

أن تنزع نحو معالجة تلازمها دعوى علميّة مضادّة في مسألة مفتوحة على الصراع الراهن بكلّ حمولاته وميادينه، هو إبحار بمركب قد يعاند بعض المنطلقات المعرفيّة التي تستكين عند الدعوات التي تأذن للتحليل أن يخوض حصرًا غمار الثابت أو الستاتيك مكتفيًا به، قائمًا على تفسيره بمناهج وأدوات كلاسيكيّة ومناسبة، إلّا أنّ فضيلة البحث الديناميّ المتلازمة مع ديناميّة الواقع تبقى حاجة ملحّة لقدرٍ من الثبات يختلج في معترك حركيّ فاعل بالحياة.
إنّها ضريبة اقتحام لجج الديناميّات المفتوحة على التحوّل مع مغامرة الاستشراف الرصين للمستقبل، كشرط لاكتمال المهمّة البحثيّة ثم إخضاعها لاحقًا للنظر الفاحص والناقد، فثمّة قضايا لا تقف عند حواجز الانتظار، والمفكّر اليقظ هو الذي يتسلّح بقضايا الواقع الناشطة في الاجتماع الإنسانيّ، كجزء من مهمّته المعرفيّة والرساليّة، فلا ينسلخ عنها.
في هذا السياق، وعلى ضوء التواصل مع المفكّر العربيّ، غزير الانتاج، واسع الاهتمام الدكتور عبد الحسين شعبان، أجريت مقابلة[1] معه (5 كانون الأول/ديسمبر 2020) بعد التواصل مع حضرته وتزويده بالأسئلة، وبعد عقد جلسة مهّدت للإجابة عليها بشكل مكتوب ومعمّق واستشرافيّ؛ في إطار العمل على أطروحة دكتوراه بعنوان “إيران والاجتماع السياسيّ الشيعيّ في لبنان – حزب الله أنموذجًا – ديناميّة العلاقة وتحوّلاتها (1979_2021م)”[2]، فإنّ هذه الإضاءات من جناب المفكّر شعبان، وبرغم مرور الوقت المرافق للأحداث والتطوّرات الكبرى، لا سيّما مع عمليّة طوفان الأقصى والمراحل المستمرّة في الحرب التي لم تنته بعد، وقد شكّلت معركة “أولي البأس” إحدى رحاها، والاشتباك المباشر بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والاحتلال الإسرائيليّ ذروتها، فإنّها لا تزال مفتوحة على مزيد من التفاعلات، وفي المقابل لا تزال هذه المقابلة برغم كلّ ما تقدّم سانحة للقراءة والاستفادة والنقد.
اشتملت هذه المقابلة على تسعة أسئلة تمحورت حول الاجتماع السياسيّ الشيعيّ اللبنانيّ في لحمته ومكانته وأدواره منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، من خلال تبيان أهم معالم التغيّر والتحوّل وإجراء القراءة النقديّة لديناميّته إزاء نتائج الثورة والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في علاقتها التفاعليّة معه، والتوقّف عند مفاهيم الهويّة والحداثة والطائفة والطائفيّة السياسيّة والجماعة المتخيّلة، والتمييز بين اللحمة والعصبيّة بتطبيقها عليه، ومعالجة جدليّة نظام الهيمنة والصراعات الدولية والإقليمية من ناحية وفشل الدولة الوطنيّة في البلاد العربيّة من جانب آخر، وخصوصيّة العلاقة بين إيران وحزب الله.
تجدر الإشارة إلى أن المقابلة لم تنشر بتمامها سابقًا، وهي لا تعبّر إلا عن وجهة نظر الدكتور عبد الحسين شعبان. وثمّة أدبيّات جديرة بالنقاش، ومن وجوه النقد التوقّف عند مصطلح “الشيعيّة السياسيّة”، وإعادة إنتاج جوانب من المقاربة انطلاقًا من موقع الخارج الدوليّ والإقليميّ المهيمِن ودوره في العبث بالداخل المحليّ على اختلاف مكوّناته، وإزكائه الفوضى واللعب على التناقضات وإثارة الفتن وتقويض دور الدولة والتحكّم بالتوازنات وقمع حريّة المقاومة والنضال وعمليّات إعاقة حركتها، لكن المقام لا يتسع لذلك، فاقتضى التنويه.
