍ كبيرة وترسانةٍ عسكريَّةٍ هائلة وأسلحةٍ أكثر حداثة وقواعد عسكريَّةٍ وسَّعتها بعد الحرب لتمسك بخطوط التجارة، حيث تُنقَل حوالي 90% من السلع في التجارة الدَّوليّة عبر البحار. بلغ عدد القواعد العسكريَّة الأميركية بعد الحرب العالميَّة الثانية ما يقارب الـ800 قاعدة في العالم، كما أسلفنا، وسرعان ما خاضت عدَّة حروب، في آسيا خاصَّة، لاحتواء توسُّع المعسكر الاشتراكي، وخاصَّة الصين الشَّعبيَّة، وفرضت “ستاراً حديدياً”، كما سمَّاه تشرشل، حول المعسكر الاشتراكي، وعملت على بناء أحلاف عسكريَّة لحصاره. كما بَنَت الولايات المتَّحدة النظام الرأسمالي العالمي الجديد بركائزه الأساسيَّة لخدمة مصالحها وسيطرتها على العالم. تمثَّل هذا النظام على الصعيد الاقتصادي بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة على التعريفات الجمركية والتجارة (أصبحت فيما بعد منظمة التجارة العالميَّة، WTO)، والدولار كعملةٍ عالميَّةٍ مرتبطةٍ بسعرٍ ثابتٍ بالذهب؛ وذلك إلى جانب الأمم المتَّحدة وأجهزتها، وخاصَّة مجلس الأمن الدولي، على الصعيد السياسي. وللولايات المتَّحدة وحدها حق النقض في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وعبر المؤسستين الأخيرتين، وعبر الدولار، أمسكت الولايات المتحدة بالسوق الماليَّة العالميَّة، وبَنَت مؤسساتٍ لهذه السوق تخضع لإرادتها، ولو لم تكن تابعة لها بشكلٍ مباشر.
تمكَّنت الولايات المتَّحدة عبر هذه الآليَّات من التَّحكم باقتصادات أكثريَّة دول العالم، خاصَّة دول المستعمرات الأوروبيّة السَّابقة، وعملت على منع تنميتها لإدامة استغلالها والتَّحكُّم بثرواتها. لم تسمح الولايات المتَّحدة، عبر سياسات الأحلاف العسكريَّة والحروب العدوانيَّة المباشرة أو بالواسطة، وعبر الانقلابات العسكريَّة التي خطَّطت لها ونفَّذتها في دول المستعمرات الأوروبيَّة السابقة، وعبر إذكائها الصراعات الإثنيَّة والدينيَّة والقبليَّة، وعبر دفع الدول إلى فخ المديونيَّة واستنزافها وحصارها اقتصادياً، وفرض سياسات اقتصاديَّة واجتماعيَّة معادية للتنمية والتحرر، لم تسمح سوى لدولتين صنعتهما هي بعدوانيَّتها، من السير على طريق التنمية الحقيقيَّة إلى التصنيع، وهما كوريا الجنوبيَّة وتايوان، وذلك خدمةً لحصار المعسكر الاشتراكي، وخاصةً الصين.
سرقة ثروات الدول والشعوب
منذ قرون، شكَّل فخّ المديونيَّة أحد أهم الوسائل التي استخدمتها وتستخدمها مراكز النظام الرأسمالي العالمي لسرقة الدول الناشئة ونهب خيراتها وإفقارها والتحكُّم بمجمل سياساتها الداخليَّة والخارجيَّة. كانت البُنى الاحتكاريَّة التي تتحكَّم بأسعار السلع الاستراتيجيَّة الرئيسيَّة في العالم، والتَّابعة لمراكز النظام الرأسمالي العالمي، تدفع العديد من الدُّول الناشئة إلى فخّ المديونيَّة. لكن في كثيرٍ من الأحيان، تم دفع بلدانٍ إلى فخ المديونيَّة عبر الضغوطات الخارجيَّة من مركز النظام الرأسمالي ومؤسساته الماليَّة خاصَّة. يقول إقتصاديٌّ نيجيري، “في عام 1978، عندما وافقت نيجيريا على عقد قرضٍ بأوّل مليار دولارٍ من الدين، كان عندها دخلاً من النفط أكثر مما يمكنها إنفاقه بحكمة.. في البداية، لتبرير قرضٍ صغيرٍ بمليار دولارٍ ليضاف إلى مدخولها الهائل من النفط، تم تشجيعها لزيادة إنفاقها بشكل هائل، وتمَّت مساعدتنا لترتيب برنامج شراءٍ باذخ، ظننَّاه برنامج تنمية”.
