يالطا جديدة على أبواب الشرق الأوسط.. آلاسكا ترسم الخرائط

إذا صحّ أنّ قمة آلاسكا أرست تفاهمات أبعد من أوكرانيا، فإن الشرق الأوسط يصبح ساحة الاختبار الحاسمة لمدى صلابة أي “تقاسم نفوذ مرّن” مُرتقب بين واشنطن وموسكو. جوهر المشهد أنّ القوى الإقليمية الأربع الأكثر تأثيراً (إيران، تركيا، إسرائيل، ومنظومة الخليج) لن تتلقّى الخرائط الجديدة بصورة سلبية، بل ستسعى إلى إعادة التموضع على خطوط تماس الطاقة والأمن والممرات البحرية، مع أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب، وبأقل قدر ممكن من الاصطدام المباشر مع الرعاة الدوليين.

بالنسبة إلى إيران، تبدو اللحظة مناسبة لتثبيت ما تعتبره “عوائد الاستثمار” من انخراطها الطويل في ساحات المشرق. وأي تفاهم أميركي–روسي يخفّض شهية التصعيد المباشر في أوكرانيا يتيح لطهران توسيع استخدام أدوات الضغط غير المُتماثل: عمق صاروخي، مسيّرات حربية، حضور سياسي–أمني في العراق وسوريا ولبنان، وقدرة على التأثير في أمن الممرات البحرية من الخليج إلى باب المندب. ما تطلبه طهران، ضمناً، ليس اعترافاً علنياً بنفوذها بقدر ما هو “حق الفيتو” في ملفات تمسّ أمنها القومي. وأبرز هذه الملفات: طبيعة الوجود الأميركي في العراق وشرق سوريا، قواعد الاشتباك حول الجولان والجنوب السوري، وعتبة الردع المتبادل مع إسرائيل. في بيئة “هدنة كُبرى” بين واشنطن وموسكو، ستختبر طهران هامش الحركة عبر آليتين: مفاوضة صامتة على قواعد إدارة التصعيد، وتكريس شبكة اقتصادية شرقية تُقلّل قابلية الضغط بالعقوبات إلا إذا قرّر الروس الإنخراط مع الأميركيين في مرحلة ما بعد تسوية الأزمة الأوكرانية. لكن الهامش الإيراني ليس بلا سقف؛ فأي تجاوز لخطوط تتعلق بأمن الطاقة أو الملاحة قد يدفع واشنطن وتل أبيب إلى تصعيد موضعي “مُعلَّب” لا ينسف التفاهم الدولي لكنه يعيد ضبط سرعة التمدّد ضمن الهامش الإيراني.

***

تدخل تركيا هذه المعادلة باعتبارها الطرف الأكثر براعة في “اللعب المزدوج”. أنقرة؛ التي راكمت نفوذاً صلباً في شمال سوريا وتموضعت كعقدة نقل للطاقة والقمح والتصنيع الدفاعي؛ سترى في أي تفاهم أميركي–روسي فرصة لتوسيع حيّز المناورة: تفاهمات أمنية دقيقة مع موسكو حول إدلب وتل رفعت ومنبج، مقابل تفاهمات قابلة للترجمة مع واشنطن في ملف “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وحدود دعمها. رهان تركيا أن تُقايِض ملف الشمال السوري، وعمقها الأمني في العراق، بتمريرات في شرق المتوسط والبلقان والبحر الأسود. ولأن أنقرة باتت – أيضاً – لاعباً في سوق المسيّرات الحربية، وفي إعادة تصدير الغاز، فهي تسعى إلى تثبيت دور “الموازن الثالث” الذي يمنع أي طرفين من احتكار القرار. التحدّي التركي سيكون داخلياً وخارجياً: اقتصاد يحتاج إلى هواء إضافي، وخط تماس مع روسيا في البحر الأسود لا يسمح بهوامش أخطاء كبيرة.

***

إسرائيل، من جهتها، تقرأ قمة آلاسكا من زاوية مروحة ردع متعدّدة الحلقات: إيران وحلفاؤها، الجبهات المتآكلة في سوريا ولبنان وغزة، والغطاء الاستراتيجي الأميركي. ما يهم تل أبيب من “يالطا آلاسكا” ليس الاعتراف بدورها (المُسلّم به) بل تثبيت قواعد اشتباك تسمح باستمرار “المعركة بين الحروب” ضدَّ التموضع الإيراني في سوريا ومنع تحوّل الجبهة الشمالية إلى منصة تهديد. في المقابل، ستسعى إسرائيل إلى ترميم دوائر التطبيع والربط الاقتصادي–الأمني مع الخليج وشرق المتوسط، واستغلال أي هدوء نسبي لتطوير مظلة دفاع جوي–صاروخي إقليمية بتمويل جزئي عربي وبرعاية أميركية، مع إبقاء باب المقايضات مفتوحاً: تخفيف ضغط في غزة أو دفعات اقتصادية مقابل مكاسب أمنية في الشمال والشرق. هشاشة هذا المسار تكمن في أنّ أي خطأ تقدير على الحدود اللبنانية–الفلسطينية، أو في عمق سوريا، قد يفتح نافذة تصعيد أسرع من قدرة الوسطاء على إغلاقها.

