في مخيمات لبنان.. متى ندق “جُدران الخزان”؟

يمتد بين شتات اللاجئين، أفراداً ومجموعات، حبل من هواجس ومخاوف مشتركة. من قلق جماعي مستدام وموروث. هم أعداد بلا هوية. طاقات استزفت قبل الولادة. شاهدو مهرجانات بؤس يحتفي بها قياديو المرحلة او منتهزو اللحظة. لا فرق، حين يُقصى الفكر ويُصبح المرء شبحاً موسوماً باللجوء.

ما هو اللجوء؟ يسأل غسان كنفاني ويجيب “ان لا يحصل ذلك كله”. بعد عشرين عاما من التهجير واللجوء، كانت “أم سعد” تغسل ادراج المباني. لقد حصل ان كنا ولا زلنا طبقة مسحوقة. حصل ان كنا فدائيين يوما ما وصرنا اليوم متسولي سلطة.. ومكاسب رخيصة!

في حياة المخيم، يضيع الخوف والقلق من الخارج، أي خارج الجدار. قلق الداخل يطغى. لا وجود اجتماعياً خارج الجدار لمن يمتلك صفة لاجئ. لا اندماج اجتماعياً طالما أن الاقصاء والابعاد ممكن بطرق وأساليب متعددة. حياتنا قائمة على المساعدات “والقائمون على المساعدات الإنسانية هم شركاء في اقصاء اللاجئين بتكلفة أقل”، كما يقول ميشال أجير.

توليد الشعور بالخوف هو اقصاء. وجود جدار اسمنتي شبيه بجدار الفصل العنصري يحيط بمخيماتنا هو اقصاء. الاسلاك الشائكة وابراج المراقبة والابواب الحديدية، كما التفتيش والتدقيق اثناء عبور الحواجز هو اقصاء. وجود العسكر هو اقصاء. وجود ما يسمى “مخيم” هو اقصاء. الحرمان من مهنة هو إقصاء. أن تكون لك مدرسة ووكالة ولجان وتنظيمات ومساعدات شهرية كلها إقصاء بإقصاء.. أن تكون موسوماً بصفة الإرهاب هو إقصاء.

تظهر إجراءات الدولة اللبنانية سيطرتها الأمنية المزاجية على المخيمات ولا سيما منها مخيم عين الحلوة، وذلك وفقا لالتزامات سياسية متشعبة حسب خلفيات قيادات الأجهزة الأمنية. أي أنها هي من تبث الذعر في النفوس حول المخيمات الفلسطينية. أما اللاجئ الذي يعامل معاملة أمنية فهو ذات مستلبة وكيان خيالي ومشروع ارهابي. ونتائج الحرب على الإرهاب “ذات قيود واسعة على الحريات الشخصية الفردية”.

للغريب في المخيم حياة أكثر قلقا من ابن العشيرة. ومن هو الغريب؟ هو الخارج عن نطاق الأحزاب والعشائرية أو الفلسطيني الذي جاء من سوريا مؤخرا أو لاجئ الضفة وغزة أو من لا يملك سلاحا. من لا يملك سلاح هو ضعيف. ولا يمكن للضعيف الا ان يكون لاجئا، فالثائر له وجه آخر لم يعد موجوداً اليوم

الاحتياطات الزائدة من الدولة اللبنانية “الكريمة” تجاه المخيمات الفلسطينية تعيد بث الخوف وتؤكد وجود خلل ما ووجوب القيام بفعل دفاعي ما. يكبر أطفال المخيمات ككائنات مستباحة. الكره في قلوبهم يغذيه الواقع الصعب المُعاش.

نعيش في المخيم في عالم المؤقت، في حركة غير متناهية. يُولّد الشعور المعلق فينا افقا مسدودا فلا ننتظر شيئاً، فداخل اسوار المخيم ليس كما خارجه. يقول ميشال أجير عن اللاجئين “لقد ألقي بهم في مكان معلق لا تحدد فيه مكانة اجتماعية”.

