

لم يعد ثمة حاجة لحبس الأنفاس. فقد انتهت قمة آلاسكا بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في قاعدة المندورف ريتشاردسون الجوية الأميركية، من دون اختراق، لكن من دون إخفاق كامل في الملف الروسي الأوكراني، وإلا لما كانت استمرت القمة ثلاث ساعات، ولكان الجانب الأميركي أعلن ذلك بوضوح.
حرص ترامب على معاملة ضيفه على الأرض الروسية السابقة، بكل مظاهر التكريم، التي لا تنتقص من وضعية روسيا كدولة عظمى، على رغم تحفظ أوكرانيا والحلفاء الأوروبيين، الذين ما يزالون عند رأيهم بأن بوتين قادر على التلاعب بترامب. وكي يزيل الرئيس الأميركي أي لغط، حوّل القمة من ثنائية إلى ثلاثية، من كل جانب. ترامب ومعه وزير الخارجية ماركو روبيو والمبعوث الرئاسي الخاص ستيف ويتكوف، بينما اصطحب بوتين وزير الخارجية سيرغي لافروف ومستشاره يوري أوشاكوف.
ولم تتسع الطاولة، لا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ولا للقادة الأوروبيين. هكذا هو شأن الرؤساء الأميركيين من أيام وودرو ويلسون، الذي صاغ معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، ومع الرئيس فرنكلين روزفلت قسّم مع الزعيم السوفياتي جوزف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في منتجع يالطا، النفوذ في عالم ما بعد ألمانيا النازية التي كانت في طريقها إلى الهزيمة. بينما الرئيس هاري ترومان الذي خلف روزفلت بعد وفاة الأخير قبل انتهاء الحرب، فقد ناقش وستالين وتشرشل في بوتسدام، النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية. في تسعينيات القرن الماضي، تُذكّر صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بالدور الرئيسي الذي اضطلع به المبعوث الأميركي ريتشارد هولبروك في المفاوضات، التي أدت إلى وضع حد للحرب في يوغوسلافيا السابقة.
وهذا هو ستيف ويتكوف مبعوث ترامب، يضطلع بهندسة قمة آلاسكا، بينما يهيمن القلق على أوكرانيا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، من يالطا جديدة أو ما هو أسوأ بتكرار تجربة مؤتمر ميونيخ لعام 1938 الذي تخلت فيه فرنسا وبريطانيا عن منطقة السوديت في تشيكوسلوفاكيا السابقة، التي كانت من مقدمات الحرب العالمية الثانية.
توقف كثيرون عند اختيار ترامب لآلاسكا مكاناً للقمة الأولى بين رئيس أميركي ورئيس روسي منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط/فبراير 2022. آلاسكا باعتها روسيا القيصرية للولايات المتحدة الأميركية بـ 50 مليون دولار، لأن القيصر ألكسندر الثاني كان يرزح تحت عبء مالي ثقيل بفعل خسارته الحرب في القرم أمام التحالف العثماني-البريطاني-الفرنسي.
إذن اختيرت آلاسكا للبعث برسالة إلى زيلينسكي، بأن تبادل الأراضي، يكاد يكون المخرج المتوافر حالياً لوقف الحرب. وبعد القمة ألقى الرئيس الأميركي الكرة في ملعب الرئيس الأوكراني، قائلاً إن “الأمر الآن يقع على عاتق الرئيس زيلينسكي”.
مأخذ الأوروبيين على ترامب، أن روسيا التي لا يتجاوز إجمالي ناتجها القومي إجمالي الناتج القومي لدولة هولندا، لم تعد تستحق معاملة الدولة العظمى، التي يجب أن يكون لها تأثير على ما حولها من الدول، بل يتحتم منعها من العودة إلى استعادة “روسيا العظمى”. ثم أن أوكرانيا، أمست بالنسبة لأوروبا خط الدفاع الأول عن أوروبا الشرقية والبلطيق، وبأن بوتين لن يتوقف إذا سقطت أوكرانيا.
يقر ترامب الآن بأن الحرب الروسية-الأوكرانية هي الأكثر تعقيداً، وهي التي تحول بينه وبين الحصول على جائزة نوبل للسلام التي تشكل هاجساً حقيقياً له. وقبل قمة آلاسكا بيومين، فاجأ ترامب وزير المال النروجي ينس ستولتنبرغ باتصال هاتفي، ليسأله عن الجائزة. ويقول جون بولتون أحد مستشاري ترامب للأمن القومي في ولايته الأولى: “إنه (ترامب) يريد جائزة نوبل للسلام. أعتقد أن الجميع يقرون الآن بأن هذه ما يُحرّكه”
أما ترامب فلا ينظر إلى أوكرانيا بهذه الأهمية، ويرى من الأساس أن مسألة انضمامها إلى الأطلسي، ما كان يجب أن تطرح، ولذلك، يؤكد أنه لو كان في البيت الأبيض عام 2022، لما اندلعت “حرب بايدن”، نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.