لذلك سيتم الاقتصار على نشر المقابلة كما وردت، من دون أي تدخّل، مع التأكيد على صلاحيّتها في قراءة الجاري من الأحداث بعد مرور أعوام خمسة تقريبًا، وهو ما يفصح عن أهميّتها، وهذا نصّها:
– منذ تأسيس دولة لبنان الكبير وإلى يومنا، ما هي أهم معالم التغيّر والتحوّل التي شهدها الاجتماع السياسي الشيعي اللبناني في لحمته ومكانته وأدواره؟
– لعلّ من أهم معالم التغيير والتحوّل التي شهدها الاجتماع السياسي الشيعي خلال العقود الخمسة ونيّف الماضية هو ظهور حزب الله الذي تأسّس في العام 1982 ودخل معترك السياسة كرقم مهمّ ثمّ رقم صعب منذ العام 1985. وذلك في إطار تبلور تيّار للشيعيّة السياسيّة بدأ يأخذ بُعداً جديداً على يد السيّد موسى الصدر الذي اختفى قسريًّا بعد زيارته إلى ليبيا في العام 1978، وهو الذي عُرف باسم “حركة المحرومين“، التي تُعتبر “حركة أمل” إحدى ورثتها الأساسيّين، وفيما بعد حزب الله، وخصوصاً دوره في مقاومة العدوان “الإسرائيلي” وتمكنّه من نقل العمل الكفاحي المسلّح إلى مستوى يهدّد فيه “إسرائيل” لا يردعها فحسب، الأمر الذي اضطرّت معه إلى الانسحاب من الأراضي اللبنانية في العام 2000، وهكذا تم تحرير الجنوب اللبناني دون قيد أو شرط، ويعتبر ذلك انتصاراً حقيقيًّا لقوى المقاومة.
أمَا معالم التغيير الأخرى فيمكن تلمّسها عمليًّا وقانونيًّا من خلال وثيقة الطائف، التي تمّ الاتفاق عليها بين المجموعات اللبنانية المُحتربة لعقد ونصف من الزمن (1975-1989)، وقد حظيت هذه الوثيقة (الميثاق) بدعم إقليمي ودولي بارزين، لإنهاء الحرب الأهلية والبدء بمصالحة لإعادة بناء ما خرّبته الحرب، لا سيّما بإجراءات انتقالية، وقد عبّرت الوثيقة عن المناخ الإقليمي والدولي العام الذي كان يميل إلى التوافق، وهو ما سهّل صياغتها وإقرارها ووفّر الدعم العربي والدولي اللازم لها، وكانت بوادر ذلك توافق سوري سعودي مدعوم من جانب القوى الدولية الكبرى، ولا سيّما الولايات المتحدة، بتعهد من لجنة ثلاثيّة مغربيّة، جزائريّة، سعوديّة وبموافقة جماعيّة عربيّة، على انفراد أو باجتماع.
وقد صادق على مضمون اتفاق الطائف مجلس الأمن الدولي في 17/11/1989، و22/11/1989 بهدف تحقيق “تسوية للأزمة اللبنانية بكل جوانبها مع ضمان سيادة لبنان الكاملة واستقلاله وسلامة أراضيه ووحدته الوطنية”.
وكان البرلمان اللبناني قد صادق على وثيقة الوفاق الوطني في جلسته المنعقدة بتاريخ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 بالإجماع؛ ودخل الاتفاق سياق التعديلات التي تناولها الدستور اللبناني اعتباراً من 21 أيلول (سبتمبر) 1990، واعتبر اللبنانيون بشكل عام، قانونيًّا وسياسيًّا أنّ “لا شرعيّة لأي سلطة تناقض العيش المشترك”؛ وهذا على الأقل من الناحية النظرية يمثّل جوهر اتفاق الطائف.