وفي حياتنا، كثافة سكانية، نعامل كنفايات يجب التخلص بعد الاستفادة منها. وفي حياتنا في المخيم نفايات راكعة تحت أحذية ضباط أجهزة الأمن اللبنانية، هكذا نصفهم في المخيم، هؤلاء الراكعون يحكموننا. وفي حياتنا في المخيم، نشاز الحياة كيفما تكون. قيود في كل زقاق ضيق وخانق. من يُجدّد خطاب حب المخيمات الرديء والمصطنع فينا سوى تجمعات المجتمع المدني الفلسطيني المشوه والمُمول؟ حتى الأحزاب التقليدية بشكلها المهترئ العدائي لطالما كانت جزءاً من هذا الخطاب. لا خطاب ثورياً في المخيم. الكل اما راكع واما جائع واما قد هاجر بحثا عن خلاصه الفردي. ولماذا لا نكون فرديين؟ ان الهجرة ليست حكرا على مكان جغرافي عندما تبيع قياداتنا ومعها الأنظمة العربية قضيتنا.. وتبيعنا معها.

في المخيم، يختنق البعض من عمليات التفتيش على الحواجز ويختنق اخرون من الكثافة السكانية او من الوحل المبعثر في الهواء الذي نتنفس. كل اتساخ في المخيم يذكر بما اتسخت به حياة ام سعد في وحول العمل والشقاء. وصف المخيم بالمكان المطمئن او الجميل هو تطبيع نفسي للاستمرار بالوهم. وهي أيضا رؤية الممولين. وأيضا في المخيم تختلط قوة ونفوذ العشائر. تتقاطع مصالح هؤلاء مع مشاريع الأمن غير المستتب في المخيم. وللغريب في المخيم حياة أكثر قلقا من ابن العشيرة. ومن هو الغريب؟ هو الخارج عن نطاق الأحزاب والعشائرية أو الفلسطيني الذي جاء من سوريا مؤخرا أو لاجئ الضفة وغزة أو من لا يملك سلاحا. من لا يملك سلاح هو ضعيف. ولا يمكن للضعيف الا ان يكون لاجئا، فالثائر له وجه آخر لم يعد موجوداً اليوم.

وفي حلقة او سلسلة تغذي بعضها يكون للدولة دور خفي ومعلن في صد الهجمات او اغفالها ان ارادت حسب الحالة السياسية القائمة. من يقنع اهل المخيم ان لا مقدرة لاقتلاع بعض الافراد، وأشدد على افراد وليس جماعات؟ أو نحن من علينا أن نقنع اننا ارهابيين؟ هل على اللاجئ ان يظل منحني الرأس في بلاد لا تحترم حتى مواطنيها؟

الجميع متفق على ان لا سيادة للدولة اللبنانية ولا وجود لها. كيف يعامل اللاجئ في بلاد أصلا ذات مرجعية سياسية وهمية؟ وكيف تكافح هذه القوى السياسية الإرهاب بتمويل ممول الإرهاب نفسه؟ وكيف تتقاطع مصالحها مع توسيع قاعدة الإرهاب؟

إقرأ على موقع 180  كأن ما يجري في لبنان.. ليس في لبنان!

ان أصغر طفل إرهابي موجود في حي حطين (عين الحلوة)، الملتصقة فيه تهمة الإرهاب، عمره لا يتعدى 16 عاماً عندما اتهم. هذا فتى من الذين تلصق بهم تهم الإرهاب في المخيمات. في هذه الحالة ما هي الأدلة التي علينا تقديمها لتثبيت براءة هذا الطفل؟

ان تحقيقات الأجهزة الأمنية اللبنانية تعتمد على العنف الجسدي كما ان التهم عادة والإرهابية منها، تقوم على أساس تقارير المخبرين وما أكثرهم في المخيمات. تخدم هذه الحملات الممول الأول للارهاب. ان الدولة اللبنانية لا تخجل حين تبني جداراً بتمويل اميركي حول المخيمات الفلسطينية وظيفته التضييق على الفلسطينيين.

ختاماً، أسأل: كيف نعيد الوجه الثائر للاجئ الفلسطيني؟ ومتى ندق “جدران الخزان” (سؤال غسان كنفاني في ختام رواية “رجال في الشمس”)؟ هل وجود الفلسطيني في لبنان يُرعبهم أم اننا مشروع استثمار سياسي واقتصادي واغاثي الى اجل غير معروف؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تفسير النص الدستوري بالمواءمة أم بالمعاني المتناقضة؟