يركز إقتراح القانون المقدم من النائبين ياسين جابر وميشال موسى (بالإمكان الاطلاع على النص أدناه) إلى مجلس النواب على عفو يطال شريحتي الإسلاميين الموقوفين أو الصادرة بحقهم أحكام قضائية، والملاحقين ببعض قضايا المخدرات، الأمر الذي أثار حفيظة ناشطين في الحراك الشعبي يعتبرون أن الإقتراح “هو محاولة من الحكومة المستقيلة والسلطة التشريعية لتقديم جائزة ترضية إلى الحراك، كونه كان في صلب الورقة الإصلاحية للحكومة المستقيلة، فضلا عن أنه يتضمن بنودا قد تشكل مدخلا لتبرئة متهمين بسرقة المال العام”. كما إعترض قضاة وسياسيون ومحامون على الإقتراح. هنا، قراءة في إقتراح القانون لقاضية التحقيق في بعبدا، السيدة ساندرا المهتار ولمؤسس المفكرة القانونية ومديرها التنفيذي المحامي نزار صاغية، ننقلها بحرفيتها:
ساندرا المهتار: هذه ملاحظاتي
“غالباً ما تثير قوانين العفو العام جدليّة بين مؤيّد ومعارض؛ فالمؤيّد يرى أن من شأن العفو العام إعطاء مرتكبي بعض أنواع الجرائم فرصة جديدة لتصويب مسارهم والاندماج في المجتمع وبنائه، ما ينعكس بشكل إيجابي على عائلاتهم والمجتمع ويخفّف من اكتظاظ السجون. في حين يرى المعارض أن العفو العام يشكّل ضرباً لسيادة القانون ومبدأ المساواة بين المواطنين وتهديداً للسّلم الاجتماعي.
وإذا ما أردنا البحث تحديداً بمشروع قانون العفو العام الذي من المقرّر طرحه على المجلس النيابي في الجلسة التشريعية المحدّدة يوم الثلاثاء في 12/11/2019، فإنه، وفضلاً عن كل ما أثير حول مدى دستورية انعقاد الجلسة قبل مناقشة قانون الموازنة وحول توقيت طرح المشروع وغايته السياسية، وحرصاً على شفافية العمل القضائي والتنبيه للمطبات، يهمّني أن أبدي الملاحظات التالية:
- عدم وضوح في تعريف بعض الجرائم المشمولة في المشروع، بما يفسح في المجال أمام التفسير، ومن المعلوم أن النصوص الجزائية تفسّر بشكل ضيّق، إلاّ أنه في حال الشك، فإن التفسير يكون بما فيه مصلحة المدعى عليه. فعلى سبيل المثال، لا يشمل العفو العام جنايات المخدرات، ولكنه يشمل جناية “تسهيل التعاطي” كما ورد في البند “6” من المادة الثانية معطوفة على البند “3” من المادة الأولى من مشروع القانون. وإذا ما راجعنا قانون المخدرات، فإنه لم يرد ذكر لجرم “تسهيل التعاطي” في أيٍّ من نصوصه. الأمر الذي سيتطلّب تفسيراً من المحكمة الناظرة في القضية للمقصود بجرم “تسهيل التعاطي”، ما يفسح المجال أمام تعدّد الاجتهادات والتفسير وبالتالي، اختلاف القرارات بشأن الأفعال التي تشكّل تسهيلاً لتعاطي المخدرات بالمعنى المقصود في المادة 2/6 المشار إليها وتلك التي لا تشكّل هذا الجرم، وبالتالي، اختلافاً بين المحاكم في الأفعال المشمولة بالعفو وتلك التي لا يشملها. مع الملاحظة بأنني لم أتمكّن من تحديد ماهية الظروف الاجتماعية والسياسية التي تستوجب إعفاء مرتكب أي جناية مخدرات مهما كان نوعها من العقاب.