وعلى الرغم من الأهمية السياسية والقانونية لهذا الاتفاق، فإن القوى والأحزاب والفاعلين السياسيين والمدنيين جميعهم حين يستعيدون الاتفاق فإنهم لا ينسوا أن يوجّهوا النقد له، أمّا لعدم تطبيقه أو للتغوّل عليه أو لاستمرار الطائفية السياسية أو لعدم إجراء مصالحة حقيقية بما فيها اعتماد قواعد العدالة الانتقالية التي تقوم على المساءلة وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا أو عوائلهم وإصلاح النظام القانوني والقضائي وأجهزة إنفاذ القانون.
لقد كان اتفاق الطائف خريطة جديدة جيوسياسية أفرزت واقعاً جديداً ديموغرافياً وسكانيًّا وطائفيًّا ودينيًّا جديداً على أساس توازن قوى جديد، وهو الشيعيّة السياسيّة متمثلة بـحزب الله أولاً وحركة أمل ثانياً (الثنائي الشيعي كما سيسمّى لاحقاً)، وهو ما ظهر في حرب تموز (يوليو) 2006 في مواجهة العدوان الإسرائيلي، أو أحداث 7 أيار (مايو) العام 2008 أو في الحضور الفاعل لحزب الله في الساحة اللبنانية الممتد إقليميًّا، ولا سيّما إلى سوريا خلال مواجهة حركة الاحتجاج والأعمال الإرهابية، ناهيك عن تحالفه مع إيران على نحو مُعلن في إطار ما سُمّي بمحور المقاومة، ودوره في التحالف الداخلي مع التيّار الوطني الحر بقيادة الرئيس ميشال عون، لدرجة أنه أصرّ على رئاسته للجمهورية، بل إنّ الرئاسة ظلّت معلقة لنحو سنتين قبل أن ترسي على عون بناء على قرار حزب الله الذي اضطرّ الفرقاء للامتثال له.
– ما هي أهم النتائج المباشرة وغير المباشرة (وانعكاساتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية) للثورة والجمهورية الإسلامية الإيرانية في علاقتها مع لبنان وكيف تطوّرت؟
– دون أدنى شك أن الاجتماع السياسي الشيعي اللبناني تأثر على نحو كبير بالموجة الإسلامية الجديدة التي أعقبت الثورة الإيرانية الإسلامية العام 1979، تلك التي ترافقت مع صعود تيار ديني على المستوى العالمي، سواء في أمريكا اللاتينية أو أوروبا أو آسيا أو إفريقيا.

لقد انعكست نتائج الثورة الإيرانية بشكل مباشر أو غير مباشر على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية اللبنانية، لا سيّما سكان المناطق الشيعية، وخصوصاً في الجنوب اللبناني ولما له علاقة بمقاومة “إسرائيل”، ناهيك عن تعزيز دور الشيعية السياسية وحضورها بما حظيت به من دعم إيراني، بعد تأسيس حزب الله، بل أنه أثرّ على العلاقات اللبنانية- الإيرانية، وبشكل خاص في فترة الوجود السوري في لبنان وما بعدها.
وإذا كان مثل هذا الدور إيجابياً لبعض اللبنانيين، فإنّ وجهاً آخر سلبياً يتبدى للبنانيين آخرين، ناهيك عن بعض القوى المتنفّذة في العلاقات الدولية، وخصوصاً الولايات المتحدة والعديد من حلفائها الذين يصنفون حزب الله باعتباره “منظمة إرهابية”، بل ويلاحقون بعض أعضائه ويتّهمونهم القيام بعمليات إرهابية لصالح إيران، فضلاً عن اتهامات خليجية على هذا الصعيد.
لعلّ من أكثر القضايا التي تثير حساسية الجهات المعادية لحزب الله هو السلاح والأعمال العسكرية، وتصَرّ هذه الجهات على نزع سلاح حزب الله، في حين أن الحزب والقوى المؤيّدة له والداعمة للمقاومة تضع السلاح ضمن معادلة: المقاومة، الجيش، الشعب، وتعتبرها قضيّة مصيريّة مترابطة.
