ما أن رفضت روسيا الإقتراح السعودي بتخفيض الإنتاج النفطي بمعدل 1.5 مليون برميل يومياً، تماشياً مع تداعيات السوق التي تراجع طلبها على المحروقات بفعل إنتشار فيروس كورونا، حتى إنطلقت منافسة حادة بين الدولتين أدت إلى إغراق الأسواق العالمية بالنفط. قررت السعودية رفع إنتاجها اليومي إلى حده الأقصى ليبلغ 13 مليون برميل يومياً، بالتزامن مع تخفيض في معدل أسعاره وصل في أوروبا التي يعتمد عليها النفط الروسي إلى حدود 10 دولارات للبرميل الواحد. في المقابل، ردّت روسيا بزيادة مماثلة قوامها 500 ألف برميل دافعة بانتاجها اليومي إلى 11.8 مليون برميل.
أرادت المملكة أن تضع هذه المعركة في إطار الحفاظ على الحصص، أما الروس، فقرروا خوض المعركة من زاوية سياسية أكثر منها إقتصادية، وبدت بالتالي المعركة بين من يريد حصة في إطار رؤية عشرية وتحولات وخطط إقتصادية، وبين من يريد تعزيز دوره السياسي الدولي. هذا الإشتباك بين الحصة والدور تسبب بانهيار دراماتيكي في أسعار الذهب الأسود، حيث انخفض سعر البرميل إلى حدود العشرين دولاراً، جارفاً معه أسهم الشركات الكبرى، ومطلقاً مواجهة إقتصادية وصفها الخبراء بالمتهورة، جاءت في لحظة حرجة، وتسببت في أزمة خانقة للدول المصدرة للنفط، التي تقف السعودية في مقدمها.
أميركا دائماً
بالرغم من تمظهر الصراع محصوراً بين السعودية وروسيا، وانتحال الرئيس الأميركي دونالد ترامب صفة المحايد الساعي لرأب الصدع، إلا أن أميركا، كشأنها دوماً، كانت في قلب المعركة.. أصل المشكلة، وفق مجلة “ناشيونال إنترست” الأميريكية، ينطلق من الجولة الأخيرة للعقوبات الأميركية على روسيا العام الماضي، يومها حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن بلاده ستنتقم، وستحدد لذلك الزمان والمكان الملائمين. والواضح أنه وجد في الإقتراح السعودي الهادف إلى تخفيض إضافي للمعروض النفطي، سعياً وراء تحسين المستوى السعري، فرصة ملائمة للإنتقام، ذلك أن تراجع سعر النفط من شأنه التسبب بإرباك النفط الصخري الأميركي ذي الكلفة المرتفعة، وبتعثر مستخرجيه المعتمدين على قروض مصرفية بأرقام كبيرة، وعندما تبنى ترامب أسلوب المكابرة، مبدياً ترحيبه بتهاوي أسعار النفط، واعتباره تخفيضاً ضريبياً يستفيد منه المستهلك الأميركي، أشاح الروس برؤوسهم بعيداً موقنين أنهم أمام مناورة رديئة الآداء، وأن تغيير خصمهم لموقفه مسألة حتمية. وقد صدقت التوقعات حيث أعرب الرئيس الأميركي سريعاً عن استيائه من انخفاض الأسعار، معلناً العزم على التدخل في الوقت المناسب.. وقبل تخلي ترامب عن احتفائه المزعوم بالبرميل النفطي ذي العشرين دولاراً، توجه ثلاثة عشر سيناتوراً أميركياً، يتوزعون بين جمهوريين وديمقراطيين، بعريضة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يناشدونه فيها تقليص إنتاج بلاده من النفط، أملاً في تحسن سعره.
أرامكو أيضاً
تراجع أسعار النفط انعكس سلباً على آداء أسهم شركة أرامكو التي تمثل، بالنسبة للمملكة، أيقونة إقتصادية يتعذر المساس بها. كان صعباً التغاضي عن الهلع الذي اعترى ملامح حملة أسهم الشركة من المواطنين السعوديين، وهم يرون مدخراتهم وقروضهم تتبخر في الهواء بعد تراجع سعر السهم إلى ما دون سعره الإبتدائي الذي انطلق بقيمة 32 ريالاً بتاريخ 17 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019. ليرتفع إلى 36 ريالاً في شهر ديسمبر/ كانون الأول الفائت، ثم ينخفض إلى ما دون 28 ريالاً جراء الأزمة الأخيرة، مع مخاوف مبررة من تراجع إضافي إذا ما استمرت الأوضاع في التفاقم.
استناداً إلى تقديرات المتابعين، تبدو السعودية مرشحة للصراخ أولاً في لعبة عض الأصابع مع روسيا التي تبدي استعداداً للتكيف مع سعر لبرميل النفط يتراوح بين 25 و30 دولارا، ولمدة تصل إلى عشر سنوات
ثمة 5 ملايين من المستثمرين، معظمهم من السعوديين، استثمروا في أسهم أرامكو مدفعوين بالحماسة الوطنية، وبتطمينات من قيادة المملكة بأن مدخراتهم ستكون في مأمن. يوم وضع سهم أرامكو قيد التداول، تعهدت الحكومة السعودية بمنح المستثمرين سهماً مجانياً مقابل كل عشرة أسهم يشترونها في حال الاحتفاظ بالسهم لمدة 180 يوماً. كما أعلن وزير الطاقة السعودي أن الندم سيكون حليف كل من يحجم عن الإستثمار في السهم الذهبي. مؤخراً علق أحد المستثمرين قائلاً: “لقد ندمنا حقاً”! في حين أبدى أحد خبراء البورصة دهشته من السرعة التي حكمت تراجع سهم أرامكو، بحيث لم تترك لمالكيه فرصة للخروج منه..