في ثمانينيات القرن الماضي، دفعت الولايات المتَّحدة ومؤسساتها الماليَّة دول أميركا اللاتينيَّة إلى الإفلاس، وذلك عبر رفع أسعار النفط بشكلٍ حاد في سنة 1979 (لم تُرفَع الأسعار آنذاك من قِبَل منتجي النفط) وتقديم قروضٍ ساخنة بفوائد منخفضة للدول تلك، لتدفع ثمن مستورداتها من النفط. ثم رفعت الولايات المتحدة معدل الفوائد على الدولار وسعر صرفه بشكل حاد في الثمانينيات الماضية، مما ضاعف كلفة المديونيَّة وفاقم عجز ميزان المدفوعات الجارية لدى دول أميركا اللاتينية، بحيث عجزت عن خدمة ديونها. عندها تمنَّعت المصارف الأميركية خاصَّة عن تجديد الديون وطالبت بتسديدها. تحكَّمت مؤسسات النظام الرأسمالي المعنيَّة، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وناديَا باريس ولندن ووزارة المال الأميركية (والأخيرة صاحبة القرار الفعلي في تحديد معدَّلات الفائدة على الدولار كما يقول بول فولكر في كتابه Changing Fortunes) بالدُّيون، فنجحت في ابتزاز دول أميركا اللاتينية وإجبارها على تغيير أنظمتها الدَّاخليَّة (كأنظمة العمل وحقوق تملُّك الأجانب) وإبدال الديون السَّاخنة (القصيرة الأجل) بموجودات حقيقيَّة (كأسهم المؤسسات) بأسعار جِدّ متدنّية، فسرقت ثروات تلك الدُّول.
أوضحت الشهادات التي توالت من ممثلي البلدان المدينة في المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني، سنة 2002 في “بورتو أليغري”، كيف أنها تدفع مبلغاً يصل إلى ثلاثة عشر دولار مقابل دولار واحد تقترضه (جريدة الحياة 19 شباط/فبراير 2002). وفي سنة 2023 ندَّد الأمين العام للأُمم المتَّحدة، أنطونيو غوتيريش، بخنق دول العالم الغنيَّة وشركات الطاقة للبلدان الفقيرة بمعدلات فائدة “جشعة” وأسعار مرتفعة. وقال غوتيريش، “إن دول منظومتنا الماليَّة العالميَّة صُمّمت من قِبَل الدول الغنيَّة لتعود بالفائدة عليها إلى حدًّ كبير” (جريدة الشرق الأوسط 5 آذار/مارس 2023).
إن نمو الفروقات في مستوى المعيشة بين شعوب العالم، وفي مركز النظام الرأسمالي وأطرافه، لا يعود إلى الفروقات بين القدرات الانتاجيَّة الحقيقيَّة للسلع والخدمات الضروريَّة للشعوب فقط، بل يعود إلى النهب المنظَّم والمتنامي من طرف النظام الرأسمالي العالمي للدول الناشئة. إن نمط الحياة في أميركا وأوروبا الغربيَّة، والتي تسعى تلك الدول للمحافظة عليه، ويتباكى بعضها عليه، كان وما يزال نتيجةً لنهب الشعوب في ظل النظام الرأسمالي العالمي السائد ومؤسساته. دفع هذا النظام، حتى سنة 2023، بأكثر من 70 دولة إلى فخ المديونيَّة، والتي بلغت قيمتها 326 مليار دولار، وأوقعت 700 مليون انسان في فقرٍ مدقع. قالت المديرة التنفيذيَّة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتَّحدة، سيدني يالين، لأعضاء مجلس الأمن، “إن أزمة الجوع العالميَّة خلقت أكثر من 700 مليون شخص لا يعرفون متى يحصلون على وجبتهم التَّالية”. ووفقاً لتقدير برنامج الأغذية العالمي، فإن ما يصل إلى 783 مليون شخص في 79 دولة، أي واحد من كل عشرة أشخاص من سكَّان العالم، لا يزالون ينامون جوعى كل ليلة”. (جريدة الشرق الأوسط، 16 أيلول/سبتمبر2023).
(*) الجزء الثاني بعنوان “أميركا تواجه كابوس الدين العام.. والصين تراكم أكبر إحتياطات نقدية”، يُنشر غداً (الثلاثاء).