

كانت روايات أجاثا كريستي المفضلة عندي ومعها حكايات آرثر كونان دويل وبطلها شرلوك هولمز وأحياناً نادرة كتيبات عن مغامرات المحقق آرسان لوبان وهذه الأخيرة أكثرها مترجم إلى العربية. أذكر أنني قرأت في نفس المرحلة العمرية مذكرات ونستون تشرشل عن الحرب العالمية الثانية، ربما لأني وجدتها لا تخلو من الإثارة والمغامرة إلى جانب أهميتها في توثيق تاريخ هذه الحرب لشاب مراهق مهتم بالتاريخ السياسي، وأظن أنها كانت بين دوافع التخصص في دراسة العلوم السياسية.
***
خلّفت قراءة رواية أجاثا كريستي عن جريمة في قطار الشرق السريع آثاراً في نفسي لم يأتِ حتى يومنا هذا ما يمحوها أو يُقلّل من شأنها وبخاصة على عناصر تأسيس شخصيتي وتلوين مراهقتي وترتيب هواياتي بما فيها حب السفر. أعرف من خلال تتبع تعليقات النقاد أن هذه الرواية كانت وراء الصعود الأسطوري لهذه المؤلفة وللكتابة البوليسية بشكل خاص. نُشرت الرواية في عام 1934 ولم تكن رحلات قطار الشرق السريع تحظى باهتمام يذكر لدى الرأي القارئ في بريطانيا العظمى. يستحق الذكر من جانبي أن رحلات هذا القطار بدأت في عام 1883 خطط لها لتنطلق من باريس وتنتهي في اسطنبول مرورا بستراسبورج وميونيخ وفيينا وبودابست وبوخارست، وكانت الرحلة تستغرق 6 أيام.
***
عشت أحلم برحلة مماثلة أراقب خلالها سلوك فصيلة من الركاب نادراً ما تجتمع في مكان آخر على هذا الشكل والتكوين. كان بين الشروط المتوخاة لحجز بطاقة سفر لرحلة من رحلات هذا القطار التزام الراكب بارتداء بذلة سهرة وربطة عنق سوداء عند تناوله وجبة العشاء في العربة المخصصة للطعام وفي العربة المخصصة لتناول المشروبات الكحولية والدردشة ولعب الورق. وقتها كانت الرحلة من لندن إلى البندقية في إيطاليا تستغرق 48 ساعة.
***
حققت جانباً من أحلام سنين المراهقة عن السفر ليلاً من خلال رحلات فريق الجوالة. كنا نستقل من قطار الصعيد عربة من عربات الدرجة الثالثة ونتبادل فيما بيننا النوم محل حقائبنا التي احتلت مقاعدنا. كانت رحلة أسوان الرحلة الأطول في سجل رحلاتي بالقطار يليها في طول مدة السفر رحلتنا إلى غزة في فلسطين ورحلتنا التي لا تنسى وكانت من مدينة، أو ميناء، وادي حلفا في النوبة السودانية إلى الخرطوم. أذكر عن هذه الرحلة أننا كنا ننزل من القطار لنركض بجانبه أثناء مشيه ولا أقول “جريه”. لم أركب في حياتي وسيلة مواصلات بطيئة إلى هذا الحد باسثناء الريكشو في دلهي وبكين وبانجكوك.
***
لم أستخدم عربات النوم في السفر الطويل إلا بعد سنوات من تخرجي. لم أجربها خلال وجودي في الهند برغم توفر كل عناصر الإثارة. هناك قرأت عن رحلات السكك الحديد وبخاصة الرحلات الطويلة ووددت القيام بواحدة منها ومنعني في ذاك الوقت ما سمعته من دبلوماسيين أجانب عن اجتماع مختلف عناصر الإثارة والتشويق والمغامرة إلى درجة فعلاً رهيبة.
***
لم أمارس هذه الهواية في الصين، فللسفر خارج العاصمة في تلك الأوقات شروط حكومية تجعله غير ممكن ولا محبذ. عدت إلى الصين بعد أكثر من عشر سنوات في رحلة صحفية نظمها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة الأهرام ولم تكن الشروط تغيّرت. قضينا الرحلة نتحرك بالطائرات والسيارات. أما في إيطاليا، الموقع الثالث في حياتي الدبلوماسية، فقد تمكنت من تحقيق هذه الرغبة ربما إلى حد الإشباع. إذ حدث أن توليت بين مسئوليات دبلوماسية متعددة مسئولية نقل الحقيبة الدبلوماسية إلى ومن قنصلياتنا في نابولي وجنوة وميلانو، وكانت ميلانو الوحيدة بين القنصليات الثلاث التي أحتاج السفر لها من روما والعودة إلى المبيت في قطار. كنت أقوم بالرحلة الممتعة مرة كل أسبوعين، وكان يمكن أن تكون أكثر امتاعاً لو لم نكن مجبرين حسب القواعد على اصطحاب الحقيبة معنا إلى كل مكان في القطار نذهب إليه خلال الرحلة.
***
عاد الشوق ومعه الرغبة مشتعلة. هل عودتهما لما سمعت عن احتمال تسيير وصلة في العام المقبل من رحلة من قطار الشرق السريع في مشروعه المتجدد تنتهي في أبو سمبل؟ أم هي المراهقة متجددة بدورها في سن الشيخوخة؛ مراهقةٌ ظننتُ أنها راحت إلى غير عودة.