حرب خاسرة
استناداً إلى تقديرات المتابعين، تبدو السعودية مرشحة للصراخ أولاً في لعبة عض الأصابع مع روسيا التي تبدي استعداداً للتكيف مع سعر لبرميل النفط يتراوح بين 25 و30 دولارا، ولمدة تصل إلى عشر سنوات، أما السعودية، فتحتاج إلى سعر يقارب الـ90 دولارأ لتحافط على انسجام خطواتها مع إيقاع طموحاتها الإقتصادية المعلنة، وقد سارعت، بعد اندلاع الأزمة، إلى تخفيض موازنتها بحوالي 30 مليار دولار قابلة للمزيد من التخفيض، تبعاً لتقديرات المراقبين. حيث بلغ العجز في موازنتها، التي وضعتها بناء على سعر 55 دولارا للبرميل، مستوى 16%. بما يرفع خسائرها السنوية المقدرة فوق حاجز الستة مليارات دولار، ويلزمها بالتخلي عن خططها التنموية، وبالتغاضي عن مشاريعها الهادفة إلى تنويع مصادر الدخل ربطاً برؤية 2030، وعدم الإكتفاء بما يتيحه النفط.
المواجهة غير المتكافئة التي تخوضها السعودية ضد روسيا شجعت المحللين على التكهن بنهاية سريعة لها، خاصة أن المملكة لا تملك فرصة كبيرة للمناورة أمام الولايات المتحدة، كما أنها ستجد نفسها سريعاً أمام مطالبات بوقف المعركة من قبل الدول المصدرة للنفط، وفي مقدمهم دول الخليج، ومع أن الإمارات العربية المتحدة سارعت إلى دعم حليفتها بإعلان عزمها على زيادة انتاجها النفطي، إلا أن السير بالأمر إلى نهايته ينطوي على نتائج مخيفة، لا قبل لأحد بها.
انتصارات زائفة
يعيد بعض المتابعين القرار السعودي بتخفيض أسعار النفط إلى تجارب سابقة مماثلة خاضتها السعودية واعتبرتها ناجحة. لكن النجاح المزعوم لم يكن، برأي خبراء مطلعين، أكثر من وهم زائف. في ثمانينيات القرن الماضي أطلقت المملكة، مدفوعة من الولايات المتحدة الأميركية، حرباً نفطية هدفت من خلالها إلى تقويض النفوذ السوفياتي، نجم عنها إنهيار في اسعار البترول، خرجت السعودية راضية عن نفسها من تلك المعركة، لكن الدوائر النفطية العالمية أطلقت تسمية “العقد الضائع” على السنوات العشر الممتدة بين 1980 و1990، حيث تعين على الدول المنتجة خلالها أن تبيع نفطها بأسعار متدنية.
شهد النفط انتعاشاً بدءاً من 1990 حتى النصف الثاني من العام 2014 عندما خطر ببال السعودية أنه بوسعها إقصاء منتجي النفط الصخري من الأميركيين، وأمكن لوزير الطاقة السعودي آنذاك، علي النعيمي، أن يقنع الدول الأعضاء في منظمة أوبك بتخفيض الأسعار لإخراج جماعة النفط الصخري من السوق، محاولاً الإستفادة من التكلفة الرخيصة للنفط المنتج في بلاده، مقابل ارتفاع تكلفة الصخري منه، لكن الوقائع جاءت مغايرة للرغبات، حيث أثبت النفط الأميركي قدرته على المنافسة في محيط سعري لا يتخطى الـ35 دولاراً للبرميل، وكان على السعودية، وحلفائها في “أوبك”، أن يتقبلوا الخسارة بإحساس من يطلق النار على قدميه.
تسبب الأداء المرتجل للسعودية في تحويل فائض موازنتها إلى عجز بقيمة 98 مليار دولار عام 2015، في حين وصل عجزها التراكمي بين عامي 2014 و2019 إلى 385 مليار دولار، وقدر المبدد من نفطها خلال الفترة نفسها بنحو 250 مليار دولار، فضلًا عن تسبب الركود الناجم عن ذلك في توقف مئات المشاريع المحلية، وألزم المملكة بتطبيق خطط تقشف غير مألوفة.
رهانات خاطئة
تتوقع السعودية أن تحقق مكاسب من حربها النفطية القائمة حالياً خلال أسابيع قليلة، وتراهن على حصة سوقية واسعة تؤمن لها، في ظل الإنخفاض السعري، إيرادات موازية لتلك التي تحصل عليها مع أسعار مرتفعة. كما تعتمد على ضعف مفترض لخصمها الروسي تفقده القدرة على الإستمرار في المواجهة لفترة طويلة، كما تنتظر أن لا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي تجلس فيه روسيا على طاولة المفاوضات لتعلن موافقتها على الشروط السعودية.
لكن ذلك الرأي المتفائل لا ينسجم مع تحليلات محترفة تبدي توقعات مغايرة له، وهي ترى أن السعودية لا تعيش أفضل أيامها النفطية والإقتصادية، فالزمن تغير، وما كان ممكناً عام 2014 يبدو متعذراً اليوم، حيث بات المنتجون أقرب إلى التكيف مع انخفاض الأسعار، في حين أن السعودية التي كانت تملك قبل ست سنوات احتياطاً مالياً يقدر بـ737 مليار دولار، هي غيرها اليوم بعد أن تراجع احتياطها إلى 500 مليار، مع معدل انفاق متصاعد، يحتم عليها استهلاك 150 مليار دولار لتغطية عجزها السنوي.