بسبب النظام المغلق في كوريا الشمالية، لا أحد خارج البلاد، أو حتى داخلها، يستطيع أن يحدّد، ولو بدرجة قليلة من الدقة، ماذا يحدث خلف كواليس الستار الحديدي لنظام عائلة كيم.
قد يكون الزعيم الشاب قد مات فعلياً أو اكلينيكياً، أو ربما قد تعرّض لوعكة صحية ما، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون على قيد الحياة أكثر من جميع الأحياء في كافة أنحاء المعمورة.
ومع ذلك، فإن الضباب الذي يلف المشهد الكوري الشمالي، كان كفيلاً بإثارة موجة من التكهنات حول “الرفيق كيم”، ومستقبل الحكم في هذا البلد الذي استعصى فهمه على كل أجهزة الاستخبارات في العالم.
موجة التكهنات تلك لها ما يكفي من عناصر تقرّبها من اليقين، بقدر ما لها من عناصر أخرى تجعلها مجرّد شائعة كاذبة، أو ربما مبالغ فيها، تلقفتها وسائل الإعلام كافة، وأخذت ترصد كل ما يدور حولها، علّها تتمكن من فك لغزها.
الاختفاء – اللغز
بداية القصة وحدها كفيلة بطرح الشكوك. في 12 نيسان/ابريل، نشرت صحيفة “ديلي إن كيه” الكورية الجنوبية خبراً مستنداً إلى مصادر مجهولة، ومفاده أن كيم جونغ أون أُجريت له جراحة في القلب نُقل على اثرها إلى فيللا خاصة خارج بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية.
بالرغم من أن خبراً كهذا، بالمعايير الصحافية، لا يرقى إلى درجة معقولة من الحقيقة المثبتة، فإنّ وسائل إعلام غربية تلقفته، وأخذت تطوّره ضمن مروحة من الاحتمالات “المؤكدة” تراوحت بين القول إن “ملك نجمة الصباح” (اللقب الذي منح له من قبل والدته) في “خطر شديد”، وبين التأكيد على أنه توفي فعلاً، وأن ثمة إرباكاً في منظومة الحكم الكورية يحول دون الإعلان الرسمي عن “النبأ الحزين”.
ثمة تفاصيل من شأنها أن تدعّم هذه الأنباء، أبرزها على الإطلاق غياب كيم جونغ أون عن الاحتفال الرسمي بعيد ميلاد جدّه كيم ايل سونغ، مؤسس كوريا الشمالية، وهي المناسبة الوطنية الأبرز، ويُطلق علها “عيد الشمس”.
ثمة تفصيل دقيق ضمن هذا التفصيل نفسه، ولم تبرّزه وسائل الإعلام التي تداولت الخبر، وهو أن كوريا الشمالية قلّصت الاحتفالات الرسمية في البلاد على خلفية الإجراءات المتخذة لمكافحة انتشار فيروس “كورونا”.
الأمر ذاته تكرّر قبل يومين، حين غاب كيم جونغ أون أيضاً عن الاحتفالات الرسمية بذكرى تأسيس الجيش الوطني لكوريا الشمالية، مع إشارة إضافية، قد تكون مفيدة أيضاً، وهي أن “الرفيق كيم” سبق أن غاب عن هذه الاحتفالات خلال العام الماضي.
يمكن إضافة المزيد من المؤشرات التي يمكن أن تعزز التكهنات، من بينها الخبر الذي أوردته وكالة “رويترز” حول زيارة قام بها وفد من الإطباء الصينيين، بجانب دبلوماسيين وحزبيين رفيعي المستوى، إلى بيونغ يانغ خلال الأيام الماضية، ورصد بالأقمار الاصطناعية للقطار الشهير الخاص بعائلة كيم متوقفاً منذ أسبوع في منطقة ساحلية.
صحة “الزعيم” قبل الاختفاء
يجمع المراقبون أن كيم جونغ أون لا يزال صغيراً لكي يتعرّض لمضاعفات صحية، مقارنة بوالده أو جدّه في آخر سنوات حكمهما، فهو في العقد الثالث من عمره (36 عاماً بحسب ما هو معروف)، وكقائد للبلاد لديه إمكانية الحصول على العناية الطبية العالية الدرجة، إن على أيدي متخصصين من أبناء بلده أو آخرين من الصين الحليفة.
ومع ذلك، يُعرف عن كيم جون أون أنه مصاب بالسكري الوراثي الذي اكتسبه من ابيه كيم جونغ ايل وجدّه كيم ايل سونغ، وقد واجه بسبب هذا المرض مشكلة في ساقيه منذ الطفولة، كما يتضح من أحذيته، التي يرجعها البعض بشكل خاطئ إلى رغبته في الظهور أطول.