فوق هذا وذاك، يطرح ترامب نفسه على أنه “رئيس السلام”. وعشية القمة، ذكّر بأنه أوقف ستة حروب: بين إيران وإسرائيل، والهند وباكستان، ورواندا والكونغو الديموقراطية، ومصر وأثيوبيا، وكمبوديا وتايلاند وأرمينيا وأذربيجان. ويقر ترامب الآن بأن الحرب الروسية-الأوكرانية هي الأكثر تعقيداً، وهي التي تحول بينه وبين الحصول على جائزة نوبل للسلام التي تشكل هاجساً حقيقياً له. وقبل قمة آلاسكا بيومين، فاجأ ترامب وزير المال النروجي ينس ستولتنبرغ باتصال هاتفي، ليسأله عن الجائزة. ويقول جون بولتون أحد مستشاري ترامب للأمن القومي في ولايته الأولى: “إنه (ترامب) يريد جائزة نوبل للسلام. أعتقد أن الجميع يقرون الآن بأن هذه ما يُحرّكه”.
أن يجد ترامب نفس في وطيس هذه الحروب الدائرة، ويعمل على إيجاد الحلول بصفته “شرطي العالم”، وفق ما يصفه ويتكوف، فإن ذلك يتناقض ظاهرياً مع سياسة “أميركا أولاً”، التي رفعها الرئيس الأميركي في ولايتيه، ويتلقى سيلاً من الانتقادات من داخل قاعدة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا). لكنه يجيب على ذلك، بأن التدخلات الأميركية لإنهاء الحروب ترتبط مباشرة بتوصل أميركا إلى اتفاقات تجارية.
هذا ما حصل في اتفاق المعادن مع أوكرانيا، وفي اتفاق مشابه مع الكونغو الديموقراطية، وهذا ما حصل في الاتفاق بين أرمينيا وأذربيجان، عندما وقّعت واشنطن ويريفان على اتفاق تتولى بموجبه الولايات المتحدة استثمار “ممر زنغزور” الأرميني الذي يصل بين أذربيجان وجيب ناخيتشفان الآذري، الواقع على مثلث بين أرمينيا وتركيا وإيران. ومجرد أن تتولى شركة أمنية أميركية الإشراف على تشغيل الممر الذي بات اسمه “ممر ترامب للسلام والازدهار”، فإن ذلك يفصل إيران براً عن أوروبا. كما يؤشر إلى تنامي النفوذ الأميركي في جنوب القوقاز، ليس على حساب إيران وروسيا فحسب، وإنما على حساب تركيا أيضاً.
ويسعى ترامب الآن، إلى اغراء روسيا باتفاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة، إذا وافقت على وقف النار في أوكرانيا.
الآن، ليس في يد زيلينسكي الكثير من الأوراق، ويتوقف الكثير على الاجتماع الذي سيعقده مع ترامب في واشنطن غداً الإثنين لعرض نتائج قمة آلاسكا. والوضع الميداني في الأيام التي سبقت القمة وتخللتها أظهر اندفاعاً روسياً في منطقة دونيتسك، مما عزّز وضعية بوتين على الطاولة.
أكثر ما يقلق الأوروبيين، هو ما يرونه من تماثل في “الذهنية الإمبريالية” بين ترامب وبوتين، وفق صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، التي أشارت إلى تكرار الرئيس الأميركي منذ عودته إلى البيت الأبيض، رغبته في ضم كندا وجعلها الولاية الأميركية الـ51، وفي بسط السيطرة على قناة بناما وجزيرة غرينلاند الدانماركية. وفوق هذا، تجلت الميول الإمبريالية وتقديس الشخصية لدى ترامب في العرض العسكري الذي أقامه في مناسبة ذكرى ميلاده الـ79، ولو استخدم الذكرى الـ250 لإنشاء الجيش الأميركي.
هذا التشابه في التفكير والسلوك بين ترامب وبوتين، يقض مضاجع أوكرانيا وأوروبا، ويثير أكثر من تساؤل حول ماهية التسوية التي تتطبخ الآن بين الرجلين. ومن الأهمية بمكان طرح السؤال حول المقابل الذي سيحصل عليه ترامب من إعادة الاعتبار في الساحة الغربية لبوتين؟