“رسميا، ظهر الوباء في تونس يوم 2 مارس/آذار، وسرعان ما اتخذت عدة تدابير للحد من انتشاره. وفي 20 مارس/آذار، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد حجرا صحيا شاملا وحظرا للتنقل بين المدن. ويفترض هكذا إجراء قدرة المواطنين – المتفاوتة – على تحمله، وهو أمر لا يتناسب مع واقع أولئك الذين يحاولون العيش – أو البقاء على قيد الحياة – من خلال عملهم. فالعمل عن بعد ليس متاحا إلا في قطاعات محدودة، ولا يمكن تعميمه في بلد يعيش جل سكانه حالة عدم استقرار اقتصادي.
في خطابه يوم 21 مارس/آذار، أعلن رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ إجراءات اجتماعية لها ثلاثة أهداف: الأول هو ألا يقبع أي تونسي في حالة احتياج في هذه الظروف الاستثنائية، والثاني هو ألا يخسر أحد عمله، والثالث ألا تغلق أي مؤسسة اقتصادية والاستعداد لإنعاشها بعد أن تمر هذه الأزمة.
تقدر تكلفة هذه التدابير بـ300 مليون دينار (96 مليون يورو) بالنسبة للعاملين الذي يعانون من البطالة التقنية، و150 مليون دينار (48 مليون يورو) من المساعدات الاجتماعية للطبقات غير المستقرة وذات الدخل المحدود، وتأجيل سداد القروض البنكية لأصحاب الأجور الذين لا يتعدى دخلهم ألف دينار (319 يورو).
صحيح أنه تم تكميل وتوسيع هذه التدابير في وقت لاحق لا سيما من خلال الزيادة في الميزانيات المخصصة. كما أعلن رئيس الحكومة خلال حوار تلفزي له مساء يوم 19 أبريل/نيسان أن موجة ثانية من المساعدات ستطال العائلات والمتقاعدين ذوي الدخل المحدود بمناسبة حلول شهر رمضان. لكن هذه القرارات تبقى غير كافية. تشير ليلى الرياحي على الشبكات الاجتماعية – وهي عضو في “مجموعة عمل من أجل السيادة الغذائية” إلى البعد غير المتكافئ لهذه التدابير، فهي لا تشمل جزءا مهما من اليد العاملة، من بينهم العاملون في القطاع غير الرسمي،أي أكثر من نصف الإقتصاد التونسي، والمياومون، والعمال المؤقتون، وأصحاب الأجور الذين يخضعون لنظام عقد إعداد للحياة المهنية.
يصل تهميش هذه الفئات إلى حد أنه يصعب عليهم أحيانا أن يثبتوا وضعهم الاقتصادي أمام الإدارة العمومية. فالعديد من الأشخاص الذين لا يتمتعون بأجر مستقر ليسوا حتى موجودين في سجلات السلطات، وبهذا يصعب عليهم إثبات عدم استقرار وضعهم الاقتصادي والمطالبة بمنحة(…). المعضلة الأخرى هي نقص المواد الغذائية الأساسية، والسبب في هذا لا يختزل في التسوق القهري الذي رافق حالة الهلع التي شهدها العالم بأسره، بل إن المضاربة ساهمت كثيرا في ذلك. وقد أعلن إلياس الفخفاخ في خطابه يوم 21 مارس/آذار أن المضاربين -الذين وصفهم بـ”مجرمي الحرب” – سيتعرضون إلى المقاضاة.
برغم ذلك، فإن الحل الجنائي وحده لا يكفي أمام هذا الموقف. ويبقى توزيع السميد وغيره من المواد الغذائية الحيوية غير متكافئ البتة. فبينما تشهد المدن الكبرى المتواجدة على الشريط الساحلي تموينا يكاد يكون عاديا، يختلف الأمر بالنسبة للمدن والأحياء والقرى الطرفية والتي توجد على هامش دائرة التموين. ففي المناطق القابعة تحت فقر متواصل، صورت مشاهد نشرت على الشبكات الاجتماعية تفضح البؤس الاجتماعي المدقع الذي يعيشه سكان يسعون جاهدين للحصول على غذاء. وتظهر في هذه المشاهد مجموعة من سكان الأحياء الشعبية والمناطق الطرفية للوسط الغربي للبلاد وهم يتدافعون للحصول على كيس من السميد. أما في القرى الحدودية بالشمال الغربي والتي تعتمد على دوائر تموين المدن المجاورة، فقد أدى حظر التنقل بين المدن إلى نقص في الموارد الغذائية، ما أسفر عن حركات احتجاجية. وقد شهدت أحياء شعبية في العاصمة نفسها مثل حي الانطلاقة في تونس إحتجاجات مماثلة.
يشير وليد بسباس إلى ضعف المشاركة المالية والاقتصادية للقطاع الخاص في تونس. فالقيمة المضافة تحتكرها بضعة بنوك وشركات خاصة، ما يقود إلى وضعية أشبه بسيطرة قطب معين من الأقلية الغنية، وهو أمر يعارضه حتى من هم “فوق”
تطبيق تدابير الحجر الصحي ليست بالسهلة بالنسبة لأصحاب الأجور، بعد أن أعلنت الحكومة تعليق جميع الأنشطة “غير الحيوية”، إذ صرّح إلياس الفخفاخ: “مليون ونصف تونسي سيعملون للعشرة ملايين الآخرين”. برغم ذلك، فإن آلاف العاملين في قطاعات “غير حيوية” مجبرون على مواصلة الذهاب إلى مكان عملهم. فقد تجاهل عدد مهم من المؤسسات الحجر الصحي وفرض على العاملين مواصلة الإنتاج، مهددا إياهم بعدم دفع الأجور أو حتى بالطرد. ومن بين هذه المؤسسات نجد مراكز الاتصال حيث يواصل آلاف المستشارين عن بعد مباشرة عملهم، خلافا لبعض المراكز الكبرى التي وضعت بمعية النقابات منظومة للعمل عن بعد.
