يا أرض اشتدِّي!

في مرجٍ أخضر، كان يعيش ضفدع ضخمٌ وفخورٌ بحجمه كثيراً، كما تقول الحكاية. سمع الضفدع يوماً الحشرات تتحدّث عن ثورٍ ضخم ومهيب الحجم، يقطن في الجوار، فصرخ: "كيف يمكن أن يكون هناك أيّ مخلوق أكبر منّي في العالم كلّه؟" وصادف أنْ رأى الضفدع هذا الثور مرةً، فسأل اليرقات: "هل هذا هو الوحش الضخم"؟ فردّت بخوف: "نعم". فقال بسخرية: "أنا أستطيع أن أكون بضعف حجمه إنْ أردت، شاهدوني". وأخذ الضفدع نَفَسَاً كبيراً جدّاً جدّاً جدّاً، وبدأ ينفخ وينفخ وينفخ، ومن ثمّ يكبر ويكبر ويكبر. وفجأة! دوّى صوت فرقعة. لقد انفجر الضفدع المسكين... بعدما كَبُر ادّعاؤه وأصبح أضخم من حجمه.

هذه القصّة كتبها الأديب الفرنسي الشهير Jean de La Fontaine، وضمّنها كتابه المؤلَّف من 234 أسطورة وحكاية، مسرودة أو محكيّة، بألْسِنة الحيوانات، ويهدف القاصّ، من خلالها، أن يوصل حِكمةً ما إلى القارئ، كما يقول لافونتين: “أنا أستخدِم الحيوانات لتعليم البشر”.

لقد حضرتني هذه القصّة جرّاء اندلاع موجة الهستيريا على السوشيل ميديا، عقب تصريحٍ لعقيلة رئيس الحكومة اللبنانيّة، على هامش استضافتها في برنامجٍ على أثير “إذاعة لبنان” الرسميّة. فبعد صمتها دهراً، نطقت أستاذة الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركيّة في بيروت كفراً، عندما قالت جملتيْن مفادهما: “يوجد عددٌ كبير من العاطلين عن العمل بين الشباب اللبناني. لذا أدعو الشابات إلى العمل في تنظيف المنازل بدل الأجنبيّات، وأدعو الشبّان إلى العمل في الأرض وفي حراسة المباني ومحطّات الوقود وقطاع النفايات”.

أثار هذا التصريح، الذي وُصِف بالغريب (؟)، موجة استنكارٍ عارمة بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي؛ فالبعض اتّهم السيّدة دياب بالاستهتار وعدم المبالاة بأوضاع الشباب الجامعيّين اللبنانيّين الذين استحصلوا على الشهادات العليا، لكنّهم باتوا، “بفضل” سياسات حكوماتهم، عاطلين (مُعَطَّلين؟) عن العمل. أمّا البعض الآخر، وغالبيتهم من “كبار القوم” بالمفهوم اللبناني للكِبَر طبعاً، فبدأ الردْحيّات حيال تجاهُلها لمستواهم الاجتماعي “الراقي” الذي يأبى “الأعمال الوضيعة” المشار إليها في التصريح: “نحن اللبنانيّين أولاد ناس وتلاميذ AUB ومش نحنا يلّي منشتغل شغّالات بالبيوت ونواطير بنايات”! هذه خلاصة السجالات وزبدة الاحتجاجات.

وردّاً على هذه الهجمة لاستعادة “الكرامة المهدورة”، شُنّت حملة “تواضُع”، عكسيّة، من قِبَل أشخاصٍ بلغوا المراتب العلميّة أو الوظيفيّة العالية، بفضل الأعمال البسيطة التي عبّدوا، عبرها، دروب المهن، ولما أُطْعِمَت أفواهٌ جائعة، لولاها، أو تحقّقت طموحاتٌ جامحة. غريبٌ أمرُ هذا الـ لبنان واللبنانيّين!