لا شكّ أنّ موضوع العلاقة معقّد جدًّا على صعيد الدولة والامتداد الأيديولوجي العقائدي الطائفي الشيعي مع إيران، فالدولة يُفترض أن تقرّر الحرب والسلم، وأن يكون الجميع خاضعاً لها ولقوانينها وسيادتها وليس هناك مرجعيّة تعلو عليها. أمّا المقاومة فتعتبر قضية التحرير ومواجهة “إسرائيل” حقّاً لها، خصوصاً إذا كانت الدولة غير قادرة بظروفها الحاليّة على تنفيذ مثل هذا الاستحقاق الوطني والعروبي والإسلامي، بوجود خطرٍ على لبنان ووحدته من جانب “إسرائيل” وعدوانها المتكرّر، وهو ما يجعل الوضع اللبناني عائماً إن يتمكّن اللبنانيون من ترتيب معادلة جديدة وتوافق جديد يعزّز ميثاق الطائف ويدعم سلطان الدولة وسيادتها ويحمي المقاومة وتوجهاتها بوضعها في إطار الدولة وليس في تعارض معها.
– ما هي قراءتكم النقدية لدينامية الاجتماع السياسي الشيعي في لبنان (١٩٧٩-٢٠٢٠)؟
– الحديث عن المقاومة اللبنانية وحزب الله تحديداً ينقل المتحاورين إلى جانب عاطفي باتخاذ مواقف منحازة مسبقاً، فالمؤيّدون يعتبرون المقاومة “شرف لبنان” التي أعادت له مجده وشموخه، خصوصاً بدحر العدوان “الإسرائيلي” وإجبار الآلة الحربية “الإسرائيلية” على الانسحاب بعد خسائرها المنكرة التي تعرّضت لها في الأرواح والمعدّات، ومادّياً ومعنويًّا.
أما المعارضون، حتى وإن اعترفوا بدور حزب الله في التحرير وموضوعياً، فهم يعتبرونه “دولة داخل الدولة”، وبالتالي فإن السيادة ستكون موزّعة أو مجروحة، ناهيك عن غياب وحدة القرار، يضاف إليه أن جزءًا من هذه السيادة سيكون التحكم به لصالح قوى إقليمية والمقصود إيران بالدرجة الأولى لتحالفها مع حزب الله، وتلك معضلة حقيقية.
لقد اضطرّت “إسرائيل” الرضوخ للقرار 425 الصادر في 1978 وانسحبت من معظم الأراضي اللبنانية باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، لذلك بات من الضروري بعد العام 2000 إثارة نقاش هادئ وموضوعي حول مستقبل المقاومة ودورها في العملية السياسية الداخلية. وتستحق الظاهرة اللبنانية في المقاومة دراسة خاصة تضاف إلى حربي التحرير في الجزائر وفيتنام وغيرهما لاستخلاص الدروس والعبر أولاً، وثانياً، وضع الأسس لاندماج المقاومة في عملية البناء وفي التوازن السياسي اللبناني والعسكري الذي يطمح إليه العرب، فهذا البلد الصغير حقّق ما لم تتمكّن دول وجيوش كبرى من تحقيقه لهزيمة “إسرائيل”، فما السبيل لتحويل تلك النجاحات لدعم العيش معاً والعيش المشترك والعيش بسلام ومواجهة الفساد ووضع ميثاق الطائف موضع التطبيق والتوجّه لترسيخ الحرّيات وتعميق الممارسة الديموقراطية، لا سيّما برّد الاعتبار للدولة ومؤسساتها وهياكلها وتراكيبها ولحكم القانون الذي ينبغي أن يسري على الجميع؟ وحسب مونتسكيو “القانون مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً”.
