مجازفة خطرة بالتأكيد.. ذلك أن الرجل أطلق مساراً شعبياً أو “شعبوياً” وفق التعبير السائد، في علم السياسية، يرتكز أساساً على مناهضة مؤسسة الحكم التقليدية ويطرح نفسه بديلاً لكل المنظومة التي تحكمت بمصائر اللبنانيين منذ “الإنقلاب على الطائف” في العام 1992، ثم تحول إلى مشاركتها هذه المنظومة عبر تفاهمٍ مع مكون رئيسي من مكوناتها، ما جعلَ صعباً عليه وعلى تياره قيادة ثورة من داخل نظام يقوم على مشاركة الطوائف، ويسمح بتعسف القوى السياسية الممثلة لها حتى آخر الزبائنية والفساد وشلل المؤسسات والمحاصصة بأسوأ أوجهها…
باتت قيادة الثورة مستحيلة إلا بعودة غير منطقية إلى بذة “جنرال الرابية” التي يتعطش إليها مناصروه في لحظة ما بعد انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر للعودة إليها وإلى ذلك الصوت الصادح من حديقة منزله كل ثلثاء أمام الصحافيين المنتظرين…
العارفون بأدبيات الرجل وتاريخه يتذكرون أن عون العماد قبل عون الرئيس لم يعِد بالمن والسلوى ولم يقل إنه آت ليشقَّ طريقاً منثورةً بالورود، على الرغم من الإحساس التفاؤلي المرتبط بحسّ المقاومة لدى رجل يتحسس أصلاً من مصطلحات “الإحباط” ومن نوازع الإستسلام القدَري التي تميز المجتمعات الشرقية والمجتمع اللبناني الميّال إلى تقليد البومة في نعيقها والإنجراف في البلبلة والضياع والتشتت الذي يحتاج إلى أكثر من زوبعةٍ حمراء أرادها ذات يوم مفكر نهضوي كأنطون سعادة عاملاً لتوحيد هذه المجتمعات القبَلية المتناحرة.
كل الصعوبات توقعها ميشال عون. قال يوماً لمحبيه ومناصريه إن “التحرر أصعب من التحرير”، ولم ينفِ المخاطر الكبرى. ومنذ بداية عهده، لم يعد بالكثير. قال إنه يعمل لإعادة ركائز دولة مفقودة و”مستحيلة”، عبر الميثاقية، أولاً، وعبر قانون انتخاب مهما شيطنه خصومه يبقى أنه صحح التمثيل المسحوق عبر محادل منظومة الطائف ومكوناتها، ثانياً. بادر ميشال عون إلى فتح ملف الإقتصاد ولو من خلال لجنة دراسات لم تأت بجديد إلى ما صرخ به خبراء اقتصاديون منذ بدايات ترسخ الليبرالية المتوحشة مع الحريرية السياسية وتمدداتها..
كل الصعوبات توقعها ميشال عون. قال يوماً لمحبيه ومناصريه إن “التحرر أصعب من التحرير”، ولم ينفِ المخاطر الكبرى. ومنذ بداية عهده، لم يعد بالكثير. قال إنه يعمل لإعادة ركائز دولة مفقودة
بعد 17 تشرين/أكتوبر، أمل بعضهم وما يزال بإسقاطه. بقي هو الهادئ الواثق. ليس بتجربة “المدفعجي” المقاتل تحت وطأة النيران الكثيفة فحسب، بل لأنه يدرك أن ما فعله، وما أراد فعله ولم يستطع، كان صك براءة له، وجسر نجاة من مقتل مشاركة الزعيم الشعبي النظيف في نظامٍ يناهضه ويحف بالشياطين، فراقصها من دون أن يصبح واحداً منها، ولم يهرب من تنكب مسؤولية معالجة تركة أكبر سرقة في تاريخ لبنان المعاصر ألقوها على منكبيه، ليس حباً بالإنتفاضات بل استهدافاً لخياراته السياسية تجاه أزمات وجودية، من قبل مجموعات باتت واضحة الأهداف، خاصة بعد انجلاء غبار الأسابيع الأولى من الإنتفاضة.
وضع ميشال عون، مع تياره، أسسَ جسرِ العبور والتميز عن منظومة الحكم، بالقبض على مفاصل الإستراتيجيا، أولاً بالتمسك بمواقف صلبة وعدم الموافقة على مقصلة التوطين والتلاعب بهويات شعوب ومصائرها، وهذا ما يثير حنق كل المنظومة، السياسية والإعلامية الهستيرية ضده، وثانياً بمتابعة وحماية شق أهم منعطف جيواستراتيجي وتاريخي في حياة لبنان، سيضعه على أكبر وأخطر ثروة، تجعله لاعباً رئيسياً على خارطة الأقوياء في شرق المتوسط والبحيرة التي عادت لترسم مسار التاريخ…
لن يعترف له خصومه، ولا الشرائح التي لم تعرف سوى التشاؤم في المجتمع اللبناني. هي نفسها ربما تلك التي كانت تقول لمناصريه “من كل عقلكن السوري يدو يفلّ!”… لكن ميشال عون نجح في تجاوز أخطر مطب وفي أدق لحظة من حياته. أنه كزعيم شعبي، نظيف، يشارك في منظومة ناهضها طويلاً، ولا يستطيع إسقاطها بالضربة القاضية لاعتبارات تعددية المجتمع اللبناني، هذا الزعيم يصنعُ جسرَ التمايز عنها، وينجح على الرغم من مطب 17 تشرين/أكتوبر، بصلابة الخيارات الوطنية، وبإطلاق مسار اكتشاف أهم ثروة وعامل قوة في تاريخِ لبنان المعاصر، ووضعه في تصرف الأجيال المقبلة، على مشارف إطفاء المئوية الأولى لهذا الكيان الصعب، لا بل الأصعب.