تشير الساعة إلينا بضرورة العجلة، فنلجأ الى “وايز” ليشير إلى سبيل اسرع. “جي.بي.إس”( GPS) سيارتي صار قديما، وكنت كلما ضاق خلقي منه أسارع إلى نعته بـ”الحمار”. برنامج “وايز” يفاجئنا بشوارع وأزقة لا علم لنا بوجودها، برغم مكوثنا في مدينة ليل في الشمال الفرنسي، لاكثر من عشرين سنة خلت. أستغل وقتي لإجراء بعض المكالمات الهاتفية المتأخرة. الاطمئنان على الوالدة وإعطاء التعليمات الأسبوعية الى الابناء الذين لم أعانقهم هذا الصباح. ما زالت السيدة “وايز” تذكرني بوجوب التوجه شمالًا. أنتقل بعدئذٍ إلى “بودكاست”. حلقة من les chemins de la philosophie كأن “طريق الفلسفة” هو ما ما كان ينقصني في هذا التراكم الصباحي المفتعل، وأنا التي تسرق الوقت ولا تملك ترف استهلاكه.
يتبدل المشهد. نستقل السيارة لنتوجه الى المستشفى، مركز عملي بهدوء ننشده في العادة لكن قلما نجده. “وايز” وأمثاله ينتظرون إشارة لم تأت منذ أيام. ملايين البشر عالقون بعلب ترقب داخل شاشة او اكثر. نكتشف معالم الطرق من دون الازدحام الروتيني المعتاد، كأننا نتقدم أمام كاميرا خفية. نكتشف فجأة صفاء السماء وأشعة الشمس. الأزهار البيضاء حلّت محل البراعم بسرعة مدهشة، فغطت أغصان الأشجار التي كانت عارية بالأمس. جمال الطبيعة وهي تستيقظ من سبات اشهر طويلة يزيل الغم ويبعث على الفرح. تبدو اليوم كلوحة نحن خارجها. لا سبيل للمسها، لا نشعر بها ولو التصقنا بها. السكون يطفىء الحرارة، ينفذ الى العظم ويذكرنا بأجواء الحرب الأهلية القابعة أبدا في منعطفات ذاكرتنا. ليست هناك رائحة بارود ولا حطام أبنية او ردم أو سيارات يمكن أن يعرقل طريقنا. إنه هدوء مُبهِر ولو أنه يعطل تفكيرنا، لا بل يسلبنا القدرة على الاستمتاع باي شكل من أشكال الحياة.
تمر سيارة الاسعاف وتسلك الإتجاه المعاكس. لا حاجة لها لإطلاق أبواقها أو لمزاحمة السيارات. سائقها ملثم ويبدو كأنه مصنوع من الشمع. لا يتحرك أبداً. بالطقوس إياها، تمر شاحنة نقل الموتى. سائقها ملثم أيضاً، وقد جمد في مكانه كلعبة “بلاي موبيل”.
يرتدينا ثوب السكون. ثوب الترقب والرعب والعجز. لبرهة، تبدو من بعيد أزهار الشجر البيضاء كتاج لفّ سطح شاحنة الموت التي تبتعد ببطء. تختفي الشاحنة وتبقى الأزهار البيضاء تزين الأشجار وتعكس بعض أشعة الشمس كدليل لحياة مستمرة.. برغم كل شيء.
(*) طبيبة لبنانية مقيمة في فرنسا