لقد وُلدت المقاومة بعد مرحلة فوضى مسلّحة إبان الحرب الأهلية الذي اتّسمت بوجود فلسطيني وإثارة حساسيات لبنانية فلسطينية، الأمر الذي جعل الانضباط الصارم أساساً في تشكيلاتها، وخصوصاً في مواجهة العدو ولكن ماذا بعد؟ ومن له العُلوية في المرجعية أهي للدولة أم للحزب؟ وكيف السبيل للتوفيق بين المشروعية القانونية والمقصود بذلك حكم القانون وبين الشرعية السياسية والمقصود بذلك رضا الناس والمنجز المتحقق على صعيد التنمية؟
– كيف تطور مفهوم الهوية لدى الشيعة في لبنان (١٩٧٩-٢٠٢٠)؟
– تبقى مسألة الهُويّة ذات بُعد إشكالي، لا سيّما بصعود الهّويات الفرعية وتقدّمها على الهُويّة العامة الجامعة، وقد حدث ذلك على نحو عالمي بعد انهيار جدار برلين بشكل خاص في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وانتهاء عهد الحرب الباردة بشكلها الذي استمر منذ الحرب العالمية الثانية، لا سيّما الإطاحة بالأنظمة الشمولية في الدول الاشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية وتحلّل الاتحاد السوفيتي، حيث انبعثت الهُوّيات على نحوٍ محموم ولدرجة التذرّر أحياناً.
الهُويّة ليست ثابتة أو كاملة أو نهائيّة، وبالتالي فهي ليست مقفلة وغير قابلة للإضافة والحذف والتطور. إنها متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة، خصوصاً إذا ما توفرت ظروف جديدة وأوضاع سياسية جديدة وبُنية جديدة. والهُويّة تتمثل بعناصر معرفية ونسق معتقدات وقِيم ومعايير.
ويمكن القول أن هناك ثلاثة مستويات لتتشكل الهُويّة:
الأولى، الفردي، ولكلّ فرد هُويّته وخصوصيّته.
الثاني، الجماعي أو المجتمعي وتمثّل المشترك الذي تشعر به الجماعة الإنسانية: قومياً، دينياً، لغوياً.. إلخ.
الثالث، الوطني والقومي، بمعنى الانتماء الأوسع، وهو انتماء طبيعي لرابطة وجدانية أوسع وأشمل حيث تجمع أبناء الوطن والأمة الواحدة مشتركات عديدة. وقد يكون أساسها اللغة والدِّين، إضافة إلى التاريخ والمزاج المشترك والمصالح المشتركة والعادات والتقاليد والأدب والفنون وكل ما يتعلق بحياة الشعوب والأمم والجماعات الإنسانية.
وإذا كانت ظاهرة الهويّات الفرعية قد انتعشت في العالم وفي أوروبا أيضاً، فيمكنني أن أسجَل ظاهرة مختلفة ومتميزة وهي توجّه الألمان نحو الوحدة والتحاق ألمانيا الديموقراطية بألمانيا الاتحادية، على عكس الدول الموحّدة التي تشظّت وانشطرت وتصارعت هُويّاتها.
الهُويّة إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشريّة قوميّة أو دينيّة، مجتمعاً أو أمّة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات “إنها معرفتنا.. بما، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة”.
الهُويّة بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عن سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور الهُويّة بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدّد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شكّ تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر، وهو ما جئت على ذكره في كتابي “الهوية والمواطنة-البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة”.
إن شعور جمهور واسع ينتمي إلى الطائفة الشيعية بالتهميش في إطار الدولة اللبنانية منذ تأسيسها، هو الذي جعل الشيعية السياسية تلعب على هذا الوتر الحساس، بل تعزف ألحاناً صاخبة عليه، وهو الأمر الذي استخدم في العراق بعد احتلاله بشكل خاص العام 2003، والهدف جعل قوى واسعة تحت نفوذها بزعم الدفاع عن “هويتها” الخاصة “الشيعية” بتقديمها على الهوّية العامة اللبنانية أو العربية، وأحياناً تتقدم الهُوّية الدينية أو المذهبية على الهُوّية الوطنية الجامعة، والأمر لا يتعلق بالشيعية السياسية فحسب، بل السنية السياسية والمسيحية السياسية والدرزية السياسية ويمتد الأمر إلى تعيين الطوائف والتكوينات.
