تطاردني صور بألوان أسطورية من سفريات سابقة. نوارس تسرق الأكياس من المارة في دوفيل، وميناء تتراص فيه المراكب ككل تلك الموانئ القديمة. رجل هندي يحاول إيهامي أنني بصدد عقد صفقة القرن وأن هذا الشال الصوفي طرزته أمه بيديها في مسقط رأسه بكشمير، وأنا منشغلة بمتابعة حركة الأبقار والسيارات على الطريق وفوضاهم الخلاقة. سيدة إندونيسية قصيرة القامة وخفيفة الروح تقنعني بأدائها المسرحي أننى حصلت على سعر جيد للهدية التى اخترت، ثم سرعان ما تتبدد أوهامي بمجرد الدخول إلى المحل المجاور. لا زلت أضحك وأنا أتذكر حشرجة صوتها وهي تتصنع الهزيمة وتقول: «لقد أفلست تماما!».
صوت «سرمدي» آخر لسيدة تركية عجوز يأتيني من على نهر البوسفور، وهى تتحدث وترد على نفسها، وزوجها يشاركها الطاولة كل صباح على الإفطار دون أن ينطق ببنت شفة ودون أن أستنتج موضوع الجدل اليومي على مدى أسبوع كامل.
مقهى «إسطنبولي» أتذوق فيه الحلوى والشوكولاتة حتى صرت من الزبائن المعتادة، أجلس مع غيري تحت صورة كمال أتاتورك التي تزين معظم المحال. أطعمة وروائح تصحبني أينما ذهبت. أسترجع سهرات بيوت المغرب العربي التى تحولت إلى مطاعم تقليدية، أبواب موصدة من الخارج تفتح على روضة من رياض الجنة، تُعزف فيها الموسيقى الأندلسية.
أتسكع في حي الكلاب الضالة بروما. يختلف هؤلاء عن كلاب شوارع جزيرة «بالي» الذين يترنحون ليلا بالقرب من البالوعات المفتوحة بطول الطريق، فأحجام الكلاب وأنواعها وخصالها تختلف من مدينة لأخرى.
***
هفّت النفس إلى كل هذه الانطباعات والصور المحفورة في الذاكرة، خاصة أنه لا أمل في أن ترجع حركة السفر إلى طبيعتها قبل الصيف القادم، في أحسن الأحوال. ولا يزال السؤال مطروحاً بشدة على مستويات عدة: هل سترجع حركة السفر كسابق عهدها؟ أم ستطرأ بالضرورة تغيرات في أنماط السفر ومدته، لأمور تتعلق بأسعار تذاكر الطيران وتكلفة الرحلات والظروف الاقتصادية للمسافرين الذين فقد بعضهم جزءاً مهماً من معاشاتهم.
أخيراً، مشهد الموانئ الجوية صار حزيناً، الطائرات واقفة على الأرض، تمتلئ بها الممرات ومناطق الصيانة، والأسواق الحرة في كثير من بلدان العالم تكاد تخلو من البضائع
قبل أزمة الكورونا، كان عدد المسافرين سنويا يقدر بنحو 1.4 مليار شخص حول العالم، صارت مواقع السفر والسياحة على الإنترنت توفر فرصا ميسرة عن ذي قبل، رغم كل الصعوبات التى فرضتها ظروف الإرهاب وتعقيدات الفيزا، فمن ناحية أصبح الناس يجرؤون أكثر على اجتياز المجهول والتنويع في وجهات السفر وتمديد فتراته منذ تسعينات القرن الماضي، ومن ناحية أخرى أصبحت الإجراءات أكثر احترازاً وتشدداً.
أخيراً، مشهد الموانئ الجوية صار حزيناً، الطائرات واقفة على الأرض، تمتلئ بها الممرات ومناطق الصيانة، والأسواق الحرة في كثير من بلدان العالم تكاد تخلو من البضائع، أما الأشخاص الذين كانوا يعتبرون السفر خلاصاً، ولا يمر عليهم وقت طويل حتى يحزموا حقائبهم إلى وجهة جديدة، تراودهم أحلام القطار السريع والساعات التى يمضوها إلى جوار الغرباء يتشاركون الصدف والأحاديث.
***
السفر أصبح شيئاً ثانوياً أمام أولوية إنقاذ حياة البشر، حتى “الدواعش” صاروا يحذرون أتباعهم منه على مواقعهم الخاصة، تحديدا في بداية الأزمة قبل أن يحاولون استغلالها لصالحهم في مرحلة تالية منتهزين فرصة جلوس الناس لفترات طويلة أمام الإنترنت بهدف بث أفكارهم! بخلاف اختبارات الـ«بى. سي. آر.» لإثبات الخلو من الكورونا، من الصعب أن يتحقق التباعد الاجتماعي في المطارات وأماكن التنقل والسفر، هذا بالإضافة إلى إجراءات الإغلاق التي تتخذها بعض الدول.
***
كل يوم تتغير الألوان: مناطق خضراء آمنة وأخرى برتقالية وثالثة حمراء أكثر خطورة وإصابة بالفيروس. خريطة السفر تكتسي بهذه الألوان التي تشبه إشارة المرور، ومع اقتراب نهاية العام وأعياد الميلاد ورأس السنة، وهو عادة موسم للإجازات والسفر، عندما يتبادل الناس التهاني بالصحة والسلامة سيكون لهذه الأمنيات معنى أصدق وأعمق من ذي قبل، لن تكون مجرد كلمات فارغة نرددها بشكل تلقائي، بل أمنيات غالية فعلاً على القلب.
(*) نقلاً عن “الشروق”