في عددها بعنوان “Liban:l’impossible nation” وصفت مجلة “Histoires & Civilisations”، وهي جزء من مجموعة صحافية تضم مجلة “لوموند”، لبنان بأنه “الأمة المستحيلة”، بينما اختارت “Les Cahiers Science & Vie”، وهي مجلة فرنسية مرموقة، عنوانًا يحمل بُعدًا فلسفيًا وأكاديميًا: “Le Liban ou l’utopie multiconfessionnelle”، مشيرة إلى أنه وهم ومثال نادر لأمة تجمع بين التعددية الطائفية والطموحات المجتمعية المثالية.
أزمة الكيان اللبناني
تُركز مجلة “Histoires & Civilisations” في تحليلها على الإشكاليات البنيوية التي تواجه لبنان منذ تأسيسه. تعود المجلة إلى عام 1920 مع إعلان دولة لبنان الكبير، التي نشأت على أسس طائفية ساهمت لاحقًا في زرع بذور الانقسام الداخلي. تشير المقالة إلى أن النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية أضعف المؤسسات، وكرّس الفساد، وأدى إلى أزمات متعاقبة تتجلى في الحرب الأهلية (1975-1990) وما تلاها من عدم استقرار سياسي وأمني حتى يومنا هذا.
وتتساءل المجلة: “هل يمكن لدولة تواجه تناقضات داخلية بهذا العمق أن تكون قابلة للاستمرار”؟ وتُبرز أن غياب الهوية الوطنية الجامعة وارتباط القوى السياسية بتحالفات خارجية يجعل من لبنان ساحة للصراعات الإقليمية بدلًا من أن يكون دولة ذات سيادة مستقلة.
يوتوبيا متعددة الطوائف
من جهتها، تتبنى مجلة “Les Cahiers Science & Vie” مقاربة أكثر تفاؤلًا أو ربما أكثر رومانسية، حيث تسلط الضوء على قدرة لبنان على التعايش برغم التنوع الطائفي الكبير. ترى المجلة في لبنان نموذجًا فريدًا يعكس إمكانية تحقيق “يوتوبيا” (وهم) قائمة على التعددية الثقافية والدينية.
لكنها لا تُغفل التحديات الكبيرة التي تواجه هذا الحلم الـ(وهم). تشير المقالة إلى أن النظام الطائفي الذي كان يومًا ضمانة للتعايش تحوّل إلى قيد يُعرقل بناء دولة حديثة. كما تُبرز المجلة دور القوى الخارجية في تعميق الانقسامات من خلال استغلال الطوائف المختلفة لتحقيق أجنداتها السياسية والاقتصادية.
الوجه الآخر للتاريخ اللبناني
تُجمع المجلتان على أن لبنان يُمثّل حالة استثنائية في تاريخ الأمم. فهو نموذج للنجاح في التعايش الطائفي من جهة، ولكنه مثال للفشل في بناء دولة قوية ومستقرة من جهة أخرى.
تدعو “Histoires & Civilisations” إلى إعادة النظر في صيغة الحكم اللبنانية، معتبرة أن تجاوز الطائفية هو السبيل الوحيد لإنقاذ ما تبقى من هذه الأمة. بينما ترى “Les Cahiers Science & Vie” أن التحدي الأكبر هو إعادة بناء العقد الاجتماعي بين الطوائف بشكل يُعزّز الهوية الوطنية دون إلغاء الخصوصيات الثقافية والدينية.
إن أخطر ما يمكن أن يواجهه لبنان اليوم ليس فقط أزماته الاقتصادية والسياسية، بل تراجع قدرته على الدفاع عن روايته الوطنية أمام محاولات التشكيك بمستقبله.. وما بين تصريحات الكاردينال غوجيروتي والمقالات الغربية وتحديداً الفرنسية، تتكشف ملامح حملة تهدف إلى نزع الشرعية عن لبنان كوطن قابل للحياة
بين الواقع والمثالية
ما بين وصف لبنان بـ”الأمة المستحيلة” والبحث عن “يوتوبيا متعددة الطوائف”، يبقى السؤال الأكبر: كيف يُمكن للبنان أن يخرج من أزماته المتراكمة؟ وهل بالإمكان تجاوز الصيغ الطائفية دون المساس بالتعددية الثقافية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين الهوية الوطنية الجامعة واحترام الخصوصيات الطائفية؟
لبنان، كما تصفه هاتان المجلتان، ليس مجرد بلد صغير في الشرق الأوسط، بل هو مختبر سياسي واجتماعي يمثل تحديًا مستمرًا لمفهوم الدولة الحديثة في عالم متعدد الهويات.
