“تسميم” نافالني أم العلاقات الروسية الأوروبية؟

ثمة سؤال أوّلي يُطرح في قضية "تسميم" المعارض الروسي اليكسي نافالني: من المستفيد؟

من السذاجة الاعتقاد أنّ يعمد الكرملين، وفي خضم الضغوط الخارجية التي يواجهها منذ سنوات، إلى اطلاق النار على قدميه، من خلال خطوة يُدرك سلفاً أنها ستثير عاصفة دولية، أقلّه من الجانب الأوروبي، في لحظة حساسة للغاية في العلاقات الروسية – الأوروبية عموماً، والروسية – الألمانية خصوصاً، لا سيما في ظل الصخب المرافق لتدشين مشروع “نوردستريم – 2″، وتطوّرات الموقف في بيلاروسيا بعد انتخابات التاسع من آب/اغسطس المثيرة للجدل.

امتداداً لما سبق، يمكن التساؤل عمّا إذا كانت شخصية مثل اليكسي نافالني تستحق هذه المخاطرة لإبعاده عن المشهد السياسي الداخلي بعملية تسميم أو اغتيال مفترضة تبدو، بحسابات الربح والخسارة، فاشلة حتماً، اذا ما قيست بحجم رد الفعل المتوقع من قبل الغربيين، لا سيما أن ثمة سابقة حدثت قبل عامين، حين وقعت عملية التسميم الغامضة لعميل الاستخبارات الروسي المنشق سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا.

السؤال السابق يمكن الاجابة عليه نفياً بالوقائع الثابتة، فبالرغم من أن نافالني شخصية مشهورة جداً في روسيا وخارجها، إلا أن الشهرة لا تعني الشعبية التي من شأنها أن تهدد رئيساً بقوة فلاديمير بوتين على النحو الذي يحاول الإعلام الغربي تصويره.

هذا على الأقل ما تؤكده معطيات مركز “ليفادا” لاستطلاعات الرأي، والذي يتمتع بسمعة طيبة في الغرب كمصدر موضوعي وشفاف للمعلومات عن روسيا، والتي تفيد بأن تسعة في المئة فقط من المستطلعين في روسيا يدعمون أليكسي نافالني، في حين أن واحداً في المئة فقط من الروس ينظرون إليه كرئيس مستقبلي لروسيا.

على هذا الأساس، فإنّ المزاعم الغربية بأن نافالني هو ذلك “الرجل الذي يخشاه فلاديمير بوتين” تبدو مجرّد دعاية زائفة، أو على الأقل واحدة من الكليشيهات التي تنم عن جهل بالحياة السياسية في روسيا، حيث المعارضة الحقيقية تتمثل في أحزاب أكثر شعبية ممثلة في البرلمان، على غرار الحزب الشيوعي لروسيا، الذي يمكن افتراض أنه يتمتع بفرصة أكبر من نافالني لزيادة شعبيته قبل انتخابات الدوما المقبلة، لا سيما من من خلال معارضة خطة اصلاح نظام التقاعد، والتي أدت إلى انخفاض كبير في شعبية الرئيس وحزبه الحاكم –  “روسيا الموحدة”.

هذا ما يدفع الى استبعاد منطقي لفكرة أن يكون الكرملين قد أمر بتصفية نافالني، حتى وإن سلّمنا جدلاً باتهامات غربية سابقة لأجهزة الأمن الروسية في ما يتعلق بمقتل عدد من أوليغارشيي تسعينيات القرن الماضي، ممن راحوا يشكلون ظاهرة تآمرية على الدولة الروسية في عهد فلاديمير بوتين.

ما سبق يقود إلى احتمالين، أحدهما ضعيف بعض الشي. إمكانية أن تكون جهة روسية غير رسمية قد عمدت إلى تسميم نافالني؛ وأما الإحتمال الثاني، وله ما يكفي من الخلفيات لدعمه، فهو أن يكون ما حدث مع المعارض الروسي من صنع جهاز استخبارات أجنبي.

الاحتمال الأول تدعمه حقيقة أن اليكسي نافالني، البالغ من العمر 44 عاماً، هو ناشط معارض عنيد، ويعمل بلا كلل على ملف الفساد في روسيا، وهو ما يجعله هدفاً لجهات داخلية، يفترض أن تكون متضررة من نشاطه، خصوصاً أنّ روسيا لم تتخلص تماماً من الظواهر المافيوية المتصلة ببعض مراكز القوى في البلاد، سواء على المستوى السياسي أو المالي، برغم كل الجهود التي قامت بها السلطات الرسمية خلال السنوات العشرين الماضية لإنهائها، أو على الأقل إضعافها.