حديث المسؤولين الأغنياء في لبنان (كلّهم أغنياء؟) عن الفقر والحرمان والعذاب في الصغر، لا يمتّ للتواضع والواقعيّة والعصاميّة بصلة، بل إنّه مجرّد نوع من الفانتازيا، يساعدهم في حشد الإعجاب أو التحوّل إلى “تراند” و”ستايليش” تدللّ إليهم قلوب الـ”الفانز” قبل أصابعهم

كان رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري يتباهى على شاشات التلفزة، بأنّه، في صغره، كان يعمل (لقاءَ أجْر قليل) في قطاف الليمون في بساتين صيدا، ويروي كيف استدان مبلغ بطاقة سفره إلى السعوديّة حيث تكفّلت عشر سنواتٍ من العمل القاسي في كنف المملكة، بجعله من بين العشرة أشخاص الأكثر ثراءً في العالم! لكنّ الحريري، بالتأكيد، لم يكن ليقبل، قطعاً، بأن يقوم أحد أبنائه بالأعمال “الهزيلة” التي كان يقوم بها شخصيّاً (ربما كانوا قد أفلحوا في هذه الأعمال أكثر من فلاحهم في إدارة الشركات والأنصار؟). من هنا نفهم، أنّ حديث المسؤولين الأغنياء في لبنان (كلّهم أغنياء؟) عن الفقر والحرمان والعذاب في الصغر، لا يمتّ للتواضع والواقعيّة والعصاميّة بصلة، بل إنّه مجرّد نوع من الفانتازيا، يساعدهم في حشد الإعجاب أو التحوّل إلى “تراند” و”ستايليش” تدللّ إليهم قلوب الـ”الفانز” قبل أصابعهم.

لولا انشغال اللبنانيّين، هذه الأيّام ولحسن الطالع، بالجائحة والحجْر الكوروني والتعبئة العامّة والغلاء وأسعار الدولار والأموال المنهوبة والمعابر السائبة واجتياح الصراصير الطيّارة لسماء عرسال و”حروب الوردتيْن” بين زعمائهم الأشاوس و…، لكنّا شهدنا، بلا ريب، على سيلٍ من الهاشتاغات المندّدة بـ”السيدة الثالثة” في الجمهوريّة اللبنانيّة أو المتفهّمة لكلامها، على غرار: #ناطور بناية_وأفتخر، #عاملة_منزليّة_لي_الشرف، #مش نحنا_يا_سيّدة_دياب_الخَدَم، #لبنانيون_لا_بنغلادشيّون، #متعلّمون_لا_زبّالون… وهكذا، (والله أعلم). لكن، لماذا غضب الغاضبون من هذا التصريح؟ بضعة ملاحظاتٍ في محاولة للإجابة:

أولاً، لأنّ الكلام صدر عن شخصيّة ذات صلة وثيقة بالسلطة؛ فالمتحدِّثة هي زوجة رئيس الحكومة والقائم بالمهمّات المستحيلة، والذي لم يتقدّم قيد أنملة، حتى اللحظة، في محاسبة مسؤولٍ واحد، من بين المسؤولين الكُثر، عن الأزمات الاقتصاديّة والنقديّة والاجتماعيّة، وفي مقدّمها أزمة البطالة والعمالة في لبنان. وكأنّني بهؤلاء الغاضبين يقولون: أهكذا تُحلُّ أزمة الاقتصاد في البلد يا سيّدة؟ بأن تحلّ اليد العاملة اللبنانيّة محلّ اليد العاملة الأجنبيّة؟ أهكذا نحمي دولاراتنا من التهريب؟ ماذا فعل زوجك ووزراؤه مع التحويلات بالعملات الصعبة إلى الخارج؟ أهؤلاء العمّال هم مَن استنزف البلاد؟ أم ناهبوه من السياسييّن والمصارف وأمراء الحرب؟

“عشق المظاهر”، هو المرض الحقيقي الذي يعاني منه المجتمع في لبنان، وهو أحد أسباب الإعضال في البنية اللبنانيّة، بحيث أنّ ما تخفيه المواربات في الاجتماعيّات في هذا البلد، يُبطِل كلّ مسعى من مساعي الإصلاح الحقيقي