الاستثناءات محدّدة، فينقلب العفو من أن يكون هو الاستثناء ليصبح هو المبدأ، والعقاب يصبح هو الاستثناء.
- ينصّ البند “2” من المادة الأولى من مشروع القانون على أن يشمل العفو كل الجنايات والجنح غير المستثناة في قانون العفو وهذا توسيع غير مبرّر لنطاق العفو، لا سيما وأن الاستثناءات محدّدة، فينقلب العفو من أن يكون هو الاستثناء ليصبح هو المبدأ، والعقاب يصبح هو الاستثناء.
- تضمّنت المادة الأولى ما يؤدي إلى شمول العفو لكل الجرائم المرتكبة قبل صدوره سواء حُرّكت فيها دعوى الحق العام أو لم تحرّك، وهذا أيضاً يؤدي إلى توسيع نطاق العفو خلافاً لأي قانون عفو عام سابق.
- تضمّن البند “4” من المادة الأولى تفريقاً بين الجرائم التي تدخل في اختصاص المحاكم العسكرية، فشملها العفو على الرغم من وجود حق شخصي، على أن يكون للمتضرر مراجعة المحاكم المدنية بالنسبة للتعويض، في حين أبقى على التجريم في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العدلية في حال عدم حصول إسقاط للحق الشخصي، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف التجريم بالنسبة للفعل الجرمي نفسه باختلاف المرجع الصالح للنظر في هذا الجرم، وما يستتبعه ذلك من عدم مساواة بين المرتكبين المشمولين بالقانون.
- وفي إطار الجرائم التي تتضمّن حقوقاً شخصية للمتضرّرين منها، فإن عدم شمولها بالعفو إلاّ بعد إسقاط الحق الشخصي من شأنه أن يفسح المجال أمام تعرّض المتضرر من الجرم لشتى أنواع الضغوط من قبل عائلة المرتكب ومجتمعه ما قد يكرهه على إسقاط حقه الشخصي درءاً لأضرار إضافية قد يتعرّض لها هو أو عائلته إن لم يفعل.
- على الرغم من أن المادة السادسة من المشروع تنص على سقوط منحة العفو في حال استمرار المستفيد من العفو في ارتكاب الجرائم أو معاودته ارتكابها… إلاّ أنها ليست المرة الأولى التي يدخل فيها هكذا نص على قانون عفو عام (يمكن مراجعة قوانين العفو السابقة)، ولكن لم يسبق أن شاهدنا تطبيقاً فعلياً لمضمونها على الرغم من تحقّق الحالات التي شملتها.
- تنص المادة التاسعة من المشروع على تخفيض العقوبات في كل الجرائم غير المشمولة بالعفو بشكل لافت، الأمر الذي من شأنه أن يفرغ النصوص التجريمية، حتى في الجرائم غير المشمولة بالعفو من مضمونها ومنع تحقيق هدفها الزاجر”.
