برّاك يفاجئ بيروت: إيران شريكٌ وجارٌ في مسار التسوية اللبنانية!

من بيروت إلى تل أبيب، غادرنا الموفد الأميركي توم برّاك ترافقه شريكته في الملف اللبناني مورغان أورتاغوس. هناك سيحاول إقناع المسؤولين الإسرائيليين بما يسميها "هندسة الإلتزامات المتبادلة"، وبطبيعة الحال مع انحياز أميركي لم يعد خافياً على أحد لمصلحة وجهة النظر الإسرائيلية في ما يخص التعامل مع اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، على أن يحمل الرد الإسرائيلي إلى بيروت مجدداً قبل الأول من أيلول/سبتمبر المقبل.

شكّل الموقف الذي حمله الموفد الأميركي السفير توم برّاك في لقاءاته مع رؤساء الجمهورية جوزاف عون والمجلس النيابي نبيه بري والحكومة نواف سلام انتقالاً نوعياً من لغة “الإملاء” إلى لغة “الإدارة العملية للنزاع”. فالتوصيف الذي قدّمه للمرحلة الحالية، بوصفها “سياقاً عملياً” يتقدّم خطوة خطوة، يُعيد تموضع المقاربة الأميركية على أساس ثلاث ركائز مترابطة:

1- تثبيت القرار اللبناني بتنفيذ قرار حصرية السلاح (نزع سلاح حزب الله) كمنطلق؛

2- فتح حوار أميركي مُنظّم مع إسرائيل على قاعدة تبادلية لا أحادية فيها؛

3- إشراك إيران صراحة باعتبارها “جاراً” لا يمكن تجاوز دوره.

المفاجأة تمثلت في الركيزة الثالثة. إدراج طهران بهذه الصيغة ليس تفصيلاً خطابياً؛ إنه تعديل في قاموس الأزمة يُبدّل هندسة الطاولة: بدلاً من اشتراط تغيّرات أحادية داخلية في لبنان، يجري تصميم مسار مشروط متبادل يوزّع الأثمان والمكاسب على اللاعبين الإقليميين جميعاً، ويحوّل خطوط الاشتباك إلى خطوط تفاوض على ترتيبات أمنية-اقتصادية متدرجة.

في قلب هذا التحوّل، تبرز معادلة المقايضة الإيجابية: لا مكاسب بلا أثمان، ولا تنازلات بلا عوائد ملموسة. ربط برّاك أي نقاش حول سلاح حزب الله بمنظور مصلحي داخل الطائفة الشيعية، لا كاستهداف لها؛ وهذا يعني عملياً محاولة نقل الملف من خانة “نزع القدرات” إلى خانة “تحسين البدائل”. فبدلاً من سؤال “ماذا تُخرِجون من يد الحزب”؟ يصبح السؤال “أي منظومة حماية وتمكين تُقدّمون لبيئته”؟ عند هذه النقطة يتقدّم البُعد الاقتصادي من موقع الزينة إلى موقع المحرّك: شرحٌ مفصّل لما تعنيه التسوية للجنوب أولاً، إعمار، بنى تحتية، مناطق صناعية وخدماتية، عودة آمنة للنازحين داخلياً، تعويضات، ومن سيموّل، وكيف يُدار التمويل، وبأي تسلسل زمني ومؤشرات أداء وسياسات حوكمة تمنع التسرب والزبائنية. الحديث عن “خارطة طريق” لا يعود هنا شعاراً؛ بل حزمة عملياتية تتطلب صندوقاً دولياً تمويلياً موثوقاً، وإدارة تنفيذية مشتركة بين الحكومة اللبنانية ومؤسسات دولية، وضمانات أمنية تتيح للمستثمر المحلي والخارجي الدخول من دون مخاطر غير قابلة للتأمين.