ثانياً، تطلب السيّدة دياب من اللبنانيّين، من دون أن تقول لهم، بأنْ يستعدّوا للعمل، فقط، في وظائف شاغرة في بعض المهن غير الجيّدة، كونها غير محميّة من قوانين عادلة، ولا توليها الدولة، تاريخياً، أيّ اهتمام أو رعاية، وظروف العمل فيها لا تليق بالكرامة الإنسانيّة. إضافةً إلى أنّ الرواتب المخصّصة لعمّال وعاملات المنازل، أو لعمّال التنظيفات وحراسة المباني (باختصار كلّ الوظائف التي تُستقدَم إليها العمالة الأجنبيّة من دولٍ محدّدة) هي، بالإجمال، رواتب زهيدة، لا تعبّر إلاّ عن فظاعة إساءة لبنان لذوات العمّال وكرامتهم.

إقرأ على موقع 180  من تواطأ مع "الغوغاء" لإقتحام الكابيتول وما هي النتائج؟

ثالثاً، ينظر معظم أهل لبنان نظرة استعلائيّة وإقصائيّة وعنصريّة حيال نوعيّة العمل التي يقوم بها الفرد اللبناني، إذْ إنّ ممارسة بعض الأعمال كفيلة بتصنيفه طبقياً وطائفياً حتى؛ مثلاً، لا يقبل اللبنانيّون (من فصيلة “نحن تلاميذ AUB” إيّاها)، أن يمتهنوا المهن التي نصحت زوجة رئيس الحكومة الشابات والشبّان امتهانها، حتى ولو كان هؤلاء “المتشاوفون” لا يتمتّعون بالكفاءات أو المهارات المطلوبة لمهنٍ أخرى. فكأنّي بهم يسألون السيّدة دياب: هل تقبلين أن يعمل ابنك أو ابنتك في قطاع النفايات والتنظيفات؟ فهُما لم يحصلا على شهادات أفضل من شهاداتنا، ولم يترعرعا على قيمٍ وشيمٍ أفضل ممّا تربّيْنا عليه!

رابعاً، تكمن المشكلة الأعمق، في مسألةٍ أخطر، باعتقادي، تعود إلى طبيعة الاجتماع اللبناني؛ فـ”عشق المظاهر”، هو المرض الحقيقي الذي يعاني منه المجتمع في لبنان، وهو أحد أسباب الإعضال في البنية اللبنانيّة، بحيث أنّ ما تخفيه المواربات في الاجتماعيّات في هذا البلد، يُبطِل كلّ مسعى من مساعي الإصلاح الحقيقي. فاللبنانيّون أشدّ الأقوام حرصاً على استقامة الظاهر، إذْ تغلب عليهم في اجتماعيّاتهم ذهنيّة المظهر الخارجي، لكونهم يخافون، وكثيراً، من الكشف عن حقيقة بواطنهم. هم يعلمون أنّهم في قعر الأقعار، لكنّهم مع ذلك، يصرّون على ادعاء الغلبة والفلاح في كلّ تدابير الوجود؛ فنرى الجميع في سباقٍ على أفضليّة اللباس والسفر والسيّارات والخروج إلى المطاعم ومنتجعات السهر وشراء الهواتف الأحدث والمزايدات من خلال “العطاء والهبات” العلنيّة. ذلك أنّ جميع اللبنانيّين يعلمون جيداً، أنّ الخلل البنيوي في مجتمعهم بات يذهب في “بضاعتهم الوطنيّة” وقوامهم الوجودي كلَّ مذهب، إلى أن أضحت شؤونهم الذاتيّة والجماعيّة، بمعظمها، “مبعثاً للسخافة ومرتعاً للركاكة ومجلباً للتفاهة”، على حدّ تعبير المفكّر اللبناني وأستاذ الفلسفة مشير عون.

كلمة أخيرة. يقول مثلٌ في بلاد الباسك الإسبانيّة: “قد ينفخ الغرور والإدّعاء رجلاً إلى حدّ الامتلاء، لكنّه لا يرفعه، بأيّ حال، إلى الأعلى”. لكنّ هذا الرجل قد ينفجر، ليلقَى مصير ضفدع صديقنا لافونتين. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  «شباب الثورة" و"عواجيز يناير».. صراع أجيال مبكر!