وفي وقت يتجاهل المسؤولون الروس الحديث عن ظاهرة نافالني، بما في ذلك الرئيس فلاديمير بوتين الذي لم يأتِ على ذكر اسمه في كل لقاءاته العلنية منذ عشرين عاماً، إلا أن الاستياء من نشاط المعارض الروسي غالباً ما يأتي من بعض الأوليغارشيين الموالين للكرملين الواردة أسماؤهم في تحقيقاته لمكافحة الفساد، وأشهرهم أليشر عثمانوف، الملياردير الناشط في مجال المعادن والتكنولوجيا، ويفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة “فاغنر” وصاحب امبراطورية اعلامية ضخمة في ما إطار ما يعرف بـ”مركز ابحاث الانترنت”، الذي يرى الغربيون انه الذراع الإعلامية لـ”الاخبار الكاذبة” حول العالم.

ما قد يعزز احتمال ضلوع جهات غير رسمية في تسميم نافالني هو أن ثمة حادثة مماثلة جرت في 27 شباط/فبراير العام 2015، حين قُتل المعارض الروسي بوريس نيمستوف عند جسر موسكوريتسكي الكبير، مقابل سور الكرملين، أي تحت نوافد المقر الرسمي لفلاديمير بوتين، ليتبيّن في نهاية المطاف أن ما جرى كان من تدبير المافيا الشيشانية، وبشكل أكثر دقة من قبل حاشية الرئيس الشيشاني رمضان قديروف.

لكنّ نقطة الضعف في هذا الاحتمال تتمثل في أن الجهة الداخلية التي يمكن أن تتورّط في تصفية سياسية لمعارض مثل اليكسي نافالني لا شك أنها تدرك جيّداً بأن خطوة من هذا القبيل قد تكلّفها الكثير، أخذاً في الحسبان الغضب العارم الذي واجهه قديروف قبل سنوات من قبل بوتين، والذي كاد يخرج عن السيطرة لولا حسابات داخلية خاصة بالعلاقة المعقدة بين غروزني والمركز في موسكو من جهة، ولولا وساطات قامت بها جهات خارجية مع بوتين مباشرة، ومن بينها دولة الإمارات من جهة ثانية.

هنا يبرز الاحتمال الثاني، والمتصل بدور جهة استخباراتية أجنبية في واقعة التسميم، يمكن أن تحقق أكثر من هدف في وقت واحد، ابتداءً من احداث توترات في الوضع الداخلي الروسي، بما يستوحي التجربة البيلاروسية المستمرة فصولها منذ أسابيع، وفي الوقت ذاته، احداث شرخ في العلاقات الروسية – الأوروبية، وبالتالي ضرب التقارب الحاصل بين موسكو وبرلين حول مشروع “نوردستريم ـ 2”.

إقرأ على موقع 180  ثورة لبنانية بين جيلين: عودة الأمل!

وفق هذه الاحتمال، يبدو اليكسي نافالني صيداً ثميناً لتحقيق الهدف المنشود، فمنذ سنوات اختاره الغرب وجهاً للمعارضة الروسية، برغم افتقاره للشعبية الكافية لتشكيل حالة مزاحمة للكرملين أو حتى للمعارضة التقليدية في روسيا، وكل ذلك من خلال أدوات صناعة الصورة التي تلبي خصائص معينة يمكن تقديمها بشكل مربح في الغرب: ناشط معارض شاب، يتمتع بالحيوية، ويمتلك الجرأة الكافية للاندفاع في المعركة ضد الأوليغارشيات والفساد، أو حتى التغريد خارج سرب المزاج الشعبي في قضايا اجتماعية، من قبيل زواج المثليين، الذي رفضه الروس في الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية.

المثير للانتباه أن السلطات الألمانية سارعت إلى حسم فرضية “التسميم”، لا بل سرّبت معلومات عن أن التسميم قد تمّ بمادة “نوفيتشوك”

على هذا الأساس، كان من الطبيعي أن تثير الأخبار حول نافالني حالة من الصخب في الدول الأوروبية، سواء في ألمانيا، التي نُقل إليها غداة ظهور أعراض التسمم لديه، أو في بريطانيا، التي تحاول تعويض فشلها في المعركة الشرسة التي خاضتها ضد روسيا على خلفية التسميم المشبوه لسيرغي ويوليا سكريبال.