لقد تكرّست المسألة عن طريق العُرف ومع تواتر الاستخدام صارت أقرب إلى القانون غير المكتوب، فرئيس الدولة: مسيحي ماروني ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي ورئيس الوزراء مسلم سنّي، وهكذا أصبح نظام المحاصصة الغنائمية من فوق إلى تحت ومن أعلى المستويات حتى أدناها، لدرجة أن بعض الشخصيات غير الطائفية لا تجد مكانها إلّا بالانضواء تحت طائفتها حتى دون قناعة منها أو إيمان بها، لأن ذلك السبيل الوحيد الذي يضمن لها الحصول على المواقع و(الامتيازات) حتى لو كانت على درجة عالية من الكفاءة، لأن الولاء قبل الكفاءة هو الأمر الذي يمكن ملاحظته أيضاً على نحو صارخ عراقيًّا.
– ما هو تمييزكم بين اللحمة والعصبية، وكيف تطبقونه على الحالة الشيعية اللبنانية بمكوناتها ومسارها؟
– اللُحمة تعني التساند والتعاضد والتضامن والتفاعل الإنساني، وتلك أمور طبيعية حين يدعم الإنسان أبناء جلدته ويقف معهم في مصائبهم ومحنهم من جهة ولتحقيق أهداف إنسانية تجمعهم من جهة أخرى، وقد تكون تلك اللُحمة على أساس وطني أو ديني أو قومي أو لغوي أو اجتماعي أو لأيّ سبب كان، وكل إنسان ينتمي إلى دِين أو طائفة أو لغة أو وطن حتى دون اختياره أو إرادته، فقد وُلد ووجد نفسه في هذا الإطار، فالذي يولد في لبنان ومن أبٍ أو أمّ لبنانية سيكون لبنانياً وكذلك الذي يولد في فرنسا سيكون فرنسياً وفي السويد سيكون سويدياً وفي الصومال سيكون صومالياً، وهكذا الذي يولد ويجد نفسه مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو بوذياً أو غير ذلك، لكن هناك فرق كبير بين الطائفة والطائفيّة، أي بين اللُحمة والعصبيّة.
الطائفة نشأت في ظل تطور تاريخي ومعتقدات وعقائد واجتهادات لانقسامات فقهية، في حين أن الطائفية تسعى للتسّيد أو التمايز؛ ويتعصّب أفرادها لطائفتهم ويحاولون التقليل من شأن الآخرين بزعم امتلاكهم الحقيقة أو الأفضليات، بل أنهم “الفرقة الناجية” وهم أقرب إلى الجنّة، إن لم يكونوا “سدنتها” ومالكي مفاتيحها التي تعطيهم “حقّ” الشفاعة للآخر، وهذا ما هو سائد أحياناً في إطار التنابزات الطائفية.
وبفعل الاضطهاد أو التهميش، خصوصاً حين يكون معتّقاً لزمن طويل يشعر أبناء طائفة ما ولاعتبارات سياسية بالاستلاب والمظلومية، التي تستخدم قانونياً أو حقوقيًّا للدفاع عن “الطائفة” أو للتسيّد على الآخر بمبرّرات واهية، في حين يحاول بعض أبناء الطائفة المتسيّدة الدفاع عن مواقعهم بزعم “الأغلبية” أو “الحق التاريخي”، وفي الحالين فالأمر ينجم عن التعصب وهذا يقود إلى التطرّف الذي هو ابن التعصب، وإذا ما تحوّلت الفكرة إلى ممارسة فإنها ستقود إلى العنف، وهذا الأخير يعرف الضحيّة بذاتها ويمارس العنف ضدّها لذاتها، لكنه يمكن أن يتحوّل إلى إرهاب وإرهاب دولي حين يضرب عشوائياً بهدف خلق حالة رعب في المجتمع وهلعٍ لدى الأفراد لزعزعة مكانة الدولة وإضعاف الثقة بها على صعيد المجتمع والفرد.