المفاجأة ليست في اللغة الهادئة التي استخدمها الموفد الأميركي، بل في إعادة توزيع الأدوار: الدولة اللبنانية تقود وتشرح وتنفّذ؛ إسرائيل مدعوة لتبادلية لا يمكن القفز فوقها؛ إيران مُطالبة بالتصرف كـ”جار” يُشارك في خفض المخاطر؛ حزب الله أمام فرصة لإعادة صياغة وظيفته السياسية والاجتماعية داخل عقدٍ لبنانيٍّ مُحدّث

على الضفة المقابلة، يُخرج بّراك العلاقة مع إسرائيل من ثنائية “وقف-خرق” إلى هندسة التزامات متبادلة قابلة للقياس. التقدّم، وفق هذا المنطق، لا يُقاس بتصريح سياسي بل بسلسلة إجراءات: ضبط خطوط الاحتكاك، توسيع صلاحيات المراقبة والتوثيق، آليات فضّ نزاعات سريعة، تدرّج في تخفيف المظاهر العسكرية المقابلة، ويتوازى ذلك مع فتح ممرات اقتصادية وحدودية آمنة تعيد دمج الجنوب في دورة الاقتصاد الوطني والإقليمي.

لا حديث هنا عن اتفاق جديد بين لبنان وإسرائيل بقدر ما هو تفعيل لما هو قائم تاريخياً بروح مختلفة، تقطع مع سوء الفهم المتراكم وتضع بند “التعاون الإسرائيلي” المنصوص عليه في ورقة برّاك شرطاً موازياً لأي التزام لبناني.

المفاجأة الكبرى في خطاب برّاك كانت في ترسيم موقع إيران بوضوح: “جار” وشريك محتمل في ترتيبات التهدئة والازدهار. بهذا التعريف تنقلب معادلة الاستبعاد إلى معادلة الإدماج المحسوب: إشراك طهران، من دون منحها حق النقض (“الفيتو”)، ينزع الذرائع عن منطق “الحماية الخارجية” ويُحوّلها إلى التزام علني بكوابح التصعيد. كما يفتح قنوات لتفاهمات تقنية حول أمن الحدود والتهريب والطاقة والاتصالات العابرة، وهي ملفات تملك إيران فيها مفاتيح تأثير غير مباشرة عبر حلفائها. عملياً، هذا الإدراج يُخفّض كلفة الانخراط بالنسبة إلى حزب الله: بدل أن يبدو أي تغيير أحادي كتنازل مجاني، يصبح جزءاً من معادلة إقليمية أوسع تعِد بمكاسب ملموسة لبيئته وموقعه، وتُقدّم شبكة ضمانات داخلية وخارجية لمرحلة انتقالية في غاية الدقة والحساسية.

داخلياً، يُعطي برّاك غطاءً سياسياً للعمل الحكومي انطلاقاً من خطوة وُصفت بأنها “تاريخية”: تحويل القرارات الحكومية الأخيرة إلى فرصة لبناء مسار تفاوض منظم برعاية دولية، لا مجرد هدنة مؤقتة. هذا الأمر يضع رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء أمام استحقاق مزدوج:

أولاً؛ إنتاج إجماع لبناني عملي على تعريف “المكاسب” و”الأثمان” كي لا تتحول الخريطة إلى بازار مفتوح؛

ثانياً؛ بناء جهاز تنفيذي سريع يشبه “غرفة عمليات اقتصادية-أمنية” تترجم الخطوات إلى مشاريع وميزانيات وعقود، وتلائم التسلسل الذي تحدّث عنه الموفد الأميركي: من الشرح والتواصل، إلى التمويل، فالتنفيذ المتدرج، بالتوازي مع إجراءات تهدئة متبادلة على الأرض.

في النقطة الأخيرة، وحسب أجواء زيارة برّاك، تتقدّم الشفافية كشرط بديهي: من دون آليات رقابة مستقلة وجدول زمني معلن ومؤشرات أداء قابلة للتدقيق، ستُستنزف الثقة المحلية والخارجية قبل أن يصل أي دولار من الخارج إلى ورشة إعادة إعمار ما تهدم جرّاء الحرب الأخيرة.