لم يعد مستقبل لبنان مجرد قضية داخلية تناقش على طاولات الحوار الوطنية، بل أصبح مادة دسمة لتقارير إعلامية غربية ولتصريحات دينية مثيرة للجدل. ففي سياق ما نشرته مجلتا “Histoires & Civilisations” و”Les Cahiers Science & Vie” عن لبنان، جاءت تصريحات رئيس مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان، الكاردينال كلاوديو غوجيروتي، لتضيف مزيدًا من الزيت على نار التشكيك بمستقبل هذا الوطن الصغير، الذي عانى وما زال يعاني من تحديات وجودية تُهدّد كيانه.
تصريحات غوجيروتي: رسالة أم إساءة؟
في محاضرة ألقاها بجامعة اللاتران البابوية، وصف الكاردينال غوجيروتي لبنان بأنه “وهم غير قابل للتحقيق”. تصريحات تحمل في طياتها الكثير من الخطورة، ليس فقط بسبب مضمونها الذي ينفي إمكانية وجود دولة لبنانية قابلة للاستمرار، بل لأنها تأتي من شخصية تمثل مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان، المؤسسة التي لطالما دعمت الحوار بين الأديان والتضامن بين الطوائف.
الأدهى أن الكاردينال الإيطالي، المعروف بعدم تعاطفه مع لبنان حسب بعض المراقبين، قد استند في محاضرته إلى زعمٍ بأن الكنيسة في لبنان “فاسدة”، ما يطرح تساؤلات حول دوافع هذه التصريحات وتوقيتها.. والأخطر أن هذا الخطاب يتناقض تمامًا مع مواقف البابوات المتعاقبين، الذين دأبوا على التأكيد على أهمية لبنان كنموذج للتعايش الديني والثقافي في الشرق الأوسط.
تشابه في الرؤية
تصريحات الكاردينال غوجيروتي تتقاطع بشكل واضح مع ما نشرته المجلتان الفرنسيتان، اللتان ركزتا على استحالة بقاء لبنان في ظل نظامه الطائفي. والمثير للاهتمام أن المقالات التي تناولت هذا الموضوع لم تُكتب بأيادٍ لبنانية، بل بأقلام فرنسية وأجنبية، ما يثير تساؤلات حول مدى فهم الكتّاب لتعقيدات الواقع اللبناني.
صمت لبناني مقلق
وما يُثير الدهشة أكثر من التصريحات والمقالات هو غياب أي رد رسمي أو غير رسمي من النخب اللبنانية، سواء السياسية أو الدينية أو الثقافية. لم تُصدر الكنيسة المارونية أو أي من الطوائف الأخرى بيانًا يوضح موقفها من تصريحات الكاردينال غوجيروتي. كما لم تصدر أي ردود فعل تُفنّد ما جاء في تقارير المجلتين الفرنسيتين.
هذا الصمت يُفسح المجال للمزيد من التشكيك في قدرة لبنان على الدفاع عن نفسه، ليس فقط أمام الأزمات الاقتصادية والسياسية، بل أيضًا أمام الحملات الفكرية التي تسعى إلى تقويض وجوده.
لبنان بين الفاتيكان والغرب
لا يمكن إنكار أن الفاتيكان كان دائمًا داعمًا للبنان كرمز للتعايش بين الأديان. ومنذ البابا يوحنا بولس الثاني وحتى البابا فرنسيس، كانت مواقف الكرسي الرسولي داعمة لاستقرار لبنان، معتبرة إياه “رسالة” للعالم. ولكن تصريحات الكاردينال غوجيروتي تمثل خروجًا عن هذا النهج، ما يستدعي تحركًا دبلوماسيًا لإعادة التأكيد على المواقف التاريخية للفاتيكان.
استعادة الرواية اللبنانية
إن أخطر ما يمكن أن يواجهه لبنان اليوم ليس فقط أزماته الاقتصادية والسياسية، بل تراجع قدرته على الدفاع عن روايته الوطنية أمام محاولات التشكيك بمستقبله.. وما بين تصريحات الكاردينال غوجيروتي والمقالات الغربية وتحديداً الفرنسية، تتكشف ملامح حملة تهدف إلى نزع الشرعية عن لبنان كوطن قابل للحياة.
لكن على اللبنانيين، بطوائفهم كافة، أن يتجاوزوا خلافاتهم، وأن يُواجهوا هذه الحملات بسردية موحدة تستند إلى تاريخهم العريق وقدرتهم على التكيف مع الأزمات. وحدها هذه السردية يُمكن أن تنقذ لبنان من أن يصبح “وهمًا” في أعين الآخرين.