نزار صاغية: رشوة أم ماذا؟
بدوره، كتب مؤسس المفكرة القانونية ومديرها التنفيذي المحامي نزار صاغية الآتي:
“أي عفو عام يعيد إلى الأذهان العفو العام سيئ الذكر والذي صدر في العام 1991 والذي منح لجميع الجرائم السياسية مع بعض الاستثناءات، عفوا ذاتيا أبيض، أي من دون إلزامهم بأي قيد أو شرط للمستقبل، ولا حتى لجهة ترميم حقوق الضحايا الذين تعيّن عليهم آنذاك أن يرضخوا للأمر الواقع. وفيما يستشف من خطاب الأوساط الحكومية أن العفو العام سيستهدف بشكل خاص فئات اجتماعية تعتبرها أحزاب السلطة جزءا من “جماهيرها” كالناشطين الإسلاميين في طرابلس أو العاملين في سوق المخدرات في البقاع وبعلبك والهرمل أو أيضا عائلات العملاء الفارين إلى اسرائيل، يبقى أن أي طرح لعفو عام يستدعي الكثير من التنبه ولا سيما أن الورقة الإصلاحية لم تحدد قط مضمونه. وفيما تستثني حاليا مسودة المقترح جرائم الاعتداء على المال العام، فإنها تعفي من حيث المبدأ جميع الجنح والجنايات إلا ما استثني صراحة، الأمر الذي يشمل عددا كبيرا من الجرائم المرتكبة من القوى المشاركة في الحكم، ومن أبرزها جرائم صرف النفوذ وإساءة استخدام السلطة والتعذيب وقوانين حماية البيئة أو الماء والهواء. هذا عدا عن أن تعديل مسودة القانون قد يتمّ في أي مرحلة على نحو قد يضمنها في لحظة إقرارها من الهيئة العامة للمجلس النيابي ما يفيد إعفاء السلطة الحاكمة مما تكون قد ارتكبته من جرائم اعتداء على المال العام. وأكثر ما نخشاه أن يكون ثمة قوى تتهيأ لمواجهة الفترة الانتقالية التي قد تنجم عن الثورة الحاصلة، من خلال إعفاء ذواتهم، منعا لأي عدالة مستقبلية. مهما يكن، فإن مجرد التلويح بالعفو العام في موازاة الحديث عن المحاسبة، إنما هو من قبيل الحديث عن الأسود والأبيض، وفي الآن نفسه حزاما ناسفا للورقة الإصلاحية برمتها.
تبدو السلطة الحاكمة وكأنها تستمر في ممارستها الاعتيادية التي تقوم على شراء الذمم والزبائن، من خلال التخلّي عن الدفاع عن مصالح الدولة والحق العام
إن مجرد إثارة العفو في هذه الظروف بالذات ووضعه على نار حامية، تماما كما حصل قبيل الانتخابات النيابية، يؤكد بحد ذاته أن الهدف منه ليس تصحيح أوضاع اجتماعية معينة، إنما تحقيق مكاسب سياسية، قوامها استرضاء الفئات الاجتماعية التي تعتبرها القوى السياسية جمهورا لها، وتخفيف حمأتها. فكما تم التلويح بالعفو من باب الرشوة الانتخابية، ها هو يلوح به من باب تهدئة الحراك الشعبي الحاصل في المناطق قاطبة. ومن هذه الزاوية، تبدو السلطة الحاكمة وكأنها تستمر في ممارستها الاعتيادية التي تقوم على شراء الذمم والزبائن، من خلال التخلّي عن الدفاع عن مصالح الدولة والحق العام. وهذا ما نتبينه في مجالات عدة، حيث تعوّض الدولة عن عجزها عن تأمين فرص عمل أو مجالات تنمية للمواطنين من خلال تمكينهم من مخالفة القانون على حساب الصالح العام وبشكل خاص البيئة. وهذا ما نتبينه في قطاعات واسعة أبرزها قطاعات المقالع والمرامل ولكن أيضا الصناعات غير المرخصة أو غير الخاضعة لأي رقابة جدية، فضلا عن شبكات الإتجار بالبشر أو المخدرات. من هذه الزاوية، تأمل القوى السياسية أن تهدئ غضب شرائح من جماهيرها وخاصة في الهرمل-بعلبك وطرابلس، وأن تضعف تاليا أي توجه لمساءلتها. ويؤمل هنا أن تشكل حدة التطييف في العلاقات بين شركاء الحكم وما سيفترضه من تناقضات وثنائيات بين (العمالة/ المقاومة) و(الإرهاب ومكافحة الإرهاب) والمحاذير الدولية لجهة التساهل مع أعمال الإرهاب أو تبييض الأموال، إلى إغراق النقاشات حوله بتجاذبات الحكم الاعتيادية وتاليا إلى نسف الفكرة برمتها. وخير دليل على ذلك أن المسودة الحالية خلت من أي إعفاء لمزارعي المخدرات أو مصدريها، كما خلت من أي عفو عن جرائم القتل”.