إقرأ على موقع 180  الأجدر بنا أن نحكم على سجل بايدن.. لا ترامب!

أما على مستوى حزب الله، فإن الإشارة إلى أنه “جزء من الطائفة الشيعية” لم تكن تبسيطاً هوياتياً بقدر ما هي دعوة لإعادة تعريف المصلحة: “الخيار الأفضل ليس الذي يحافظ على أعلى مستوى من التسليح في ظل اقتصاد منهار، بل الذي يضمن شبكة حماية اجتماعية-اقتصادية قادرة على امتصاص الصدمات وتوفير أفقٍ لأجيال الجنوب”. في هذا الإطار، يصبح سؤال “من يحمي”؟ ملازماً لسؤال “بِمَ نعيش”؟ وحين تُقدَّم بدائل حماية مؤسساتية (جيش، قوى أمن، رقابة دولية) مع عوائد تنموية ملموسة، يصبح الانتقال من منطق السلاح إلى منطق المصلحة المشتركة أقل كلفة وأكثر قابلية للاستدامة.

يبقى أن مسار “الخطوة خطوة” الذي طرحه توم بّراك محكوم بمخاطر واضحة: أي تباطؤ إسرائيلي في إجراءات التهدئة سيُغذّي شكوك الداخل اللبنانيين ويعطي الرافضين حُججاً جاهزة؛ وأي مقاربة إقصائية لإيران ستُعيد تدوير منطق الوكالة والتصعيد. بالمقابل، أي استعجال لبناني في تقديم تنازلات بلا شبكة عوائد وضمانات سيُحوّل “الخطة” إلى ورقة ضغط داخلية تُضعف الحكومة وتُربك بيئة القرار. لذلك تبدو المعادلة دقيقة كالآتي: قرارات لبنانية محسوبة ومدعومة إجماعاً؛ خطوات إسرائيلية قابلة للقياس والرقابة؛ إشراك إيراني مضبوط الإطار؛ وتمويل دولي وعربي مشروط بحوكمة صارمة. من دون هذه الحلقات الأربع لن يكتمل الطوق ولن يستقر المسار.

في الاستنتاج، ما حمله توم برّاك إلى بيروت ليس “عرضاً نهائياً” بل إطار لعبة جديدة: الانتقال من ردع غير مستدام إلى توازن مصالح قابل للحياة.

المفاجأة ليست في اللغة الهادئة التي استخدمها الموفد الأميركي، بل في إعادة توزيع الأدوار: الدولة اللبنانية تقود وتشرح وتنفّذ؛ إسرائيل مدعوة لتبادلية لا يمكن القفز فوقها؛ إيران مُطالبة بالتصرف كـ”جار” يُشارك في خفض المخاطر؛ حزب الله أمام فرصة لإعادة صياغة وظيفته السياسية والاجتماعية داخل عقدٍ لبنانيٍّ مُحدّث.

إذا نجح هذا التوزيع في الأدوار ستتحول “الخطوة التاريخية” التي أُنجزت داخلياً إلى نقطة ارتكاز لسلامٍ اقتصادي ينعكس أولاً على الجنوب اللبناني، وإذا تعثّر سيعود الجميع إلى معادلة مكلفة جرّبتها البلاد طويلاً: هدنةٌ صورية بلا أفق، واقتصادٌ بلا مناعة.

وتبقى العبرة في التفاصيل التنفيذية التي ستُحسم في الأسابيع المقبلة، حيث سيُقاس الكلام بمسطرة الأفعال، وسيظهر إن كانت “المقايضة الإيجابية” قادرة فعلاً على إنتاج تسوية مستدامة أم ستبقى وعداً جميلاً على ورق.. لننتظر زيارات الموفدين الأميركيين للبنان وما سيواكبها من اتصالات إقليمية ودولية في الأسابيع المقبلة، وبينها احتمالات أن يكون ملف لبنان على جدول أعمال أي لقاء سعودي – إيراني، إذا نجحت المحاولة للوصول إليه.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عوْدٌ على بَدْء.. كلّن يعني كلّن! (1)