هذه المؤسسات توفر معظم خدماتها للسوق الفرنسية، وهي تتمتع بسياسة مالية لصالحها وبفائض القيمة الذي تمثله يد عاملة مؤهلة وزهيدة الأجر، مقارنة ببلد المؤسسة. ويشغل هذا القطاع 30 ألف شخصا، وهو مثال لما يقوم به الاقتصاد التونسي لجلب المؤسسات الأجنبية لكن الاشتراك النقابي في صفوفه ضعيف. أما هذه المؤسسات، فتواصل إجبار العاملين بها على توفير خدمة ما بعد البيع والمساعدة التقنية عن بعد لأسواق غير تونسية، وهي بذلك تخرق تدابير الحجر الصحي دون أن يكون في ذلك توفير لاحتياجات داخلية – حيوية كانت أم لا.
كما تحاول مؤسسات أخرى من القطاع الخاص فرض مواصلة نظام إنتاجها العادي، مثل مصانع البسكويت والمقاولة الفرعية، والشركات أو الورشات التابعة لشركات متعددة الجنسية لا سيما في مجال صناعة السيارات (…).
في مقال له على موقع نواة بتاريخ 3 أبريل/نيسان، يشير وليد بسباس إلى ضعف المشاركة المالية والاقتصادية للقطاع الخاص في تونس. فالقيمة المضافة تحتكرها بضعة بنوك وشركات خاصة، ما يقود إلى وضعية أشبه بسيطرة قطب معين من الأقلية الغنية، وهو أمر يعارضه حتى من هم “فوق”.
على هامش اجتماع مجلس الأمن القومي في 31 مارس/آذار، حث رئيس الجمهورية قيس سعيد الحكومة على “أخذ المال حيث يوجد”. وقد ذكر بتدابير لإعادة توزيع الثروات كان قد اقترحها خلال حملته الانتخابية، من بينها وضع لائحة لرجال الأعمال “الأكثر فسادا” وإجبارهم على تمويل مشاريع لبنى تحتية عمومية في المناطق الأكثر تهميشا.
تمثل الأزمة الصحية لفيروس كورونا معضلة مرتبطة بمسالة السياسات الاقتصادية. وهي تفضح بالنسبة للحكومة كما بالنسبة لمعارضيها أعطال “نموذج التنمية” والتمويل والخدمات العمومية، والتي تراجعت بسبب سياسات التقشف التي فرضتها الجهات الدولية المانحة. لكن طريقة رسم الوضع تختلف من جهة إلى أخرى. فقد أكد وزير المالية محمد نزار يعيش على الضرورة الملحة للإصلاحات البنيوية كإصلاح طريقة محاسبة الإنفاق العام وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تعاني من عجز في الميزانية واحتواء القطاع غير الرسمي.
على يسار الحكومة، قدم كل من حمة الهمامي وعزيز كريشان – وهما شخصيتان تاريخيتان من اليسار التونسي – مقترحات اقتصادية عملية. إذ اقترحا في رسالة مفتوحة لرئيس الجمهورية جملة من التدابير الاقتصادية، من بينها ضريبة استثنائية على الأرباح الكبرى، وتأجيل سداد الدين العمومي الخارجي، وتعليق تحويل الأرباح السنوية للشركات الأجنبية المستقرة في تونس.
في مقال لها نشر في 7 أبريل/نيسان على موقع نواة، تدعو ليلى الرياحي لتدابير تعتبرها “ركائز اقتصاد سيادي”. ويحتاج تطبيقها إلى الاعتراف الكامل بالقطاع غير الرسمي واحتوائه في نظام التأمين الاجتماعي، وكذلك إنقاذ القطاع الفلاحي، إذ تقول: “عمليا، يعني دعم الإنتاج تحرير النقد للمنتجين، وذلك من خلال تأجيل الديون الفلاحية والديون عند شركة توزيع الكهرباء (خاصة بالنسبة لمجموعات التنمية الزراعية)، وإعادة النظر في سعر الحبوب وتحديد أسعار المنتجات الطازجة على مستوى المزرعة، من خلال ضمان هامش كاف للمنتج، وأخيرا إعادة النظر في مخطط التشجيع على الاستثمار من خلال المراهنة على السوق المحلية والفلاحة المعيشية”.
إلى غاية 19 أبريل/نيسان، تعد تونس 879 حالة إصابة بفيروس كورونا و38 وفاة وبرغم نجاعة نسبية للتدابير الوقائية التي اتخذتها الحكومة، سيتوجب عليها بعد فترة معينة القيام بخيارات سياسية قاطعة، لا سيما حول مسألة إعادة توزيع الدين العمومي”.
(*) النص كاملاً على موقع “أوريان 21”: https://orientxxi.info/magazine/article3817