الرابطة الوجدانية وتجليّاتها الحقوقيّة والقانونيّة هي التي تشكّل البديل الموضوعي للعصبيّة الدينيّة القوميّة أو الطائفيّة أو الإثنيّة أو اللغويّة أو الحزبيّة أو السياسية أو العشائرية أو المناطقية، لاسيّما إذا قامت على المواطنة، وهذه الأخيرة تستند إلى أربعة أركان أساسية هي: الحرية، فلا مواطنة دون حريات، والمساواة، حيث ستكون المواطنة مبتورة وناقصة دون حريات، والعدالة، إذ ستكون المواطنة مشوهة دون عدالة، خصوصاً العدالة الاجتماعية، حيث لا مواطنة حقيقية وفاعلة ومتكافئة مع الفقر والتفاوت الاجتماعي والطبقي الحّاد؛ وتعتبر الشراكة والمشاركة من أركان المواطنة، حيث ستكون المواطنة معطوبة أو مجوفة دون المشاركة وتكافؤ الفرص بعيداً عن التمييز لأي سبب كان، سواء لأسباب دينية أو قومية أو جنسية أو لغوية أو لونية أو سلالية أو تتعلق بالأصل الاجتماعي.
– ثمّة من يرى أن الحداثة والطائفية السياسية جعلتا من الطائفة كيانات سياسية – اجتماعية وجماعةً متخيّلة كبنية اجتماعية وفكرية مهيمنة على الأفراد، وأدخلت “العامة” في المجال السياسي، هل توافقون على ذلك أم أن هذا المتخيل قديم (العصر النبوي انموذجًا) الا ان الحداثة ابرزته وفعّلته؟
– حين نتحدث عن الحداثة، فالمقصود بذلك العقلانية والحرّية والديموقراطية والعلمانية، وهي التي جسدّت الحداثة الأوروبية، وإن كانت سياقاتها وتعبيراتها مختلفة عن عالمنا العربي والإسلامي، وليس بالضرورة المرور بنفس المراحل التي مرتّ بها الحداثة الأوروبية وإن كان هناك جوانب مشتركة تتعلق بالإنسان وحرّياته وحقوقه العامة التي تخص البشر والكرامة الإنسانية.
الاختلاف الأمر الطبيعي في مسار التطوّر الإنساني، ويمكنني القول أن صدمة الحداثة كان وقعها عربيًّا وإسلامياً مختلفاً عن وقعها أوروبياً، فقد كانت أُولى تجلياتها باللحظة الكولونياليّة منذ بدايات حملة نابليون على مصر قبل ما زيد عن قرنين من الزمان.
ثم جاءت فترات الاحتلال والانتداب والامبريالية، وكانت هذه الصدمة الثانية، أما الصدمة الثالثة، فكانت هزيمة حزيران (يونيو) العام 1967 التي كرّست الصدمة الثانية، لا سيّما يوم تمّ اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها وطردهم من ديارهم، وأستطيع القول إن الصدمة الرابعة كانت بعدما سمّي بالربيع العربي حتى تزاحمت تيارات مختلفة قديمة وجديدة على المشهد السياسي، ناهيك عن محاولات اختراق جديدة لإبقاء القديم على قِدَمه ومنع تقدّم البلاد العربية بوسائل جديدة.
علينا النظر إلى الحداثة من منظور حيوي وغير جامد يعكس هُويّتنا التاريخية من جهة ويتفاعل مع التطوّر الكوني من جهة أخرى، دون نسيان التوجّه الامبريالي للحداثة ذات الوجهين المتناقضين السلبي والإيجابي، فالأول الاستبدادي، الاستعلائي والعنصري، المرفوض من قبلنا، والثاني العقلاني المدني الحضاري الذي يمثل قيم الجمال والحرية والعمران والتقدم العلمي والتكنولوجي وخير ما أنجبه الإنسان في تاريخه من تطور، لا سيّما في العقود الخمسة الماضية التي جعلت العالم يدخل بسرعة مذهلة في طور الثورة الصناعية الخامسة بفضل ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية “الديجتيل” والذكاء الاصطناعي.