***

تدخل المنظومة الخليجية مرحلة ما بعد قمة آلاسكا وهي أقل ارتهاناً وأكثر تعددية في شراكاتها. تعلم السعودية والإمارات وقطر والكويت وعُمان والبحرين أن مركز الثقل الأميركي باقٍ، لكنهم أيضاً اختبروا فائدة “توزيع المخاطر” عبر علاقات عملية مع الصين وروسيا وتركيا، مع إبقاء بوصلات الطاقة بأيديهم من خلال سياسات “أوبك بلاس” واستثمارات الغاز والهيدروجين. ما تريده العواصم الخليجية من “يالطا آلاسكا” هو ثُلاثية واضحة: ضمانات صلبة لأمن الملاحة من هرمز إلى باب المندب، سقف توتّر مضبوط مع إيران يُتيح استمرار مشاريع التحول الاقتصادي، ومساحة مناورة سياسية تمكّنها من لعب دور الوسيط والمُستَثّمر في آن. في ظلّ هذه الشروط، قد نشهدُ هندسة أمنية “طبقية”: مظلة أميركية عُليا، شبكات إنذار وقيادة وسيطرة مشتركة مع إسرائيل عند الحاجة، وقنوات خفض تصعيد مفتوحة مع طهران برعاية موسكو أو بكين.

***

إيران تريد تثبيت ما تعتبره “عوائد الاستثمار” من انخراطها الطويل في ساحات المشرق.. وتركيا تراهن على مقايضة ملف الشمال السوري وعمقها الأمني في العراق بتمريرات في شرق المتوسط والبلقان والبحر الأسود.. وإسرائيل يهمها تثبيت قواعد اشتباك تسمح باستمرار “المعركة بين الحروب” ضدَّ التموضع الإيراني في سوريا ومنع تحوّل الجبهة الشمالية إلى منصة تهديد.. أما المنظومة الخليجية فهمُّها أمن الملاحة، استمرار مشاريع التحول الاقتصادي، ومساحة مناورة سياسية تمكّنها من لعب دور الوسيط والمُستَثّمر في آن

تقاطعات هذه المربعات الأربعة ستنعكس مباشرة على الساحات الهشَّة:

– في لبنان، أي “هدنة كبرى” ستتعامل مع الجنوب كصندوق أسود: قواعد ردع تُضبط بلا إعلان، مقابل تيسير تدريجي لملفات الطاقة البحرية وتعويم اقتصادي محدود يمنع الانهيار الكامل من دون إنتاج إصلاح بنيوي.

إقرأ على موقع 180  لا توافق عربياً على عودة دمشق.. و"التسعة" يجتمعون في عمّان خلال أسبوع

– في سوريا، ستتكرّس خرائط نفوذ أمر واقع: شريط تركي–معارض في الشمال، روسي–إيراني في الغرب والوسط، وأميركي–كردي في الشرق، مع تفاهمات ممرّات إنسانية–أمنية تمنع الانفجار الكبير وتُبقي الدولة تحت “وصاية موزّعة”.

– في العراق، سيتواصل شد الحبال بين مركز يسعى إلى توازن مع واشنطن وطيف قوى متحالفة مع طهران، مع إدخال تركيا لاعباً أمنياً- مائياً أكثر حضوراً، فيما تُترك حكومة بغداد لإدارة التسويات المرهِقة بين أربيل والجنوب والحدود السورية.

– اليمن سيختبر وقفَ نارٍ مرناً يتأثر بسعر النفط أكثر مما يتأثر ببيانات السياسة.

***

خُلاصة الصورة أنّ “يالطا ألاسكا”- حتى لو بقيت غير مُعلنة التفاصيل- تدفع الشرق الأوسط نحو ثلاثة مسارات محتملة متداخلة:

1- تثبيت هدنة طويلة على خطوط التماس، تُدار عبر غرف أمنية واقتصادية مُتعددة الأطراف.

2- تفويض مُقنّن لوكلاء محليين بإدارة مناطق نفوذ مقابل ضبط إيقاع السلاح الثقيل والاقتصاد الرمادي.

3- تسخين محكوم عند اللزوم يُعيد ضبط الميزان حين تميل كفَّة طرف على حساب آخر.

وتتوقف قدرة المنطقة على الإفلات من مصير “الفُسيفساء الضعيفة” على عنصرين داخليين لا تعوّضهما أي مظلة دولية: بناء مؤسسات قادرة على تحويل التهدئة إلى إصلاح، وإنتاج طبقة قرار محلية تعرف كيف تقايض مصالحها الوطنية بمكاسب ملموسة لا بشعارات مؤقتة.

بهذا المعنى، لا يعود السؤال من سيخرج منتصراً من قمة بعيدة في صقيع آلاسكا، بل من سيتمكن من ترجمة الصقيع إلى جليد واقٍ لا إلى شلل دائم؛ ومن سيستثمر الهدنة في بناء قدرة ذاتية، لا في شراء وقت إضافي بمالٍ مستعار وأمنٍ مستعار وحدودٍ مرسومة بقلم غيره.

Print Friendly, PDF & Email
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "اللسانيّات الاجتماعيّة" في مقاربةٍ جديدة لهنري بوييه