ما حدث مع نافالني بات معروفاً: في 20 آب/أغسطس، تم نقله إلى المستشفى في حالة خطيرة بعد وعكة صحية تعرض لها خلال رحلة على متن الطائرة من تومسك إلى موسكو. بعد يومين، وعلى الرغم من معارضة الأطباء في تومسك، نُقل على متن طائرة خاصة استأجرتها منظمة ألمانية غير حكومية إلى برلين.

المثير للانتباه أن السلطات الألمانية سارعت إلى حسم فرضية “التسميم”، لا بل سرّبت معلومات عن أن التسميم قد تمّ بمادة “نوفيتشوك”، برغم تشكيك الأطباء والعلماء الروس بذلك، في ما اعتُبر اتهاماً صريحاً للكرملين، أخذاً في الحسبان أن هذه المادة السامة التي تمّ تطويرها منذ أيام الاتحاد السوفياتي هي نفسها التي استخدمت في تسميم الجاسوس الروسي المنشق وابنته في بريطانيا قبل عامين، وهي الواقعة التي شكلت عنواناً لمواجهة سياسية حادة بين موسكو والغرب، بلغت رحاها أروقة مجلس الأمن الدولي.

ومع أن الجانب الروسي يؤكد أن لا دليل على أن نافالني قد تعرّض للتسميم أو في أسوأ الأحوال يرفض الاتهامات بتورط أجهزة الدولة في هذه الحادثة  –  لا بل أن  العلماء الروس يؤكدون أن ما عانى منه المعارض الشاب ليست من أعراض التسمم بـ”نوفيتشوك” – إلا أن ما حدث قد وضع الكرملين عملياً في موقف دفاعي، في ظل حملة الضغط التي يمارسها انصار نافالني لدى الحكومات الغربية تحت شعار إجراء “تحقيق شامل وموضوعي”.

كيف ستتطور الأحداث في المستقبل القريب؟

من الصعب التكهن، ولكن يمكن افتراض أن الكرملين سيخوض معركة دبلوماسية وقضائية تتجاوز في الشكل والمضمون المعركة التي خاضها يوم اتهم بتسميم سيرغي سكريبال وابنته، وهو يركّز حالياً على أن نقاط الضعف في الرواية الألمانية لما جرى مع نافالني، ولا سيما في جزئية المطالبة بمشاركة المعلومات الخاصة بالتحقيق في واقعة التسميم، مع اثارة الكثير من علامات الاستفهام حول أسباب احجام الجانب الألماني على القيام بخطوة من هذا القبيل، بالرغم من أن الجريمة المفترضة وقعت على أرضٍ روسية وليس في بلد آخر، كما كانت الحال مع الجاسوس الروسي المنشق وابنته قبل عامين.

ثمة اسئلة كثيرة تضيف المزيد من الغموض على ما حدث مع نافالني، وبعضها من شأنه أن ينفي التهمة عن الكرملين، خصوصاً في ما يتصل باستخدام الـ”نوفيتشوك” الذي غالباً ما يربطه الغربيون بالكرملين، ناهيك عن سماح السلطات الروسية بسفره إلى ألمانيا، كما لو أنها ساذجة بما فيه الكفاية لتقدّم دليلا مجانيا على تورطها المفترض!

لكنّ القضية تتجاوز بالتأكيد هذه الجزئيات، فسواء كان تسميم نافالني قد تم على ايدي جهاز استخبارات خارجي أو على ايدي فصيل من الأوليغارشية الروسية، فإنّ توجيه اصابع الاتهام إلى الكرملين، كما يجري حالياً، ربما يشكل فرصة ذهبية لتحقيق أهداف جيوسياسية.

هكذا يتحوّل اليكسي نافالني من مجرّد صداع في رأس بعض مراكز القوى في روسيا إلى دمية في صراع مفتوح على احتمالات شتى بين روسيا والغرب. حتى الآن لا تبدو آفاق هذا الصراع واضحة: من جهة، في الغرب ما يكفي من المشاكل التي التي من شأنها أن تجعل قضية نافالني تتلاشى خلف ملفات من قبيل كورونا وصراعات شرق المتوسط والانتخابات الأميركية؛ ومن جهة أخرى، فإنّ “التسميم” قد تكون له وظيفة محددة، وهي “تسميم” العلاقات الروسية – الأوروبية، بما يقود إلى إجراءات عدائية متبادلة قد تصل إلى حد إيقاف مشروع “نوردستريم – 2”.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أوروبا المأزومة إقتصادياً تضع يدها بيد الصين!