ومع أن امتلاء جسمه يعيده البعض إلى شراهته في الطعام – اكتسب كيلوغرامات إضافية منذ توليه الحكم في العام 2011 – إلا أنه سببه في حقيقة الأمر يكمن في خلل في الغدد الصماء، بحسب ما يؤكد عدد من المختصين.
مع ذلك، فإنّ مقرّبين من الزعيم الكوري الشمالي يشيرون إلى ان أسلوب الحياة الصحي الذي يعتمده يعاني من عيب شديد يتمثل في العمل الدائم في ظروف عصبية بجانب التدخين (يُقال أنه يشرب 60 سيجارة يومياً كمعدّل وسطي)، وهي من العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى مشاكل في القلب إذا ما أضيف إليها مرض السكري الوراثي، وإن كان الأمر لا يعني بالضرورة أنها تشكل خطراً مؤكداً يؤدي إلى الوفاة في هذه السن المبكرة.
ما بعد الاختفاء
عاجلاً ام آجلاً ستنجلي الحقيقة، إمّا بظهور كيم جونغ اون علناً في مناسبة وطنية (مع الإشارة إلى أن وكالة الأنباء الكورية الشمالية تحدثت خلال الأيام الماضية عن رسائل بعث بها إلى شخصيات دولية من بينها الرئيس السوري بشار الأسد)؛ وإمّا بظهور إحدى المذيعات على شاشة التلفزيون الرسمي في حالة بكاء هستيري لتنعي “الزعيم المحبوب”.
وأياً كان الأمر، فإنّ مجرّد الحديث عن احتمال وفاة كيم جونغ اون يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن سبل انتقال السلطة في هذا البلد ذي النظام السياسي الغامض.
قبل عشرة أعوام، كان من السهل التوقع بأنّ كيم جونغ ايل سيورّث الحكم إلى ابنه الأصغر، تماماً كما ورث هو الحكم من والده كيم إيل سونغ.
في تلك الفترة، كان الرئيس الأب قد أدرك أن أيامه باتت معدودة، بعدما تدهورت صحته بشكل تدريجي منذ اصابته بجلطة دماغية في العام 2008، فجاء انعقاد المؤتمر العام لـ”حزب العمال” الحاكم، وعلى جدول أعماله اختيار أعضاء الهيئات القيادية العليا في كوريا الشمالية – إلى جانب المصادقة على عدد من التدابير التي تندرج في ما يمكن وصفه بـ”الإصلاحات الاقتصادية”- ليشي بأنّ مرحلة كيم جونغ أون اوشكت على الانطلاق.
في الواقع، كان اختيار كيم جونغ اون متوقعاً حينها إلى درجة تقترب من اليقين، باعتبار أن “الابن هو سر أبيه”، وفق شهادة طباخ السوشي الياباني في القصر الرئاسي الكوري الشمالي كينجي فوجيموتو (اسم مستعار)، الذي روى في كتابه “كنت طباخ جونغ ايل” إن جونغ اون “نسخة طبق الأصل عن والده، إذ يشبهه في الوجه والجسم والشخصية” (وهو ما تأكد لاحقاً مع نشر أولى الصور الرسمية للقائد الجديد)، علاوة على عدم تأثره بالثقافة الغربية برغم دراسته الجامعية في مدينة برن السويسرية.
هذه الميزات لم تكن متوافرة في ابني كيم جونغ إيل الآخرَين، وهما كيم جونغ نام (الابن الأكبر) الذي تردد انه كان خياراً محتملاً لو لم يُبدد صفة “القائد الشيوعي” عام 2001، حين حاول الدخول إلى اليابان بجواز سفر مزيف ليقوم بجولة في “ديزني لاند”، ما استدعى توقيفه وترحيله إلى الصين، ليتخذ إثر ذلك صورة الشاب الطائش والمقامر، بعدما شوهد أكثر من مرّة في كازينوهات مدينة ماكاو؛ وكيم جونغ تشول (الابن الأوسط) الذي تردد حينها أن اسمه لم يكن مطروحاً بالأساس بالنظر إلى افتقاده لميزات “القائد السماوي”، بعدما سرت شائعات عن إدمانه على المخدرات، وأخرى عن أنه يعاني من اضطرابات في الهرمونات الذكورية، حتى أن فوجيموتو أشار في كتابه إلى أنه كان يبدو “أشبه بفتاة”.
مجرّد الحديث عن احتمال وفاة كيم جونغ اون يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن سبل انتقال السلطة في كوريا الشمالية
وأياً تكن الحال، فإنّ توريث الحكم هذه المرة قد ينطوي على تحديات كبيرة، خصوصاً مع تحييد الشقيقين، إذ أن الأكبر قد توفي مسموماً في مطار كوالالامبور عام 2017 (قيل أن الجريمة تمت بأمر من كيم جونغ اون ولكن لم يتم التوصل إلى دليل على ذلك)، كما أن الأوسط مستبعد تماماً عن دائرة الحكم منذ فترة طويلة.