لقد كان الطور الأول من حداثتنا على المستوى الفكري هو ما جسدّه محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد حسين النائيني وغيرهم الذين مثّلوا النهضة الأولى القائمة على إعلاء شأن الدولة على حساب العصبيات الضيقّة واعتبار الاستبداد أُسّ البلاء والاستفادة من التطور العلمي لا سّيما في بناء الدول، وليس غريباً أن يعبّر محمد عبده وهو الشيخ الأزهري بعد زيارته الى باريس في العام 1881 لحضور مؤتمر عن رأيه بقوله الشهير “ذهبت الى الغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولمّا عدتُ الى الشرق وجدت مسلمين، ولكن لم أجد إسلاماً”، وقبله عاش رفاعة الطهطهاوي في باريس من العام 1826 ولغاية العام 1831 وفي العام 1834 صدر كتابه الشهير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” مبدياً إعجاباً بالنظام السياسي القائم على الحرّية واحترام المرأة، فنادى بإنشاء مجلس نيابي وتعليم المرأة (البنات) مشخّصاً إمكانيّة أن نستفيد من التكنولوجيا دون التخلّي عن هُويّتنا الثقافية والدينية.
وللأسف ثمّة قطيعة أبستمولوجية حصلت بفعل الإمبريالية التي حاولت ترويض شعوبنا التي واجهتها بكل ما تستطيع لنيل استقلالها وحقّها في تقرير مصيرها، ولم يكن ذلك بعيداً عن حداثتها أيضاً، الأمر الذي أنتج هوّية حذرة أو مناوئة لمناهج الغرب بما فيها الإيجابية أيضاً في بعض الأحيان، ولعل الانفتاح اليوم بفعل عولمة الثقافة وعولمة الحقوق وعولمة العلوم، يتطلب رفداً جديداً لحداثتنا المستند إلى هوّيتنا وخصوصيتنا دون التحلل من الاستحقاقات العالمية والمعايير الحقوقية الكونية، ما فيها منظومة القيم الكونية لحقوق الإنسان.
[1] تعدّ هذه المقابلة واحدة من عشرات المقابلات التي أنجزت في سياق العمل على أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه اللبنانيّة في العلوم الاجتماعيّة، بعنوان “إيران والاجتماع السياسيّ الشيعيّ في لبنان – حزب الله أنموذجًا-ديناميّة العلاقة وتحوّلاتها (1979_2021م)” الحائزة على درجة جيّد جدًّا، بإشراف الأستاذة الدكتورة هدى رزق لدى المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. وقد شكّل الاعتماد على تقنيّة المقابلة والمراسلة والحوار مدخلًا أساسيًّا من مدخلات أخرى تم الاستناد إليها بعد معالجتها وفق التحليل الكيفيّ، وقد وفّرت 90 مقابلة ومراسلة وحواراً أجريت مع 46 شخصيّة مادةً غنيّة، لم تعرض بمادتها الخام، وهي بما انتهت إليه لا تتوافق بالضرورة مع مضامين المستجوبين من أصحاب الفكر والخبرات على اختلاف مواقعهم وأدوارهم وبلدانهم واتجاهاتهم المعرفيّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، إنما تعبّر عن القناعة التي رسا عليها البحث العلميّ وفق قواعده.
[2] أجملت الأطروحة مسعاها معتمدة على المنهج التاريخيّ، في فهم سيرورة الاجتماع السياسيّ الشيعيّ اللبنانيّ المرتكزة على “الزعامة السياسيّة” و”علماء الدين” و”القوّة العسكريّة”، استنادًا إلى أرضية دينيّة ممتدّة الجذور تحت تأثير يتفوّق به الزعماء على العلماء أحيانًا، وأخرى غير دينيّة طارئة بموجب تأثير الحركات اليساريّة والقوميّة ذات الطابع العلمانيّ. ثم تطوّرت تلك السيرورة من خلال موقع إيران الإسلاميّة ودورها من هذا الاجتماع السياسيّ وتفاعلها معه، حيث تعدّدت القراءات حول طبيعة العلاقة بين إيران وحزب الله بين من يراها وظيفيّة تقوم على التبعيّة السياسيّة والارتباط المباشر بسياسة إيران في لبنان والمنطقة، بدعوى اتخاذ إيران حزبًا لها في لبنان دون سائر الشيعة واللبنانيّين، وبين من يدحضها ويعتبرها تفاعليّة تتكامل بالتمايز بين طرفيها للتصدّي إلى قضيّة مشتركة وعدوٍ واحد.
(*) غداً الجزء الثاني والأخير