علاوة على ذلك، يبقى من الصعب إيجاد شخص من الرعيل العائلي السابق (جيل كيم جونغ ايل) لتولي الحكم ذلك أن تشان سونغ تيك، زوج عمة الزعيم الحالي، الذي كان أحد المسؤولين الأكثر نفوذاً اُعدم في العام 2013 بتهمة الخيانة، في حين أن عمه كيم بيونغ إيل ظل بعيداً عن دائرة الحكم، بعدما خدم لعقود طويلة في النشاط الدبلوماسي في أوروبا.
كذلك، فإنّ فكرة توريث الحكم لأحد أبناء كيم جونغ اون في الوقت الحالي تبقى خياراً صعباً، ذلك أن أكبرهم لا يتجاوز العشر سنوات من العمر، وبالتالي فهو غير مؤهل للحكم، إلا في حال توافر الوصي على العرش.
كيم يو جونغ الأوفر حظاً… ولكن!
انطلاقاً من ذلك، وأخذاً في الحسبان أن “الافتراض الرئيسي هو أن هذا سيكون أحد أفراد الأسرة”، حسبما صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبراين مؤخراً، تبقى كيم يو جونغ، الشقيقة الصغرى لكيم جون أون، الأوفر حظاً لتولي الحكم.
المرأة الثلاثينية (مواليد العام 1987) لم يشاهدها الكوريون الشماليون إلا في نهاية عام 2011، خلال جنازة والدها كيم جونغ ايل، وقد ظهرت حينها بجوار شقيقها، ولكن اسمها بدأ يتردد في وسائل الإعلام الكورية الشمالية بعد عامين ونصف العام، عندما ظهرت إلى جانب كيم جونغ أون في أحد جلسات التصويت لمجالس الشعب، ثم ذكرها الصحافيون بأنها “مسؤولة رفيعة المستوى” في اللجنة المركزية لحزب العمال الكوري.
أما المجتمع الدولي، فقد تعرّف إلى السيدة كيم في شتاء عام 2018، على هامش “المصالحة الأولمبية” بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، لتحصد تزامناً مع هذا الحدث سلسلة كاملة من المناصب، أهمها منصب المبعوثة الرئاسية إلى سيول، وهو ما أهلها لمرافقة شقيقها إلى القمتين اللاحقتين بين كيم جونغ أون ودونالد ترامب في سنغافورة وهانوي، وصارت تُعد الشخص الثاني تقريباً في البلاد.
فكرة “المرأة القائدة” في كوريا الشمالية ليست محبّذة
لكن انتقال السلطة إلى كيم يو جونغ لن يكون بتلك البساطة التوريثية، ذلك أن فكرة “المرأة القائدة” في كوريا الشمالية ليست محبّذة.
صحيح أن نساء أخريات من عائلة كيم ارتقين لفترات طويلة إلى مكانة عالية في الأساطير الثورية لكوريا الشمالية، وخاصة كانغ بان سوك (والدة كيم إيل سونغ) وكيم جونغ سوك (زوجة كيم إيل سونغ ووالدة كيم جونغ إيل)، إلا أن النظام الأبوي والتسلسل الحزبي الهرمي قد لا يقبل تولي المرأة الشابة لمنصب القائد الأعلى.
يُضاف إلى ما سبق أن كيم يو جونغ لا تتمتع بالقاعدة المؤسسية التي ورثتها كيم جونغ أون من أبيه، ولم تحظَ بالدعاية السياسية الضرورية التي تؤهلها لسلوك الطريق إلى العرش.
ما سبق يضع كيم يو جونغ في وضع صعب فيما لو تولت الحكم خلفاً لشقيقها، ففي أسوأ الأحوال قد تكون حياتها معرّضة لخطر كبير طالما أن ثمة احتمالية عالية أن يلجأ القادة التقليديون في البلاد إلى خطوات حاسمة للقضاء عليها، و في أحسن الأحوال، قد يُسمح لها بتولي الحكم إسميا، في حين تبقى كافة القرارات المهمة محصورة بالنخبة الحزبية الحاكمة.
ضمن هذين السيناريوهين يبرز اسم تشوي رن هاي، رئيس هيئة رئاسة الجمعية الوطنية العليا، الذي قد يتولى السلطة الرسمية أو السلطة الفعلية (خلف الكواليس) ويقود البلاد بمفرده أو إلى جانب مساعدين آخرين، مع العلم بأنّ الأخير ليس وجهاً جديداً في السياسة الكورية الشمالية، إذ ظل خادماً مطيعاً للعائلة الحاكمة طوال عقود طويلة.
إلى أن تتضح الرؤية من بيونغ يانغ حول وضع “الزعيم المحبوب”، ثمة وقت لمزيد من الفرضيات والتكهنات أو حتى التخيلات بشأن مستقبل الحكم في كوريا الشمالية.